الرمزيّة في رواية "بنسيون في
الشّارع الخلفيّ"
- بين التّحليل
السّرديّ والتّأويل الفلسفيّ –
بقلم. أ.د. سعاد
بسناسي- جامعة وهران1، الجزائر
قبلَ البدءِ أقولُ:
(الحياةُ رقصةُ ظلٍّ ونورِ، فيها ما يُقال
وما لا يُقال، ما يُرى وما يُحسّ؛ هي مرآةٌ تُحدّق فينا بوجوهٍ لا تُحصى، وفي
صمتها همسُ المعنى لمن يُنصت بقلبٍ لا بعين). سعاد بسناسي.
نسيرُ في دروبها كأنَّنا ننسجُ من
لحظاتها خيوطًا من سؤالٍ ودهشة، نرتشفُ من عذاباتها شرابًا يكشف السّترَ عن وجهِ
الحكمةِ، ونبتسمُ حين نكتشفُ أنَّ الجُرحَ ما كان إلاَّ نداءً للاستيقاظ.
كلّ ما حولنا يبوح،
وإن تظاهر بالصّمت،
الرّيحُ حوارٌ، والغيمُ قصيدةٌ من حنينٍ
غابر، والحَجَرُ حكمةٌ مطويّةٌ في كتاب الزّمن.
فما الحياة إلاّ مجلى لمعاني تتقلّب بين
التجلّي والحجاب، بين البوح والإشارة... ومن تذوّقها بلُبّه لا بعقله، أدرك أنّ
كلّ شيء فيها يُشير إلى شيء أبعد، وأنّ المسكوت عنه أبلغ من المُعلن إن أُصغي له
من مقام الصّفاء).
اسمحولي وإن أطلتُ قبل البدء، فليس ذلك
إلاّ لأنّ قبل البدء بدءٌ ظاهرٌ ومضمرٌ وبينهما مسكوتٌ عنه خفيٌّ خلفيٌّ كما في
بنسيون في الشّارع الخلفيّ....
1- الفروق
الدّقيقة في المعجم العربيّ بين (الفندق، والنّزل، والبنسيون) تتطلّبُ أن نتوقّف
عندها، حيث تتداخل الدّلالات بين الأصل اللّغويّ والاستخدام المعاصر، وتكمن الفوارق
في الآتي:
أ- الفندق: الأصل
اللّغويّ: كلمة "فندق" معرّبة من اليونانيّة "πανδοχεῖον"
(pandocheion)، عبر اللّغات الأوروبيّة، وتعني مكانًا يستقبلُ الجميع.
- الدّلالة
المعاصرة:
- مكانُ
إقامةٍ مؤقّت للسّياح والمسافرين.
- يتّسمُ
عادةً بالفخامةِ أو التّنظيم التّجاريّ.
- يقدّمُ
خدماتٍ متعدّدةٍ: غرف، مطاعم، استقبال، أحيانًا مرافق ترفيهيّة.
- الطّبقات
الاجتماعيّة: يرتبطُ غالبًا بالطّبقة الوسطى فما فوق، ويُستخدم في السّياقات
الرّسميّة والسّياحيّة.
ب- النُزُل: الأصل اللّغويّ:
من الجذر "نزل"، أي أقام أو حلّ بمكان. ورد في القرآن الكريم:
"نُزُلًا من غفورٍ رحيم".
- الدّلالة
المعاصرة:
- مكانُ
إقامةٍ بسيطٍ، غالبًا ما يكون أرخص من الفندق.
- يُستخدمُ
أحيانًا للإشارة إلى بيوت الشّباب أو أماكن إقامة جماعيّة.
- قد
لا يقدّم خدمات فاخرة، بل يركّز على الوظيفة الأساسيّة: المبيت.
- الطّبقات
الاجتماعيّة: يرتبطُ بالبساطة، ويُستخدمُ في السّياقات الأدبيّة أو الرّسمية التي
تميل إلى الفصحى.
ت- البنسيون: الأصل
اللّغويّ: كلمة فرنسيّة pension، دخلت العربيّة عبر الموجات الاستعماريّة أو التّبادل الثّقافيّ.
- الدّلالة
المعاصرة:
- مكان
إقامة صغير، غالبًا تديره عائلة أو أفراد.
- يقدّم
غرفًا للإيجار، أحيانًا مع وجبات منزليّة.
- يُستخدم
في المدن الصّغيرة أو الأحياء القديمة، وله طابع حميميّ.
- الطّبقات
الاجتماعيّة: يرتبط بالطّبقة المتوسّطة أو المحدودة، ويُستخدم في اللّهجات أو
السّياقات غير الرّسميّة.
رواية "بنسيون الشّارع
الخلفيّ" للرّوائيّ السّوريّ محمّد فتحي المقداد هي عملٌ
أدبيٌّ جريءٌ ومؤلمٌ، يكشفُ المسكوت عنه في المجتمع السّوريّ خلال سنوات الحرب،
تسلّطُ الرّواية الضَّوء على التَّحوُّلات الاجتماعيّة والأخلاقيّة التي فرضتها
الحرب السّوريّة، من خلال تصوير واقع مخيّم اليرموك بعد تهجير سكّانه، حيث تحوّل
إلى مسرح لانتهاكات متعدّدة:
- المساكنة غير
الشّرعيّة بين الشّباب والفتيات دون رابط قانونيّ أو دينيّ
- التّعفيش وسرقة
البيوت من قبل الشّبّيحة (كلمة "التّعفيش" في سياق النّزاعات المسلّحة
تعني نهب وسرقة محتويات المنازل والممتلكات الخاصّة في المناطق التي تشهد صراعًا
أو أصبحت خالية بسبب النّزوح. ويُشير مصطلح "التّعفيش"
تحديدًا إلى سرقة الأثاث المنزليّ...)
- تفكّك القيم
الأخلاقيّة والدّينيّة
- القتل، القصف،
الاعتقال، الجوع، وأكل الحشائش للبقاء على قيد الحياة.
رواية "البنسيون الخلفيّ" هي
عملٌ أدبيٌّ يعكسُ الواقع الاجتماعيّ والسّياسيّ في سوريا من خلال عدسة سرديّة
تجمع بين الواقعيّة والرّمزيّة. يحملُ
العنوان دلالة رمزيّة؛ ـ"البنسيون" مكان إقامة مؤقّت،
و"الخلفيّ" يوحي بالعزلة أو التّهميش، ممّا يعكس حال الشّخصيّات أو
المجتمع الذي تصوّره الرّواية.
- المكان: تدور
أحداث الرّواية في بنسيون يقع في أحد الأحياء الدّمشقيّة، ويضمّ مجموعة من
الشّخصيّات المتنوّعة، كلّ منها يحمل قصّة ومأساة.
- الزّمن: يمتدّ
السّرد عبر مراحل مختلفة من التّاريخ السّوريّ، مع التّركيز على التّحوّلات
السّياسيّة والاجتماعيّة التي أثّرت على حياة النّاس.
الشّخصيّات
الرّئيسة في الرّواية:
الرّواية لا تركّز على شخصيّة واحدة بل
ترسم لوحة جماعيّة من:
- الشّبّيحة الذين
استغلّوا البيوت المهجورة
- الشّباب
والفتيات الذين لجأوا إلى المساكنة في ظلّ غياب الأمان
- السّكّان
المتروكون خلف الرّكام الذين يكابدون الجوع والذّل
- الرّاوي أو
المراقب الذي ينقل الأحداث بواقعيّة نقديّة
- نزلاء البنسيون: كلّ منهم يمثّل
شريحة من المجتمع السّوريّ—من المثقّف المنكسر، إلى اللاّجئ، إلى المرأة المهمّشة،
إلى رجل الأمن.
- صاحب البنسيون:
شخصيّة رمزيّة تمثّل السّلطة أو النّظام، يفرض قوانينه الخاصّة على النّزلاء.
- أبو عادل:
أحد سكّان المخيّم القدامى، يمثّل الجيل الذي تمسّك بالقيم رغم الخراب،
شاهد على التّحوّلات الأخلاقيّة، يثير الحنين والمرارة.
- رنا:
فتاة شابّة تسكن في البنسيون، تجسّدُ الضحيّة التي تحوّلت إلى أداة للبقاء، تعكس
هشاشة القيم أمام الجوع والخوف.
- سامر: شابّ هارب من الخدمة العسكريّة، يعيشُ
مساكنة مع رنا، يرمز إلى التّمرّد على السّلطة والبحث عن مأوى، لكنّه يتورّط في
الفساد.
- أبو نزار: شبّيح استولى على بيت مهجور،
يمثّل السّلطة القمعيّة غير الرّسميّة، يفرض سطوته على السّكّان، يرمز لانهيار
القانون.
- أمّ علاء: أرملة تعيش في البنسيون، تحاول
الحفاظ على كرامتها وسط الفوضى، تمثّل صوت الضّمير النّسائيّ المقاوم.
- علاء: ابنها، مراهق ضائع، ضحيّة الحرب،
يتورّط في السّرقة والتّعفيش، يرمز إلى جيل فقد البوصلة.
- الرّاوي: مراقب للأحداث، شبه خفيّ، ينقلُ
الواقع بمرارة وحياد، يمثّل صوت الكاتب، ويطرح الأسئلة الأخلاقيّة الكبرى.
- تأثير الشّخصيّات في البناء الرّوائيّ:
- رنا وسامر:
علاقتهما غير الشّرعيّة هي محور نقد اجتماعيّ، تكشف كيف تتحوّل العلاقات إلى أدوات
للبقاء.
- أبو نزار: وجوده
يخلق التّوتّر، ويجسّد السّلطة الفاسدة التي تفرض نفسها في غياب الدّولة.
- أمّ علاء: تمثّل
المقاومة الصّامتة، وتحاول الحفاظ على القيم وسط الانهيار.
- الرّاوي: لا
يتدخّل، لكنّه يسلّط الضّوء على التّناقضات، ويطرح الأسئلة دون إجابات جاهزة.
شخصيّة رنا في "البنسيون
الخلفيّ" تستحقّ تأمّلًا عميقًا، لماذا؟ فهي
ليست مجرّد فتاة تسكن في الظّل، بل تمثّل الأنثى السّوريّة المعذّبة بين الحرب
والجسد، بين الحاجة والكرامة، بين المسكوت عنه والمُفصح عنه قسرًا.
- تحليل سيميائيّ-وجوديّ
لشخصيّة رنا:
- البنية
الظّاهرة:
رنا فتاة شابّة، جميلة، تسكن في البنسيون
مع سامر، في علاقة مساكنة غير شرعيّة. تبدو في البداية كضحيّة، ثمّ تتحوّل
تدريجيًّا إلى شخصيّة أكثر تعقيدًا، تتقن التّفاوض مع الواقع، وتعيد تعريف أنوثتها
في ظلّ الحرب.
- المسكوت
عنه في شخصيّة
رنا:
1- الجسد كأرض محتلّة:
- جسد رنا ليس
ملكًا لها، بل أصبح عملةً للتّفاوض: مع سامر، مع الشّبّيحة، مع الجوع.
- المسكوت عنه هنا
هو الاغتصاب الرّمزيّ الذي تمارسه الحرب على الجسد الأنثويّ، دون أن يُسمّى
اغتصابًا.
2- الأنوثة الممزّقة بين الرّغبة والنّجاة:
- رنا لا تعيش
الحبّ، بل تعيش النّجاة عبر العلاقة.
- المسكوت عنه هو
غياب الحقّ في الحبّ، في زمن صار فيه الجسد وسيلة للبقاء، لا للتّعبير.
3- العار الصّامت:
- رغم أنّها لا
تُدان صراحة، إلاّ أنّ الرّواية تترك هالة من العار غير المنطوق حولها.
- هذا العار ليس
من فعلها، بل من نظرة المجتمع، ومن صمت النّساء الأخريات.
4- الهويّة المهدورة:
- رنا لا نعرف
أصلها، ولا خلفيّتها، ولا حلمها.
- المسكوت عنه هو
محو الهويّة الأنثويّة في زمن الحرب، حيث تتحوّل المرأة إلى "وظيفة" لا
إلى "ذات".
- البعد
النّفسيّ والوجوديّ:
- رنا تعيش
الانفصال بين الذّات والجسد، فهي لا تملك أن تختار، بل تُختار لها.
- تعاني من
الاغتراب الدّاخليّ، حيث لا تنتمي للمكان، ولا للعلاقة، ولا حتّى لنفسها.
- تمثّل الأنثى
التي لم تُمنح فرصة أن تكون إنسانة كاملة، بل مجرّد "نجاة مؤقّتة".
- تفسير
رمزيّة رنا في الرّواية:
- المرآة المكسورة:
أنوثة مشروخة، لا تعكس ذاتًا واضحة.
-الظّل:
تعيش في الخلف، لا في الضّوء، كما عنوان الرّواية .
- النّافذة المغلقة: لا تطلّ على مستقبل، بل
على جدار الخوف.
سؤال فلسفيّ يطرحه وجود رنا:
1- هل
يمكن للمرأة أن تحافظَ على كرامتها في زمن يُجبرها على بيع جسدها للبقاء؟
2- وهل
العار في الفعل، أم في الظّروف
التي فرضت الفعل؟
هذه الأسئلة
حقيقةً
تفتحُ بابًا بالغَ العمق، لأنَّ رواية "البنسيون الخلفيّ" ليست فقط عن
شخصيّات تعيش الحرب، بل عن كائنات تمشي في الظّل، تحملُ أوجاعًا لا تُقال، وتعيش
في مساحات المسكوت عنه أكثر ممّا تعيش في الواقع المعلن. وإذا أردنا تحليل المسكوت
عنه في الشّخصيّات الأخرى، وربطه بأحداث الرّواية نجدُ الآتي:
المسكوت عنه في
شخصيّات الرّواية:
2- سامر:
الذّكر الممزّق بين الرّجولة والنّجاة،
الظّاهر: شابّ
هارب من الخدمة العسكريّة، يعيشُ مساكنةً مع رنا، يبدو متمرّدًا.
المسكوت عنه:
- فقدان الرّجولة
كقيمة أخلاقيّة: سامر لا يحمي، لا يبني، بل يختبئ خلف جسد رنا.
- الخوف من
السّلطة: هروبه ليس بطولة، بل هروب من مواجهة الذّات.
- الذّنب الصّامت:
يعلم أنّ علاقته برنا ليست حبًّا، لكنّه لا يملك بديلًا.
ارتباطه بالأحداث:
- مساكنته مع رنا
تعكس تفكّك الأسرة والشّرعيّة.
- هروبه من الجيش
يربطه بالانهيار الوطنيّ، حيث لم يعد الوطن يستحقّ الدّفاع.
3- أبو
نزار: الشّبّيح
الذي يسكن بيتًا ليس له.
الظّاهر: رجل
قويّ، يفرض سلطته على البنسيون، يسرق، يهدد، يبتز.
المسكوت عنه:
- الخوف من
السّقوط: رغم سطوته، يخاف من فقدان السّيطرة.
- الفراغ
الدّاخليّ: لا يملك قضيّة، ولا حلم، فقط سلطة مؤقّتة.
- العار غير
المعترف به: يعلم أنّه لصّ، لكنّه يلبس قناع "المنقذ".
ارتباطه بالأحداث:
- استيلاؤه على
البيوت المهجورة يجسّد التّعفيش كمنظومة أخلاقيّة مقلوبة.
- تهديده لرنا
وسامر يكشف التّحوّل من حماية المجتمع إلى افتراسه.
4- أمُّ
علاء:
الأرملة التي تحاول النّجاة بالكرامة.
الظّاهر: امرأة
مسنّة، تحاول الحفاظ على ابنها، ترفض المساكنة، تراقب بصمت.
المسكوت عنه:
- الحنين إلى زمن
القيم: تتذكّر زوجها، بيتها، صلاتها.
- الخوف من
الانهيار الأخلاقيّ لابنها: ترى علاء يتغيّر، لكنّها لا تملك منعه.
- العار الصّامت
من الجيران: تخجل من الحديث عن ما يحدث في البنسيون.
ارتباطها بالأحداث:
- تمثّل الضّمير
الأخلاقيّ المهزوم، الذي يرى ولا يقدر أن يغيّر.
- وجودها يخلق
توازنًا بين الانهيار والمقاومة الصّامتة.
5- علاء
: المراهق
الذي فقد البوصلة
الظّاهر: ابن أمّ علاء،
يتورّط في السّرقة، يتأثّر بالشّبّيحة، يضيع.
المسكوت عنه:
- غياب الأب
كمرجعيّة: لا نموذج يحتذي به.
- الفراغ القيميّ:
لا يعرف ما هو الصّح، ولا يملك من يرشده.
- التّمرّد
الصّامت: يسرق لا لأنّه يريد، بل لأنّه لا يرى بديلًا.
ارتباطه بالأحداث:
- يمثّل جيل الحرب،
الذي لم يعرف سوى القصف والجوع.
- تورّطه في
السّرقة يعكس تحوُّل الأطفال إلى أدوات في منظومة الفساد.
5. الرّاوي: الصّوت
الذي يرى ولا يتدخّل.
الظّاهر: ينقل
الأحداث بواقعيّة، لا يتدخّل، لا يحكم.
المسكوت عنه:
- الألم
الدّاخليّ: يرى كلّ شيء، لكنّه عاجز عن الفعل.
- الذّنب
المعرفيّ: يعرف الحقيقة، لكنّه لا يملك سلطة التّغيير.
- الحنين إلى وطن
مفقود: كلّ وصف يحمل نبرة فقد.
ارتباطه بالأحداث:
- يمثّل ضمير
الكاتب، الذي يكتب ليشهد، لا ليحاكم.
- وجوده يخلق
مسافة بين القارئ والحدث، تسمح بالتّأمّل دون انفعال مباشر.
خلاصة رمزيّة: كلُّ
شخصيّة في "البنسيون الخلفيّ" تعيشُ في مساحةً من العار، الخوف، الذّنب،
أو الحنين، لكنّها لا تملكُ لغة للتّعبير. ولعلَّ المسكوت
عنه ليس فقط في الأفعال، بل في الغياب الكامل للمنظومة التي كانت تمنح المعنى:
الأسرة، الدّين، الوطن، القانون.
رمزيّة العنوان:
"البنسيون
الخلفيّ" يشير إلى:
- الأماكن
المتوارية عن أعين الأمن والرّقابة،
- الشّوارع
الخلفيّة التي تحتضن النّشاطات المشبوهة،
- الجانب المظلم
من المجتمع الذي لا يُرى ولا يُقال.
الثّيمات الرّئيسيّة في الرّواية:
- الاغتراب
والهويّة: يعيشُ النّزلاء في حالة من التّيه، يبحثون عن
معنى لحياتهم وسط واقع مضطرب.
- السّلطة والقمع:
يظهر تأثير النّظام السّياسيّ على الأفراد، سواء من خلال الرّقابة أم الخوف أو
التّهميش.
- الذّاكرة
والحنين: يسترجع الرّاوي وأبطال الرّواية ذكرياتهم، في محاولة لفهم الحاضر من خلال
الماضي.
- المرأة
والحريّة: تتناول الرّواية وضع المرأة في المجتمع، بين القهر والرّغبة في التّحرّر.
الأسلوب الأدبيّ في الرّواية:
- لغة الرّواية:
تجمع بين البساطة والعمق، وتستخدم الرّمزيّة بشكل ذكيّ دون أن تفقد الواقعيّة.
مع لمسات لهجيّة واضحة قد تربك لغة الرّواية في بعض المقاطع.
- السّرد: غير
خطّي، يعتمد على التّنقّل بين الأزمنة والأحداث، ممّا يعكس تشظّي الوعي لدى
الشّخصيّات.
- الحوار: يعكس
التّوتّر الدّاخليّ والخارجيّ، ويكشف عن طبقات الشّخصيّة دون مباشرة.
رمزيّة "البنسيون الخلفيّ":
- يمثّل البنسيون
فضاءً مغلقًا يعكس المجتمع السّوريّ في لحظة انهيار أو إعادة تشكيل.
- الخلفيّة تشير
إلى ما هو مخفيّ أو مهمّش، سواء في السّياسة أم في النّفس الإنسانيّة.
- النّزلاء هم
"المنفيّون داخليًّا"، يعيشون في وطنهم لكنّهم غرباء فيه.
- فهم البنية الرّمزيّة واللّغويّة في رواية
البنسيون الخلفيّ،بين التّحليل السّرديّ والتّأويل الفلسفيّ، تفتح أفقًا غنيًّا في
موضوع: (المسكوت عنه والمضمر) تناولته في كتاب: المضمر في الملفوظ السّرديّ طبع
بالأردن 2024 ط1، سعاد بسناسي، وبعض البحوث ذات الصّلة بالموضوع.
- المسكوت عنه: هو ما يُقصى من الملفوظ،
لكنّه يحضر عبر التّلميح، الإيحاء، أو التّوتّرات النّصيّة. في الرّواية، قد يتجلّى في
القضايا السّياسيّة أو الاجتماعيّة التي لا تُقال صراحة، بل تُلمّح عبر الشّخصيّات
أو الأحداث.
- المضمرات: هي البُنى العميقة التي تسكن خلف الملفوظ، وتشكّل دلالته التّأويليّة.
وترتبط
المضمرات بالنّيّة، السّياق، والبعد الثّقافيّ، وتُستخرج عبر القراءة التّأويليّة.
ومن خلال تطبيق المنهج
التّأويليّ السّرديّ وفقًا لما تمّ تحليله من نماذج في الرّواية، يمكن تحديد ثلاثة
مستويات لقراءة المضمرات:
1/ اللّغويّ-الملفوظيّ: تحليل البنية
اللّغويّة للخطاب السّرديّ، استخدام لغة التّهكّم أو التّورية في وصف الشّخصيّات
الهامشيّة.
2/ السّيميائيّ-الرّمزيّ:
قراءة الرّموز والعلامات في النّص "البنسيون الخلفيّ" كمكان رمزيّ
للهامش، للمنفى الدّاخليّ.
3/ الأنطولوجيّ-الوجوديّ: تأويل التّجربة
الإنسانيّة في النّص صراع الشّخصيّات مع العزلة، الاغتراب، والهويّة .
المسكوت عنه في الرّواية:
- الجنسانيّة
المقموعة: تظهر في المساكنات والعلاقات غير الشّرعيّة، لكنّها لا تُناقش أخلاقيًّا
بل تُعرض كواقع مفروض.
- السّلطة
الغائبة/الحاضرة: النّظام لا يظهر مباشرة، لكنّه حاضر في الخوف، الرّقابة، والخراب.
- المرأة
كجسد/رمز: تُستخدم الأنثى كوسيلة للبقاء، دون أن يُمنح لها صوت واضح أو سرد ذاتيّ.
- الهويّة
الممزقّة: الشّخصيّات لا تملك جذورًا واضحة، تعيش في حالة من التّيه والاغتراب.
- العلاقة بين
المسكوت عنه والمضمرات وفقًا
لمنهج مضمرات الملفوظ، فإنّ الرّواية تبني معناها من خلال:
-الملفوظ: ما يُقال صراحة، وصف
البنسيون، العلاقات، الأحداث اليوميّة.
-المضمر: ما
يُفهم ضمنًا، الخوف، العار، الذّنب، الانهيار الأخلاقيّ.
- المسكوت عنه: ما يُقصى أو يُلمّح
إليه، القمع السّياسيّ، فقدان الوطن، انهيار القيم.
)الرّواية لا تُصرّح، بل تُلمّح. لا تُدين، بل
تُعرض. وهذا ما يجعل القارئ شريكًا في التّأويل، يبحث عن المعنى في الفراغات، في
الصّمت، وفي التّناقضات).
- الرّاوي كضمان تأويليّ: يمنح القارئ
مفاتيح لفهم الشّخصيّات دون أن يفرض تفسيرًا.
- الزّمن السّرديّ
المتشظّي: يعكس تفكّك الوعي، ويُتيح للمسكوت عنه أن يظهر عبر الاسترجاع والتّقطيع.
- الرّموز
السّرديّة: مثل "الشّارع الخلفيّ"، "الغرفة"،
"النّافذة"، كلّها تحمل دلالات مضمرات الهويّة، العزلة، والانكسار.
خلاصة تأويليّة: (رواية البنسيون
الخلفيّ هي نصٌّ يُمارس التّعتيم والتّلميح، ويُراهن على قدرة القارئ في استخراج
المضمرات من الملفوظ، وفهم المسكوت عنه من خلال ما لا يُقال. إنّها
رواية عن النّجاة في زمن الانهيار، وعن الإنسان الذي يعيش في الظّل، ويبحث عن ذاته
في مرايا مكسورة.
الخاتمة: ختامًا نقول:
الانهيار ليس
دائمًا نفيًا للمعنى، بل قد يكون شرطًا لإعادة بنائه.
رواية البنسيون الخلفيّ لمحمّد فتحي
المقداد، رغم هيمنة سرديّة الانهيار فيها، لا تُغلق الباب أمام التّأويلات
الإيجابيّة، بل تترك شقوقًا في الجدار تسمح بمرور الضّوء.
في
الظّاهر:
- الشّخصيّات تعيش
في عزلة، مساكنة، خوف، واغتراب.
- البنسيون فضاء
مغلق، خلفيّ، يرمز إلى التّهميش والانكسار.
- المسكوت عنه
مشحون بالعار، القمع، والخراب الأخلاقيّ.
لكن نقول:
التَّأويلات
الإيجابيّة الممكنة:
1. الانهيار كشرط
للوعي: حين تنهار القيم الزّائفة، يبدأ الإنسان في مساءلة ذاته.
رنا مثلًا، رغم علاقتها المأزومة، تبدأ
في إدراك هشاشتها، وتفكر في الخروج من الدّائرة.
2. البنسيون كفضاء
للنجاة المؤقّتة: رغم سوداويته، البنسيون يمنح
الشّخصيّات مأوى، فرصة للتّفكير، مساحة للبوح.
حتّى العلاقات غير الشّرعيّة تُقرأ
أحيانًا كبحث عن دفء إنسانيّ مفقود.
3. الراوي كصوت
تأمّليّ لا يدين: الرّاوي لا يُصدر أحكامًا، بل
يترك المجال للتّأويل، ممّا يمنح القارئ فرصة لرؤية ما وراء الانهيار.
هذا الحياد السّرديّ هو بذرة أمل في
استعادة المعنى.
4. المرأة ككائن
مقاوم رغم القهر: أمّ علاء، رغم فقرها، تحاول
الحفاظ على كرامتها.
رنا، رغم استخدامها، لا تستسلم بالكامل،
بل تُظهر لحظات وعي ورفض.
5. اللّغة
السّرديّة كفعل مقاومة: الرّواية نفسها، بوصفها شهادة، هي فعل مقاومة للطّمس
والنّسيان. مع ضرورة مراجعة
اللّغة بشكل دقيق لترتقي بموضوعها وانشغالها الفنيّ والمعرفيّ.
الكتابة عن المسكوت عنه هي محاولة
لاستعادة الصّوت، والكرامة، والذّاكرة.
ختامًا: إنّ رواية "بنسيون في
الشّارع الخلفيّ" ليس فقط سرديّة انهيار، بل أيضًا سرديّة ما بعد الانهيار. إنّه
نصٌّ يُظهر كيف يمكن للإنسان أن يعيش في الظّل، لكنّه لا يفقد كليًّا قدرته على
الحلم، أو على التّأمّل، أو على قول "لا" بصوت خافت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق