نداء القلق
في ديوان لحن الخلود للشاعر طالب الفرّاية
بقلم/
محمد فتحي المقداد
الشاعر طالب الفرّاية يروم الخلود على أوتار ألحانه الشعرية العبقة
بنبضه وروحه المترعة بكل كلمة من قصائد ديوانه (لحن الخلود)، وهو يطرق من خلاله
بوابة التاريخ الأولى (الكرك)، وما ذكرت الكرك إلا وهي مقرونة بـ (ميشع)
المؤابيّ، ولعلّ مقولة:«ارفع رأسك أنت في الكرك»، كانت منطلق الشاعر الذي
نشأ وتربّى في أكنافها إلى الوطن الأكبر الأردن و الحبّ و الولاء الذي عشعش في
وجدان الشاعر لم ينسه وطنه الأكبر العربي من المحيط إلى الخليج، و التحديّات
الحضاريّة وهو يطمح للارتقاء بها إلى المستويات المرضية، و التنبيه للخطر الدّاهم
بكلّ أشكاله و ألوانه.
الشاعر ممتلىء بهواجسه التي يغلفها القلق الظاهر للعيان، فإحساسه لم
يخطىء، وعزيمته على الطريق ماضية، وقناته لم تلن في استحضار التاريخ كلّما أصابه الإعياء
واليأس و الإحباط ليناشد البطل التاريخيّ (ميشع، عنترة، خالد بن الوليد، صلاح
الدين .....)، وكان أن اتّخذ منه مجازًا وجسر عبور من الحاضر إلى المستقبل،
بقوله: "أنا الفجر ليس يداري النجوم// وتشرق شمس الضحى من سناه – وهبتُ
الزّمان صدى خاطري// وما كنتُ يومًا صدًى للحياة"، فهو لم يرتض إلا أن
يكون ليس كالفجر بل الفجر بعينه الذي يزيح الظلام عن كاهل الكون، وينبلج من سناه
الضحى وشمسه التي تنير الأرض، وتكتب تاريخًا جديدًا في حياة كلّ يوم جديد.
قصائد الديوان جاءت حُبلى بكلمة التاريخ، فكان حملًا شرعيًّا ولد بين
طيّات وثنايا القصائد، ففي قصيدة رسالة إلى عنترة يقول: (أشكول يراودني ذات
مساء// كالليل سجى... كالبوم أتى// أدخلني نفق التاريخ المظلم// أجبرني أن أحفظ
تاريخًا مسخًا// وحفظت التاريخ// و عرفتُ الآن // من سرق تصاميم الأهرام// و لماذا
أرض الميعاد).
وفي قصيدة مدينة لاتنام يقول: (هي الكرك الحبيبة وجه أمّي// أطالع
وجهها قمرًا غريقًا ــ هي التاريخ و الدنيا يراع// يسطّر مجدها إرثًا عريقًا).
وعن المدينة الورديّة البتراء
يقول: (و يحييني بها أبدًا غروب// من التاريخ دفّاقًا دِفَاقًا).
فالأماكن على اختلافها رسمت خطّا بيانيّا عند طالب الفرّاية يرتفع
للذروة بجماليّات ذكرياته، وينخفض للحضيض حين يستشعر الشاعر الخطر، فتتأجج عواطفه
حنينا وشوقا وهو يتفيّأ بظلالها، ويعتبرها أجمل الأوطان على الاطلاق، و إن ابتعد
عنها حاول أن يشكل وعيا جماعيّا، وعامّة الناس يقولون: (مسقط الرأس غالي)، بينما
ميزّ الكاتب زكريّا تامر: "بين الأوطان الحقيقية، موطن الأحرار، والأوطان
المزوّرة وهي أوطان الطغاة التي لا تمنح الناس سوى القهر والذلّ و الفاقة، ومدُنها
وقُرَاهَا لها صفات القُبور و السّجون"، وجاءت قصيدة "موطني"
عند طالب الفرّاية؛ لتكرّس حبّه للوطن مقرونا بالعبادة يقول: "و أتيتُ بابك
عاشقًا متصوّفًا// صلّيتُ حبّك تابعًا و إمامًا".
ونسج عباءة لحن الخلود موشّاة
بأسماء الأماكن: (الكرك ومؤتة و المزار و سهول إربد وعمان وضانا و العقبة و
البتراء و الحسا)، هذا في الأردن، ومن خارجه: (فلسطين و عاصمتها القدس و الشام و بغداد
و القاهرة وتونس و صنعاء).
وتولد الخوف و القلق لدى الشاعر من رحم حبّه للوطن، و ضاقت عليه
المساحات، لتأتي قصيدته (قلق و أغاني) طافحة بهواجسه الحيرى يقول : (قلقي أنا
خبزي ونبض قصائدي// أحلام ليلى دفتر ألواني.. قلقي أنا كحلي وهمس جدائلي// دمعي
الحنون وسادتي أحزاني).
من هنا انفجرت ذاتيّته ليطلق
نداءاته بأعلى صوته محذّرا و منبّهًا ومستنجدًا، وفي قصيدته التي حمل الدّيوان عنوانها،
خاطب المكان، ووقف ينادي قائلًا: "أيا صوت أبهى الأماكن // و يا نسمة من
عبير الجنوب // ويا صرخة في سديم السّكون// ويا أيها الحلم// فيا أيّها الكركيّ"،
وفي قصيدة عمّان كان النداء ظاهرًا جليًّا يقول: "يا شمس يعرب يا فجرا
لنهضتنا// يا دمع ليلى على كفّ لمعتصم).
وللمتتبّع لديوان لحن الخلود؛
يستنتج أنّ ظاهرة النداء عند الشاعر لافتة للنظر، يهرب من مناداة القريب الغافي
الذّاهل عمّا حوله، إلى البعيد القابع في مجاهل التاريخ، البطل الأسطوري المخلّص
من القهر و الذلّ نزوعًا إلى مستقبل مشرق يليق بنا كأمّة ذات حضارة، حينما أرسل
رسائله:
-
رسالة إلى صلاح الدّين الأيّوبي فيها يقول:
"لمّا مررتٌ ساح المجد أسألها \\ أين البطولة، أين المجدُ، والشمم؟ - أنت
الصلاحُ صلاحُ الدّين سيّدها\\ أنت الرّسول لها مُذ ماتت الشيَم"،
ومناداته: يا سيدي الرّيحُ - يا سيّد الكون -
يا سيّد الشّرق- يا رمزًا لعزّته.
-
رسالة إلى عنترةوفيها يقول : "يا
عنتر أين صهيلُك؟\\ أين الرّفض السّاكن قنديلك\\ ندعوك بطُهرك\\ وقداسة هذا
اللّيل\\ ندعوك بحقّ رغيف الخبز\\ وبحق الدّاحس و الغبراء\\ وبحقّ ميادين
التحرير\\ بأن تحضر\\ مزّق أوراق العار\\ واصنع لي قمرًا حُرًّا وحصان"،
ومناداته لم تتوقّف من أجل الخلاص: "ياعنتر - يا بن الآلام العربيّة - يا ثورة كلّ جياع الأرض يا وجع الجلّاد – يا
صرخة كلّ ضحيّة – يا إسبارتا العرب الأوّل – يا قبلة كلّ جياع الأرض".
-
رسالة إلى أبي العلاء المعرّي: "يا
شاعرًا لاك المرارة\\ واحتسى\\ ما في الدّجى من حنظل و كآبة\\ فغدا لسانُه بلسمًا
للجُرح ترياق السّعادة"، وينادى
أبا العلاء: "يا شاعرًا – يا نخلة – يا بن المعرّة".
-
يا بن الوليد: "لو كان قيدُك
جارحًا\\ أو كان دربُك عاثرًا\\ لو كان شوكًا أو حريق\\ ما زلتَ رغم أنوفهم\\
أملًا جديد"، ومناداة الشّاعر لم تتوقف: "يا بن الوليد – يا سيفَ
خالدنا العظيم – يا نخلة تٌرمى – العزّ عزّك يا وليد – يا كربلاء".
و للمتأمّل في حياة الشّاعر طالب الفرّاية،
فهو المعلّم المتألّق لمادّة اللغة العربيّة يلقّنها لطلبته، وهو الشاعر المرهف
بأحاسيسه حينما يخاطب محبوبته في قصيدة"يا مي"، وفي "شكرًا لهاتيك
العيون"، وله وقفة مع النفس و الدموع، وتوقّف في ساحة الموت بعد تجاربه في
الحياة، و في حلّه و ترحاله؛ ليعلن على الملأ: أنه عرف الله في قصيدة عرفت الله.
وفي خطابه للموت في قصيدة حملت عنوان (الموت)،
يقول:
"أيّها الموت كسيفٍ مُصلتٍ \\ كم قصمتَ
الظهرقصمًا مُحكما
أنت
في حلّ فزدني سقما \\ أفن صبري واجعل الدّمع دما"
وهو يتماهى مع نداء السيّاب للموت في رائعته (رئة
تتمزّق): "كم ليلة ناديت باسمك
أيها الموت الرهيب\\ وودت لو طلع الشروق\\ علي إن مال الغروب\\ بالأمس كنت أرى دجاك\\ أحب من خفقات آل\\ راقصن آمال الظماء ... فبلها الدم واللهيب".
وأجمل رسائل الشّاعر الفرّاية أختم بها
قراءتي قصيدة همسات حيث يقول: "مِنْ
مُهْجَتِي أُهْدِي الفِقِيرْ\\ قَارُوْرَةً
مِنْ عِطْر\\ مِنْ مِاءِ زَمْزَمَ
والفُرَاتْ\\ مِنْ نِيْلِنا النّيْلِ العَظِيِمْ\\ مِنْ زَيْتِ تُوْنس\\ مِنْ نَخِيلٍ
فِيْ الخَليْج\\ من دمع غزّةَ ..\\ من
جنونٍ في المعرّة\\ و المُكلاّ و الخليل".
عمّان \ الأردن
13-4-2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق