الافتراضي المأمول، والواقع المحروق
قراءة نقدية في رواية (ذرعان) للروائي (محمد الحفري)
بقلم الروائي محمد فتحي المقداد
جنون الأسئلة:
عود على بدء، في رحم الذاكرة الحُبلى بالكثير من الأسئلة والتساؤلات، الطّافحة بالقلق والتوتّر تحت مسمّى أن نكون أو لا نكون، وماذا كان.. وما هو مُتوقّع أن سيكون؟ وعلى وجه الخصوص حينما يجري الحديث عن الوطن، وفي الإهداء بداية الرواية، اتّضح هذا المعنى: (إلى المُشتهى أو الحلم "ذرعان" أرضًا وشعبًا ينبض بالحياة).
رؤية الكاتب العميقة بجعله من ذاكرة الأمّ المتوفّاة منطقة مُمسرحةً بحواريّات عميقة الدلالة برمزيّها العالية في أشارت ربّما لم تُسلّم مفاتيحها للقارئ بسهولة، ومن ذلك سنذهب في اقتناص السّهل منها، لإخماد شهوة وحُمّى البحث عن أجوبة بعد إيراد مقتطف بسيط: (للنار وللرّصاص والماء نصيب ممّا أنجبَ بطنك يا حُرمة). (في تلك البُقعة كنتم على مُفترق لا مفرّ منه، ولا سبيل لتعطيله، أو سدّه على العابرين). (كل البطولات تذوب أمام عريف في الدرك اسمه "كيكي"، ومعه ثلاثة رجال). (كيكي خدم بإمرة ثلاث سلطات، فرنسا، والاقطاع، ومن ثمّ السلطة المحلية فيما بعد).
على خلاف القاعدة ابتدأت بعنوان الفصل الأوّل (خاتمة النص)؛ لتُحدث صدمة غير متوقّعة لدى المُتلقّي؛ استفزّت مشاعره وأحاسيسه، وفتحت أبوابًا كثيرة من الأسئلة الدفينة المؤجّلة لحين الانتهاء من قراءة الرواية.
حِرفيّة الكاتب العالية التقنيّة السرديّة، وبمهارة استطاع النّفاذ لأعماق القارئ، والاستحواذ على اهتمامه، وشدّه بخيوط رغبة متابعة القراءة بنهم وصولًا لنهاية كلّ صفحة، ثم الانتقال للتي تليها. وكلمة الخاتمة انزياحيّة استثنائية، وهي تحتل موقع المُقدّمة الدّائم، وهي تتنازل عنها طواعية لأمر الكاتب دون عناد.
سيزول العجب منذ بداية، بتعانق عنوان (خاتمة النص) مع نهاية الحياة وخاتمتها بالموت. وذلك فيما ورد على لسان البطل العليم الموازي للكاتب الروائيّ، بقوله: (عليا مازال قبرُك طريًّا كما أنت ِ بعد أن أرهقتك السنون، وبدلت ملامحك)، (ليس باليد حيلة صدقيني. من منا قادر على ردّ الموت يا امرأة؟ لو كنت أملك ذلك كنت رددته عنك). (ها أنا عائد كي أزرع لك شاهدة، وقد أمضيت قبل ذلك عمرا ً وأنا أزرع الشواهد، فهل أجد يوما ً من يزرع لي شاهدة؟). وربّما بعد الموت تزداد شهيّة الأسئلة بجراءة مُنطلقة من عقالها، وتنفتح الشهيّة على فضاءات تأويليّة، تفتح آفاقًا استثنائيّة، تجلي غبش الرؤية والسواد القاتم.
***
الفصل الثاني من الرواية (ذرعان) انضوى تحت عنوان (استهلال) مختبئًا خلف (خاتمة النص) عنوان الفصل الأوّلي، اختراقًا لنظام التراتبيّة المعتادة بنمطيّها، وخروجًا على المعروف السرديّ، المعلوم من التراكيب بالضرورة. ومن المفترض انتهاء النص بالخاتمة التي خرقت تراتُبات السُّلّم المنطقيّ. بينما حاء الاستهلال ليحكي البداية بشكل طبيعيّ، أعاد للقارىء سمة التدرّج في سرد الحدث.
ظروف الحرب أقوى من كلّ شيء، تحرق دروب الحبّ، وتتكلّس المشاعر الإنسانيّة، وتفرز حالات استثنائيّة جديدة من أنماط السّلوك السيئة، التي تزيد السّوء المعتاد سوءًا بل تفوقه بمرّات عديدة.
فالفساد الإداريّ المُتفشّي على العموم، بمهارة تقنية سرد عالية، وجّهنا الروائيّ (محمد الحفري) إلى القاع الأدنى في السُّلّم الوظيفيّ، إلى حُرّاس بوابات المشافي الحكوميّة العامّة، وتصوير حالهم وتعاملهم الخشن مع المراجعين، وأخذهم الرّشاوى، وهل صعوبة العيش والدّخل المُتدنّي يجعل من الإنسان وحشًا، يأكل الأخضر واليابس؟.
الحرب تقلب موازين الحياة والاستقرار، وتنتفي قوانين الحياد الإيجابيّ والسلبيّ على حدّ سواء، وتتبدّل المواقف والاصطفافات، وهذا غير خاف في الرواية، وأشارت إليه بوضوح:
- (لمّحوا إلى أنني موظف لدى الحكومة، وربما أكون متواطئا مع من قَتَل، أو ساهم في القتل).
- (في المشفى عرفتُ أيضاً بأنني رجل مطلوب بتهمة التخريب، والتآمر على الوطن).
- (كان المهم عندي أن أهرب؛ فالروح غالية، والنار من خلفي مشتعلة، لا تترك خلفها إلّا الرّماد).
- (السياسة في مجتمعنا لعبة كريهة، تُفرّق ولا تجمع).
- (الحبّ والتسامح وحدهما من يجمع كل القلوب المتنافرة).
- (فأيّ لاعب محترف، ذلك الذي أغوى خطواتنا، كي تسقط في شباك العنكبوت).
وتلعب الشعارات دورها في تهييج العواطف، مقايل وقفات عقلانية لا مكان لها في خضمّ مُتحرّك مُتسارع؛ فالقاتل لا يعرف لماذا يقتل، والمقتول لا قضيّة له يموت من أجلها، ولحساب من، ينشر هذا الموت المجانيّ، بلا تفريق بين كبير وصغير، وامرأة وطفل، وشاب وعجوز. وشواهد هذا من الرواية واضح تمامًا:
- (تعالى صراخ سوسن في البيت، لم يُسكته إلّا صوت الرّصاصة التي عبرت النافذة؛ لتخترق كتفها، وتُسقطها أرضًا).
- (شقيق سوسن الأصغر قد أصابه عيار ناريّ في الصّدر؛ فأودى بحياته).
- (هناك بكيتُ مع من بكوا على شقيقها وغيره، ممن ضاعوا في زحمة الشّعارات والمطالب).
- (لقد وقعوا بين نارين، نار الجنود من الأمام، ونار الذين استغلّوا شعاراتهم؛ ليطلقوا عليهم وعلى الجنود النّار معًا).
***
على محمل الذاكرة المُتخمة بالتفاصيل وجزئيّاتها، ولمّا وجدت المناخ الملائم الواثق الموثّق على صفحاتها، فتحت خزائنها على صفحات رواية (ذرعان) تلك القرية الغافية على ضفاف نهر اليرموك، ويبدو أنّ هذا الاسم ذرعان لم يكن إلّا رمزًا للمكان، هروبًا من الجدال والاختلاف حول الكثير، والاختلاف أيضًا حول الكثير، المعروف والمعلوم، والسكوت عنه. وفي الحقيقة ليس كلّ ما يُعرف يُقال، وليس كلّ ما يُسمَع يُصدّق.
وفي فصل جديد من فصول الرواية، كُتِب تحت عنوان (رأس النصّ)، والفصل التالي جاء تحت عنوان (حاشية)، وما بين رأس النص أي مقدّمته وحاشيته، ظهر للعلن ما فاضت به الصدور، وما بقي بحاجة لتفسير يُكتب على الحاشية، ومتن الحاشية يكون مسرحًا للتفسير والتأويل، وشرح ما خفي أو استعصى على الفهم. فيما يلي بعض ما جاءت به الرواية:
- (لا أدري لماذا تجرفني دائمًا ذكريات الطفولة).
- (ذكريات قديمة تتناثر حولي، وتنثرني معها، لأجد نفسي مقسومًا على نفسي).
- (ليتني لم أعُد.. ولم أر ما رأيتُ، ليت الأرض انشّقت وابتعلتني قبل ذلك).
ذكريات طفولة غير واعية هي المحببة للنفس، ويبدو أن الوعي والإدراك يُفسدان هذه المتعة في الكثير الأحيان، لأن متعة الحياة تشتّت في دهاليز مرارة الإحباط واليأس، فيما كان بين المأمول في دوّامة الأحلام المسروقة والمنهوبة والموؤودة، وتتباعد الهُوّة على أرض الواقع لتحصل القطيعة على الأقلّ في قلوب ونفوس من يتوقّف مُتأمّلًا، كوقفة كاتب وروائي واع مثل محمد الحفري. ليأتي الفصل الأخير الخاتمة من الرواية حاملًا عنوان (ذيل النصّ) بكلّ وضوح ليعلن نهاية الرواية وختمها، بالانكسار والانحناء أمام العاصفة الهوجاء، ولا سبيل.. ولا رؤية.. ولا أمل.. وتبقى النهاية مفتوحة على فضاءات الضياع والشتات.
عمّان – الأردنّ
27/ 9/ 2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق