الأربعاء، 30 يوليو 2025

قراءات على رواية بنسيون الشارع الخلفي

 

قراءات

نقدية

بأقلامهم

قرؤوا

 

 

 

 

 

 

 

 


فكتبوا

    

§     

وأفادوا

رواية|*|

 

             بنسيون الشارع الخلفي

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قراءات نقدية

 

رواية

 

بنسيون الشارع الخلفي

 

 

(جمع وإعداد)

محمد فتحي المقداد

 

2025

التصنيف

الأدب العربي الحديث

النقد العربي

مقالات نقدية بأقلام كُتاب ونقاد عرب

أسهموا في مادة هذا الكتاب

...........

الحقوق الفكرية لأصحاب القراءات الناقدة

....

 

 

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

مقدمة الكتاب

 

الحمد لله وبه نستعين.

كلُّ الشكر والتقدير للأحبة والأصدقاء ممَّن ساهموا بإثراء محتوى روايتي "بنسيون الشارع الخلفي"، والفائزة بجائزة "ناجي نعمان" للكتابات الإبداعية في موسمها لعام 2025. وقد كان لها نصيب من الاستحواذ على أذواق القرَّاء والمُهتَّمين، ولكلٍّ منهم له أسبابه في إبداء رأيه كتابة بعدما قرأ واطَّلع، وقرَّر أنَّها تستحقُّ الكتابة عنها، وعلى الأغلب أن الجوانب التي طرقتها الرواية كثيرة، ولكنها اجتماعيَّة بطبيعتها، في مجتمع الحروب التي تتميز بالخوف والدمار النفسي والمادي على كافة المستويات، فهكذا وضع له مخرجات سيئة منعكسة على أفراد المجتمع بلا استثناء.

وفي رواية "بنسيون الشَّارع الخلفي". لامست تابوهات اجتماعية، بأشكاله اعتبارًا من التفتُّت والتفكُّك الأُسري، وما ينتج عنه من انتشار الأوبئة الأخلاقيَّة كتجارة الرَّقيق الأبيض، والمخدرات، وتسلُّط العسكر وأمراء الحرب السوريَّة الطويلة، وتُجَّار الحروب وصانعيها.

وفي النهاية وبلا شكٍّ فإن الخاسر الأكبر هو الوطن، الذي خسر أبناءه وهي الخسارة الأعظم والأثمن والأعلى قيمة. ما قيمة الوطن بلا شعب عزيز بكرامته في وطن يحميه من غوائل الدَّهر ونوائبه.

إن الآثار السيِّئة على المجتمع السوري فيما بعد الحرب، خلقت حالات من التشظِّي والقلق والخوف والتردد والإعاقات الجسدية والعقلية التي صارت كظاهرة، والأمراض النفسية.

حالة الشَّتات القسري، نتيجة الحرب الطَّويلة خلقت نماذج اجتماعية غير سويَّة، تحمل بدواخلها تشوُّهاتها التي التصقت بها على مدار ما يقارب العقد والنصف من السِّنين العِجاف.

فلا غروَ أن تأتي الكتابة الروائيَّة على شاكلة المجتمع الذي تناولته، ودخلت إلى بواطنه، وحاولت الكشف عن الخفايا والخبايا في سبيل تسليط الضوء على المُعاناة البشرية بأبعادها الإنسانيَّة.

ـــا30\ 6\ 2025

 

                                                                       الروائي محمد فتحي المقداد

 

 

 

 

 

 

تقرير موقع "زمان الوصل"

الكاتب السوري "محمد فتحي المقداد"

يحصد جائزة "ناجي نعمان" الدولية

بقلم. فارس الرفاعي-زمان الوصل:

 

نال الكاتب والروائي السوري "محمد فتحي المقداد" "جائزة ناجي نعمان الأدبية" للعام الحالي 2025 عن روايته "بنسيون الشارع الخلفي"، وجاء تتويجه بالجائزة بعد منافسة لـ 4321 مشتركاً ومشتركة مثّلوا 92 دولة وبـ 41 لغة.  

وهي جائزة دولية سنوية أُطلقت عام 2002، وتُمنح للأعمال الأدبية الأكثر تحرّرا في المضمون والأسلوب، بهدف إحياء وتطوير القيم الإنسانية، وجاء هذا الفوز المُستحق ليُرسّخ حضور الأدب السوري في المحافل العربية والعالمية.

وعلق المقداد الذي ينحدر من مدينة (بصرى الشام) بريف درعا، ويقيم في مدينة إربد الاردنية لـ"زمان الوصل" أنه تقدم للمشاركة في الجائزة منذ أواخر العام الماضي 2024 بإرسال مشاركته والمعلومات المطلوبة عبر البريد الإلكتروني للجائزة، وأشار إلى أن هذا الفوز يمثل بالنسبة له دافعاً ومحفزاً للمتابعة والإصرار على تقديم ما هو أفضل وأرقى، بما يخدم قضايانا العادلة والقضايا الإنسانية على وجه هذا الكوكب.

وحول روايته "بنسيون الشارع الخلفي" لفت "المقداد" إلى أن فكرة هذه الرواية تتمحور حول التبدلات التي أحدثتها الحرب السوريَّة الطويلة في الحياة الاجتماعية للمجتمع السوري، والتغيير العميق الذي يُعدّ انقلابا على القيم والمبادئ الدينية والأخلاقية والاجتماعية، وظهر حالات عديدة للمُساكنات بين الشباب والبنات، بدون عقد أو رابط شرعي أو قانوني، بحيث أصبحت ظاهرة اجتماعية توجب تسليط الضوء عليها  

واضاف مؤلف رواية "الطريق إلى الزعتري" أن دلالة العنوان تنطبق تماما على الحدث الروائي بتفاصيل الشخصيات والأماكن والزمان الحالي لما قبل سنوات. ولماذا لم يكن الشارع الرَّئيس أو الأمامي. 

واستدرك أن "الشوارع الخلفية مُتوارية عن أعيُن الشُّرطة والأمن، وفيها يسود الظلام المُعزّز للنشاطات المشبوهة، وأوكار الدعارة وترويج المخدرات في نطاقات في مثل هذا الأمكنة الآمنة، وفي الشوارع الخلفية يجري ما يجري بعيدًا عن أعيُن الرَّقابة، ومنها يسهُل الهروب والتواري، إذا ما لزم الأمر لذلك".

وحول زمكانية الرواية أوضح"المقداد" أن مكان الرواية هو مخيم اليرموك في حارة من حاراته. وحصرا إحدى العمارات الفارغة من أصحابها الحقيقيين. واستغل الشَّبيحة العاملين مع النظام هذا المكان في مخيم اليرموك، بعد تهجير أهله قسرًا، وطردهم من بيوتهم، ليكون مسرحًا لنشاطات الشَّبيحة بسرقات محتويات البيوت، وبيع ما تبقَّى فيها مما يُباع ويُشترى.

ولم يقتصر موضوع الرواية على المساكنة المسكوت عنها بل تم تسليط الضوء على العديد من القضايا الناشئة نتيجة الحرب، اعتبارا من القتل والاعتقال والتهجير، وتعفيش البيوت والممتلكات، ومجزرة الميغ في العام 2012، وتخريب مقبرة الشهداء، وتدمير الأبنية التي تخدم الفلسطينيين في المخيم، الأونروا، وقصف المساجد.

 وتم تسليط الضوء أيضاً على مجموعة قليلة من سكان المخيم الذين لا قوة لهم ولاحيلة، بقيت هذه الفئة مختفية بين الركام، يكابدون أصعب أنواع الجوع فأكلوا الحشائش والنباتات من على جوانب الدمار.

 وحظيت رواية "بنسيون الشارع الخلفي" مؤخراً بدراسة لدرجة الدكتوراه من الباحثة "أثير عبد الله الفالح" في جامعة الملك سعود في الرياض بالمملكة العربية السعودية

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

قراءة انطباعيّة

في رواية "بنسيون الشارع الخلفي".

 

بقلم. رائد عساف. الأردن

 

حين تتحوّل الرواية إلى بيتٍ من نبض، ووجع، ونبوءة...

من بين عتمة الشوارع الخلفيّة حيث تختبئ الحكايات المهمّشة خلف جدران الزمن، تتسلّل رواية "بنسيون الشارع الخلفي" كضوءٍ خافت في آخر النفق، لتصير أكثر من نصّ أدبي، بل وثيقة حسيّة، حيّة، نابضة، تكتنز في تضاعيفها أرواح الشخصيات التي تنتمي إلى الهامش، لا إلى العناوين الرئيسة. بين دفّتي هذا العمل الأدبي المتفرّد، ينتصب البنسيون كمكانٍ رمزيّ، أشبه بصندوق خشبيّ قديم، لا يفتح بيده، بل بحسّه، ومن يفتحه يجد فيه وطناً مصغّراً، حزيناً، موجوعاً، لكنه حيّ... يصدر أنيناً يشبه أنين الشعوب المنسيّة في الخلف، تلك التي تقف خارج مرمى الضوء، لكنها تخلق المعنى الأعمق للحياة.

 

أعمق من السرد... أوسع من المكان...

الكاتب محمد فتحي المقداد لا يقدّم في "بنسيون الشارع الخلفي" رواية بمفهومها النمطي، بل ينحت مجازاً مكثفاً لتجربة إنسانيّة ممتدة، يضع القارئ أمام مشهد مركّب من التهجير، الحنين، الفقد، والأمل المرتبك. يشكّل البنسيون بؤرة روحيّة، سردية، تاريخية، ومكانية، فيها تتقاطع مصائر اللاجئين، العابرين، المهمشين، والمقهورين، الذين فقدوا بوصلة الوطن، لكنّهم لم يفقدوا البوصلة الداخليّة التي ما زالت تشير، رغم الانكسار، إلى جهات الضوء.

 

الشخصيات ليست نماذج سردية، بل كائنات حقيقية تنبض في الهامش. "نبهان"، تلك الطفلة التي تتحوّل شيئاً فشيئاً إلى رمزٍ جامع، إلى مرآة تعكس الطفولة المسحوقة تحت أقدام الحروب، والأنوثة المقتولة  تحت أنقاض القذائف، والوطن المختبئ في عيني فتاة لا تعرف تماماً لماذا غادرها كل شيء... ولماذا لا تعود الأشياء أبدًا كما كانت.

 

لغة تتنفس، وصور تحفر في الروح

يتميّز النصّ بلغة آسرة، مركّبة، مترعة بالإيقاع الداخلي الذي يجعل القارئ يعيش كلّ جملة كما لو كانت نبضاً . لا يكتب المقداد جملاً، بل يسكب أحاسيس في قوالب لغوية جديدة، مُطعّمة بصور فريدة، وتشبيهات لم تُستهلك، ومجازات طازجة. إنه لا يكتفي بأن يُصوّر الألم، بل يجعل القارئ يتذوّقه، يُلامسه، يتذمّره، ثم يبتلعه مرغماً، فيجد فيه طعم الحياة الذي لا يُنسى.

 

يقول عن الحنين:

"الحنين في البنسيون ليس كذكرى عابرة، بل كطفل يتدلّى من شرفة الغياب، يُلقي حجراً على نافذة القلب كلّ مساء، فيوقظه من سباته على صوت مَن رحلوا..."

أو حين يصف الغربة:

"الغربة هنا ليست مكاناً بعيداً ، بل شعورٌ ضيّق يسكن تحت جلدك، كلما حاولت نسيانه، نبض فيك كمسمار صدئ في الخريطة."

إنها لغة تكتب بالوجع، وتشبه في تدفّقها نهراً داخليّاً لا نرى من سطحه إلا بضع كلمات، بينما الأعماق تعجّ بعوالم كاملة من الرموز والدلالات والقصص.

 

البنسيون: مسرحُ الوجدان والمأساة الإنسانية

كل غرفة في هذا البنسيون تُخبّئ سرديّة مختلفة، وكل نزيلٍ فيه يمثّل فصلاً من فصول المنفى، من التاريخ المعذّب لشعوبٍ أُجبرت على أن تُهاجر داخل ذواتها قبل أن تُهاجر من جغرافيتها. نرى في هذه الرواية كيف يمكن للمكان الصغير أن يتحوّل إلى وطن بديل، إلى حكاية كبيرة، إلى قارة من الندوب، وإلى نُقطة في الذاكرة لا يمكن محوها.

ولا يغيب البعد السياسي عن النص، بل يتسلّل من بين الكلمات كأنفاس ساخنة بين البرد، يصرخ دون ضجيج، ويؤنّب الواقع دون خطابية. الكاتب لا يتكلّم عن القضايا الكبرى، لكنه يجعلنا نراها مجسّدة في أنثى، في دمعة عجوز، في لوحة على الجدار، أو في رغيف مكسور. هناك فلسطين وسوريا والعراق ولبنان، هناك القضية، الحصار، النكبة، الشتات، كلها متجسّدة دون أن تُعلن عن نفسها، بل تحضر كما يحضر الوجع في جسد مجروح لا يحتاج إلى تفسير.

 

نبهان: أنثى الحكاية، ومجاز الوطن

تتقدّم "نبهان" لتكون قوس الرواية، قلبها، وصرختها الخفيّة. إنّها ليست فقط طفلة، بل نصّ رمزيّ بامتياز، تمتزج فيه ملامح الطفولة والأنوثة، المدينة والخيمة، الأمل والانكسار. تكبر نبهان بين السطور كما تكبر الشجرة في أرضٍ مليئة بالحجارة، تصمد، رغم الجفاف، وتورق، رغم السخام.

الكاتب يعاملها كشخصيّة حقيقية تنمو على مرأى من القارئ، يرافقها في نشأتها، انهياراتها، هواجسها، وحتى في تلك اللحظات التي يُخيّل إليه أنّها تحاوره وتقول له ما لم يستطع قوله:

"أنا الذاكرة، حين يشيخ الجميع، وأنا الرصاصة التي لم تُطلق، أنا الصوت في الحنجرة المختنقة، والوطن حين يغادر الجميع..."

 

 البنسيون ليس آخر الطريق، بل بدايته

"بنسيون الشارع الخلفي" ليس عملاً يقرأ ثم يُنسى، بل هو عمل يُبقي فيك أثراً، تماماً كما تبقى الرائحة في ثيابٍ كانت معلّقة في بيتٍ سكنته الحرب. هو شهادة شعورية على عصرٍ من الألم، وشرفٌ أدبيّ على بوّابة الكتابة الصادقة، العميقة، التي لا تسعى للتجميل بقدر ما تسعى للتأمل، ولا تهدف إلى إثارة الشفقة بل إلى بعث الحياة من رماد الحطام.

 

هذه الرواية ليست مجرّد سطور، بل وطنٌ بملامح أنثى، بلهفة لاجئ، بصرخة قهر، وبحلمٍ لم يكتمل. رواية تأخذك من يدك إلى داخل الأزقة، ثم تتركك أمام ذاتك، بعيداً عن كلّ زيف، مشبعاً بأسئلةٍ لا إجابات لها... لكنها أسئلة تُذكّرك بأنك ما زلت حيّاً، وأن الحكاية... لم تنتهِ بعد.

كتبتُ هذه القراءة، لا بوصفها تحليلاً أدبيّاً فحسب، بل مشاركة وجدانية عميقة، وشهادة حبّ لهذا العمل الذي حفر عميقاً في وجداني، وأيقظ في قلبي يقيناً: أن الأدب، حين يُكتب بالدمع، يُخلّد في الذاكرة إلى الأبد.

 

 

التشظّي والقلق الوجودي

 

في رواية (بنسيون الشارع الخلفي)

دراسة نقدية في رمزية المكان والشخصيات

 

بقلم: منذر فالح الغزالي. سوريا

 

المقدّمة:

تأتي رواية بنسيون الشارع الخلفي بوصفها شهادةً سردية حارّة على زمن الانهيار والتمزق، حيث لا مكان ثابتاً، ولا هوية آمنة، ولا يقيناً يُعوّل عليه. يعتمد الكاتب على فضاءٍ مكانيٍّ محدد ومغلق - البنسيون - لاحتضان شخصيات مأزومة تعيش تمزقات وطنية ووجودية، في ظل انهيار القيم الاجتماعية، وتحلل المعايير الأخلاقية، كمجازٍ رمزيٍّ لوطنٍ خاضعٍ لحربٍ دامية، تتورّط فيها السلطة بقسوةٍ ضد شعبها، ويدفع المدنيون الثمن الأكبر في تشظيهم النفسي وانقسامهم الوجودي.

بذلك، لا تقدم الرواية سرداً تقليدياً قائماً على حدثٍ واضحٍ، أو حبكةٍ دراميةٍ متصاعدة، بل تشتغل على الانهيار البطيء للقيم، عبر أصواتٍ متعددةٍ تُمثّل أطيافاً متصارعةً من الشعب نفسه. في هذا السياق، تصبح الشخصيات ليست فقط كائناتٍ فردية، بل استعاراتٍ اجتماعية وطبقات رمزية من جسد الوطن المجروح.

1. الرؤية الوجودية في الرواية

تتمركز الرؤية الفلسفية للرواية حول سؤال الوجود في عالم يفقد كل شروط الأمان. ليس فقط وجود الذات في مواجهة نفسها، بل في مواجهة وطنٍ ينكفئ على شعبه، ويحوّل مؤسساته إلى أدوات قمع وعنف. هنا، تتحول الحياة إلى فعل انتظار طويل للمجهول.

"كلّ شيء يتآكل ببطء. نحن نعيش في قبو الزمن، ولا نعلم إن كان الصباح آتياً أم لا."

الزمن في الرواية متآكل، واللغة محمّلة بالشروخ النفسية والخراب الداخلي.

لا أعرف متى دخلت البنسيون، ولا متى سأخرج كلّ شيءٍ يشبه كلّ شيء، حتى أنا لا أعرفني.

هذه العبارة تجسّد تماماً مركزية القلق الوجودي في النص، حيث الذات لا تثق في الحواس، ولا تجد يقيناً في أيّ بعدٍ من أبعاد الواقع، وهو ما يتماشى مع الرؤية الوجودية عند كامو وكيركغارد: الإنسان كائنٌ في مأزقٍ دائم.

هذه الرؤية الوجوديّة تتغذّى على غياب الأفق السياسي والأخلاقي، وانعدام المرجعيّات، والشكّ في جدوى اللغة والمعنى. وهي تُحاكي تيار "العبث المعنوي" الذي نجده لدى ألبير كامو في "الغريب" وصامويل بيكيت في "في انتظار غودو"، حيث الفعل البشري يتحوّل إلى طقس من العجز والتكرار.

2. البنسيون: الوطن في مرايا التهجير الداخلي والحرب الأهلية

البنسيون كمكان رمزي:

يمثل البنسيون أكثر من مجرّد مكان إقامة؛ إنه الوطن المصغّر، المقطّع، والمسيّج بالخوف. تتحول غرفه إلى مقاطعات نفسية، تعكس حال الانفصال بين مكوّناته، وكأنّ قاطنيه يمثّلون شعباً مشتتاً داخل وطنٍ فقد وظيفته كحاضنةٍ للانتماء والنجاة.

"لا أحد يعرف أحدًا، وكلّ الغرف مغلقةٌ، حتى لو كانت مفتوحة."

في ظل انهيار الدولة وتحوّلها إلى جهازٍ قمعيٍّ يشنّ حرباً أهليةً على مواطنيه، يتحوّل البنسيون إلى مأوىً للهاربين، المنفيين، المهمّشين.

لا تسأل أحداً من أين جاء. كلّ من في البنسيون جاء من جهةٍ خائفة."

هذا المكان، بما فيه من غرف متشابهة، وجدران مكتومة، ووجوه شاحبة، يُجسّد الوطن المقهور الذي لا يوفّر سوى الظلّ لمن فقدوا الضوء. إنه حاضنة جراح جماعية، لكنه أيضاً انعكاسٌ لنظامٍ مأزومٍ في الخارج.

البنسيون كمجتمع بديل مأزوم:

البنسيون يختصر المجتمع الخارج من رحم الصراع. حيث يُجبر الناجون من الحرب على التعايش، دون مصالحة. يعيشون جنباً إلى جنب، لكنهم مقسمون عاطفيّاً وذهنيّاً وانتمائيّاً. بعضهم يعادي بعضًا صامتًا، وبعضهم لا يتكلم.

بهذا المعنى، يتحول البنسيون إلى بنيةٍ ما بعد وطنية، أو وطنٍ بديل مُحمّلٍ بالخذلان، والرقابة الذاتية، والتباس العلاقات، والتشكيك في الآخر.

في غياب الدولة، ينشأ داخل البنسيون مجتمعٌ هامشيٌّ يعيد تشكيل نفسه وفق منطق البقاء، لا العدل، تتفكّك فيه الروابط، وتفشل فيه العلاقات، ويتحوّل الإنسان إلى كائنٍ ساكنٍ" لا يصنع مصيره، بل ينتظر نهايته.

3. الحبكة: لا حدث إلا التشظي

بنية (اللا) حبكة:

تتجنّب الرواية البناء الدرامي الكلاسيكي، وتختار سرداً تفكّكيّاً، يقوم على تيّار الوعي، وتقطيعٍ زمنيٍّ مقصود. لا نجد حبكةً تصاعدية، بل تتكرّر المشاهد، وتتداخل الأزمنة، لتصوير حالة الدوار النفسي والجمود الوجودي.

"لا شيء يحدث. فقط الأيام تتكرر بلون رمادي، وكأن الزمان لا معنى له".

اللاحدث في الرواية هو حدثٌ بحدّ ذاته، لأنه يعكس غياب الأفق، وانسداد المعنى، وانهيار القيمة في عالم الشخصيات.

تختار الرواية، عن عمدٍ، أن تكون بلا حبكةٍ دراميةٍ تقليدية. لا توجد بدايةٌ بالمعنى الكلاسيكي، ولا عقدةٌ، ولا ذروةٌ، ولا خاتمةٌ حاسمة. كلّ شيءٍ متّصلٌ ومقطوعٌ في الوقت ذاته.

"الأيام تتكرّر مثل وجوه النزلاء، ولا أحد يتغير، إلا في داخله المكسور."

تيار الوعي والسرد المتقطع:

يُبنى السرد على أساس تيّار الوعي والداخل النفسي، حيث تسرد الشخصيات أفكارها، انطباعاتها، هواجسها، دون ترتيبٍ منطقيٍّ. هذا الخيار الفنّي يُحاكي الفوضى الداخلية التي يعيشها الإنسان وسط العنف السياسي والاجتماعي.

4. تحليل الشخصيات الرئيسية

تركّز الرواية على ثلاث شخصياتٍ محوريةٍ: نبهان، ميرا، وسدرا، تتحرك جميعها في مساحةٍ تحاكي التيه والانكسار والبحث عن ذاتٍ مفقودة.

سدرا: الأنثى الجريحة/الواعية

تُعدّ "سدرا" من أبرز شخصيات الرواية، إذ تجمع بين الألم والوعي، بين الجسد الأنثوي المقموع، والعقل الرافض للامتثال، وهي تمثّل الأنثى في مجتمعٍ ينكرها ثم يعاقبها. هي صوت الأنثى في مجتمعٍ فقد توازنه القيمي.

سدرا كانت تنام بقميصٍ أبيض باهت، كما لو أنها ترفض أن تكون مرئية.

سدرا ليست شخصيةً خاضعة، بل واعية، تراقب بصمت، وتلخّص ما لا يستطيع الآخرون التعبير عنه. تمثّل الفئة المظلومة والمهمّشة التي لم تشترك في الحرب، لكنّها دفعت الثمن الأثقل.

"سدرا كانت الوحيدة التي لا تكره أحداً، لكنها لم تعد تحب أحداً أيضاً."

كأنها "الوطن/الأم" الذي أهمله الجميع، لكنّه ما زال يحمل القدرة على النظر بعين العدل، رغم الصمت.

ميرا: الانفجار الداخلي للمقموع

ميرا شخصية مشوشة وغاضبة، تمثل الشقّ المتمرّد والعنيف في بنية المجتمع. هي المنفيّة النفسية التي لا تصالح، ولا تتعايش، لكنها أيضاً لا تجد الخلاص.

"ميرا تنفجر كلما ساد الصمت. كأنها ترفض السكون لأنه يشبه القبر."

تمثّل ميرا شريحةً من المجتمع، لم تعد تؤمن بأيّ إصلاحٍ أو عدالة، وتحاول أن تهدم كلّ شيءٍ لأنها فقدت الإيمان بكلّ شيء.

وكأنها انعكاس لـ "نبهان" و"سدرا" في أكثر حالاتهما اضطراباً. هي أقرب إلى (الظلّ النفسي) غير المتكيّف، وغير المُتصالح، والعنيف إذا لزم الأمر.

ميرا لم تكن تتكلم كثيراً، لكنها عندما تنفجر، تقول كلّ شيءٍ دفعةً واحدة، كأنها تفرغ الحرب من صدرها.".

ميرا تُجسّد العنف المضادّ للخذلان، والوعي الحادّ بما يدور خلف الأقنعة.

نبهان: الوعي القَلِق

نبهان ليس مجرّد بطلٍ تقليديٍّ للرواية، بل هو مرآةٌ شديدة الحساسية للهشاشة النفسية والاجتماعية التي خلّفتها الحرب والانهيار الوطني. إنه الشخصية التي تدور حولها الأحداث، لا لأنّه فاعلٌ قويٌّ، بل لأنه كائن مُراقِب ومُثقل بالأسئلة. يفتقر نبهان إلى الحسم، ويتحرّك داخل الرواية بثقلٍ شعوريٍّ كثيف، كأنّما يمثّل "الذات السورية المسحوقة"، التي فشلت في الفعل السياسيّ أو الأخلاقيّ، فانسحبت إلى منطقةٍ بين الحياة والموت.

"نبهان لم يعد يحلم بشيء، لكنه ما زال يخاف من أن يصحو فجأة على كل ما فقده."

هذا التوتر بين الخوف والرغبة في الاختفاء هو ما يصنع طاقة الشخصية. فهو حاضرٌ، لكنّه دائم الميل إلى التلاشي.

هو يمثّل صوت المحايد المأزوم، الذي لا يقف مع طرف، لكنه يدفع الثمن؛ يعيش على الهامش، خائفاً من كل شيء، غريبًا في وطن لا يشبهه. هو رمز للجيل الخاسر في وطن مأزوم، يُجسد جيلاً ورث شعارات كبرى عن الوطن والحرية، ليجد نفسه بين مطرقة الاستبداد وسندان الحرب الأهلية.

في الرواية، نبهان ليس ضحيّةً فقط، بل ممثلٌ للضمير المكسور، الذي فشل في المواجهة، فانسحب إلى صمتٍ داخليٍّ يُعاني من خرَسٍ وجوديٍّ؛ لكنّه يظلّ الأكثر وعياً بما حوله. من هنا، فدوره ليس البطولة، بل التأمّل: هو شاهدٌ على انقراض المعنى والقيمة.

من أبرز الملامح الرمزية في شخصية نبهان، أنه يتاجر بالكتب المخطوطة، لا بالكتب المطبوعة أو الحديثة. وهذا التفصيل البسيط ظاهريّاً يحوي طبقاتٍ من الدلالة:

- رمزيةٌ أولى تكمن في أنّ نبهان لا يقرأ تلك الكتب. هو مجرّد وسيطٍ، وهذا يعكس انقطاع المثقّف عن فاعليته التاريخية. فالمعرفة تحوّلت إلى سلعة، والكاتب/القارئ إلى تاجر خائف.

"لم يكن نبهان يعرف إن كان زبائنه يقرؤون تلك المخطوطات، لكنه كان يعرف أنها لن تغيّر شيئاً."

- في ظل الحرب، لا أحد يطلب الكتب. وبالتالي، فإن بيع المخطوطات هو محاولة يائسة للإبقاء على أطلال الحضارة بينما تُقصف المدن.

يمثّل "نبهان" النموذج الكلاسيكيّ للمهزوم؛ لكنّه ليس جباناً، بل مرهقاً من كثرة الخسارات. هو ضحية وطنٍ دمويٍّ ومنفىً باهت. لا يبحث عن خلاصٍ، بل عن مساحة صمتٍ، عن ركنٍ لا يُؤذى فيه.

"نبهان لم يعد يتذكر حتى صوت أبيه، لكنه لا ينسى كيف كانوا يركضون من الرصاص في زقاق الطفولة".

يمثّل نبهان حالة اغتراب مركّبة: عن الوطن، عن الجسد، وعن التاريخ الشخصي. حيث الإنسان غريبٌ عن ذاته، عن الآخر، وعن المكان. فالبطل نبهان يمثّل صوت الفرد المهزوم، الخارج من وطنٍ يقتل أبناءه، إلى منفىً باردٍ لا يحتضن أحداً.

خاتمة:

رواية بنسيون الشارع الخلفي ليست حكاية أفراد، بل مجازٌ أدبيّ لوطنٍ ممزّقٍ في حالة حرب صامتة وصريحة. الشخصيات تمثّل أطيافًا من الشعب الصامت، الغاضب، المنفي، والمقموع. أما البنسيون، فهو المرآة المعتمة التي تعكس تفتّت الوطن، وعجزه عن احتواء نفسه.

تشكّل رواية بنسيون الشارع الخلفي مشروعاً سردياً وجودياً، يطرح أسئلةً عن الوطن، المنفى، الذات، الموت، والنجاة.

هي ليست حكاية حدثٍ، بل سردٌ لانكسارٍ جماعيٌّ في وجه قمعٍ سياسيٍّ واجتماعيٍّ وأخلاقي. الشخصيات ليست أدواتٍ للحبكة، بل أصواتاً سرديةً تعرّي الخسارات الفردية والجماعية.

البنسيون هنا ليس مكاناً، بل وطناً بديلاً مفخخاً، تمجيداً للصمت، وتأبيناً للحرّيّة. إنها روايةٌ عن الخسارات الكبيرة، التي لم تعد تُبكى، بل تُروى على مهل، في غرف مكتومة، خلف نوافذ لا تُفتح.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اقتحام جريء لعالم التابوهات

في رواية

"بنسيون الشارع الخلفي"

بقلم الروائي. محمد الدعفيس. سوريا

 

لا يتهيب الروائي محمد فتحي المقداد ملامسة حدود التابوهات في الكتابة الروائية، ولا يخشى اقتحام عوالمها، حيث يطلق صرخة مدوية في روايته "بنسيون الشارع الخلفي" تعلن أن الفساد والقمع والقصف والدمار الذي تزرعه الأنظمة لا بد أن ينعكس دمارا في النفوس، وخرابا في الأخلاق، وتعميما للخيانات والانتهاكات والتجاوزات.

ابتداء من العنوان الذي بدت فيه مفردة "بنسيون" غريبة بعض الشيء عن بيئة دمشق وما يحيط بها من قرى وتجمعات صغيرة تتلامس معها وتتشابك حيث تجري أحداث الرواية، يصر المقداد على أن يضعنا في جو غرائبي كأنما يريد القول إنه "حين ينخر سوس الخراب في مكان فإن كل ما يلامسه يتحول إلى خراب". لذا فإنه يختار البنسيون، وهو المسكن الذي يقطن فيه صاحبه ويؤجر بعض غرفه لآخرين، مسرحا لروايته مع كل ما يسمح به مثل هذا المكان من التقاط لأشخاص من مشارب عدة، لكنه في روايته يوقعهم في مستنقع الآثام ربما لأنهم يرون في ذاك وسيلتهم الأسهل لمواجهة تبعات الحياة وصعوباتها في ظل حرب طاحنة وتدمير ممنهج يمارسه النظام ليهدم المكان والتاريخ وحياة الناس وارتباطهم بذكرياتهم، وعنهم يكتب: "توافق غير معلن بين طائفة البنسيون، مختلفون بطبائعهم بمنابتهم وأصولهم وانتماءاتهم الدينية والعرقية والطائفية، فكان البنسيون بوتقة صهر هذا التنافر، ليكوّن منهم منتجا جديدا".

يرسم المقداد صورة لبطل روايته "نبهان" الذي أخرجه والده مبكرا من مبكرا، فلا هو تعلّم، ولا هو يعرف حتى كيف يدير "بنسيون"، فيكتب: "نبهان بطبيعة تواجده حديثا في المنطقة، يعتبر عابرا كما المارون... لم يدرك هذه الجزئية المهمة. العابرون لا يلبثون إلا قليلا".

ويكمل "نبهان مشغول فكره دوما، فهو لا يتأمل أي شيء إلا إذا أراد معاينة مكان ليرى ما يستطيع أخذه، وتشليح ما يمكنه تشليحه".

ويواصل: "ذاكرة نبهان متخمة بأحلام الثراء والمال والأعمال".

هذه الصورة لشخص انتهازي، لم تسلم منه ـ على الرغم من جهله ـ حتى الكتب القديمة المنسية في مكتبات هجرها أصحابها وفروا للنجاة بأرواحهم، ولم يلحقها تشبيح ركز على الأثاث والقطع الكهربائية، يجعل من المفهوم والمتسق مع تطور الرواية أن ينتهي إلى الغرق في رحلة هروبه من "أبو حيدر" الذي كان يتحين فرصة انتهائه من جمع تلك الكتب ليحصل عليها ويبيعها دون عناء.

و"أبو حيدر" لارجل الذي يدير الدفاع الوطني في المنطقة ـ التشكيل الذي أوكل إليه النظام نصب الحواجز وتقطيع أوصال العاصمة، هو كما كتب المقداد في الرواية: "المعلم الكبير. بيده مقاليد الأمور كلها هنا، فهو يمسك بالمنطقة الجنوبية بأكملها من العاصمة".

وبذكاء يرسم المقداد كذلك صورة لمدينة تحت الحرب، بما يبرر كل ما مر عليه في الرواية من انحطاط، فيكتب: "في الحرب تباع الكرامات والذمم، ويُداس الشرف، وتُكسر سيوف العزة، وتضيع الأنساب، ويصعد التّحوت، وتُشوه الحقائق، وتُسوق الأكاذيب والأضاليل على أنها حقائق، ويكثر العرابون، وتصبح الشياطين ملائكة".

"بنسيون الشارع الخلفي" رواية صادمة، كاشفة، مكتوبة بلغة بسيطة، يجرب فيها المقداد أشكالا عدة من السرد، مستخدما الكتابة بضمير الغائب حينا، وضمير المتكلم أخرى، خالطا بين الاستذكار والمناجاة الذاتية والاستباق، ومازجا بين الأزمنة مثل لاعب سيرك يتفنن في قذف كراته والتقاطها.

 

 

 

 

 

هل الحروب تُدهور الأخلاق أم تكشف الخلل؟

قراءة في رواية "بنسيون الشارع الخلفي"

 

بقلم. ريما آل كلزلي. سوريا

 

تُطرح الحروب دائماً كأحد أكثر الظواهر تأثيراً على المجتمعات والأفراد، فهي تمثل اختباراً قاسياً للأخلاق والقيم الإنسانية. لكن يبقى السؤال: هل الحروب تُفسد الأخلاق وتجعلها تتدهور، أم أنها مجرد مرآة تكشف عن الخلل الأخلاقي الكامن في النفوس والمجتمعات؟ رواية "بنسيون الشارع الخلفي" للروائي السوري محمد فتحي المقداد، تُقدم تصوراً عميقاً ومعقداً للإجابة عن هذا السؤال، من خلال تتبع التحولات الأخلاقية للشخصيات في ظل ظروف الحرب القاسية. وتضعنا أمام نموذجين من وجهات النظر والشخصيات التي مثلتهما.

 

أولا/ وجهة النظر الأولى: الحروب تُدهور الأخلاق.

تُظهر الرواية كيف أن الحروب تخلق بيئة قاسية تدفع الأفراد إلى التخلي عن قيمهم الأخلاقية في سبيل البقاء وتعيد تشكيلها. على الأخص في ظل انعدام الأمان والجوع والخوف، تصبح الأنانية والخيانة والعنف وسائل مُبررة للبقاء. هذه الظروف تدفع الشخصيات إلى قرارات أخلاقية تتعارض مع المبادئ المُعتنقة في أوقات السلام. 

 

وفقاً للفيلسوف توماس هوبز، فإن الإنسان عندما يكون في حالة غياب القانون والنظام يتحول إلى "ذئب لأخيه الإنسان". تنعكس هذه الفكرة في الرواية من خلال الصراعات التي تنشأ بين نزلاء البنسيون، حيث يتحول المكان الذي كان يُفترض أن يكون آمناً إلى ساحة للفوضى والصراعات.

 

على سبيل المثال،( نبهان: شخصية انتهازية بطبعها، كشفت الحرب عن الجانب الانتهازي في شخصيته، وزادت من جشعه ورغبته في السيطرة. إذ يستغل الفوضى لتحقيق مكاسب شخصية، سواء بالمال، أو النفوذ، أو الموارد.

حيث يسعى إلى تحقيق مكاسب شخصية بأي ثمن.  كان هدفه الحقيقي يتمثل في استغلال الآخرين والتضحية بهم، فكان مستعدًا للتخلي عن القيم الأخلاقية وحتى عن المقربين إذا كان ذلك يخدم مصلحته أو يعزز مكانته. 

كما أظهرت الحرب افتقاره لأي تعاطف مع المتضررين، فهو يركز فقط على مصالحه الخاصة، حتى لو كان ذلك على حساب معاناة الآخرين.  قد تؤدي الحرب إلى دفع نبهان لمواجهة لحظات ضعف أو مواجهة عواقب أفعاله، لكنه غالبًا ما يستغل هذه اللحظات ليعيد بناء نفوذه بطرق غير أخلاقية.)

 

أما ( سيرا فقد أكدت هذا الرأي بكونها شخصية غير أخلاقية تدفعها رغبتها في التغيير إلى تجاوز القواعد الأخلاقية، مما يجعلها تفرض رؤيتها بالقوة أو تتجاهل تأثير أفعالها على الآخرين. إذا شعرت بأن الحرب عرقلت طموحاتها أو ألحقت بها ضررًا شخصيًا، قد تتحول إلى شخصية انتقامية لا تهتم إلا بمصالحها.) وهذه الشخصيات لا تعكس فقط الانهيار الأخلاقي، بل تُظهر كيف أن الحرب تُجبر الأفراد على مواجهة تغييرات جذرية في منظومتهم القيمية. 

الشخصيات التي كانت تتسم بالطيبة والتعاون تتحول تحت وطأة الظروف إلى شخصيات أنانية، تعكس كيف أن الحرب قادرة على تحطيم الروابط الإنسانية التي كانت تشكل نواة الأخلاق. حتى مشاهد العنف والقسوة التي تُمارسها الشخصيات تجاه بعضها البعض، ليس بدافع الكراهية الشخصية، بل كرد فعل على الظروف الصعبة. فيعكس كيف أن الحرب لا تُظهر فقط الأخطاء، بل تصنع تغيرات جذرية في طريقة تعامل الأفراد مع بعضهم.

 

ثانياً/وجهة النظر الثانية: الحروب تكشف الخلل الأخلاقي ، إذ يمكن اعتبار الحروب كاشفة وليست صانعة للأخلاق. فهي تضع الإنسان في مواقف حاسمة تُبرز ما كان خفياً في داخله. من يملك قيماً أخلاقية راسخة يتمسك بها حتى في أصعب الظروف، بينما من يفتقر إلى المبادئ يظهر على حقيقته. بمعنى آخر، الحروب ليست سبباً للانهيار الأخلاقي، لكنها اختبار يكشف مدى رسوخ القيم لدى الأفراد. 

 

وفقاً لنيتشه، الحروب والأزمات تكشف هشاشة القيم التي تبدو قوية في أوقات السلم. في كتابه "ما وراء الخير والشر"، يرى نيتشه أن القيم الأخلاقية ليست ثابتة، بل هي انعكاس لموازين القوى في المجتمع. الحرب، إذن، تكشف عن تناقضات خفية في النفوس البشرية. 

 

الرواية تُبرز هذا الجانب بشكل واضح، حيث نجد أن بعض الشخصيات، مثل نورما (بدت في البداية شخصية أخلاقية ملتزمة حافظت على قيمها وأظهرت شجاعة وتضحية رغم الظروف القاسية. لكن مع ازدياد الضغوط والمخاوف وجدت نورما نفسها منهكة عاطفيًا، تفقد التوازن وتصبح أقل قدرة على تحمل الأعباء. وعبرت عن هشاشة القيم التي كانت تحملها، إلى أن تمكنت من  الهروب واستطاعت أن تنعزل عن الآخرين خوفًا على نفسها أو نتيجة للإحباط. في النهاية تراجعت نورما لتكون شخصية داعمة، تُظهر التعاطف مع المتضررين وتحاول مساندتهم نفسيًا وماديًا)، تُظهر شخصية نورما في الرواية أن القيم السطحية تنهار بسهولة تحت الضغط، بينما القيم الأخلاقية المتجذرة تصمد أمام الأزمات. 

 

بين وجهتي النظر: الحروب تفعل الأمرين معاً ما يجعل هذه الرواية "بنسيون الشارع الخلفي" عملاً مُميزاً هو قدرتها على تقديم رؤية معقدة ومتعددة الأبعاد. فهي تُظهر أن الحروب تقوم بالأمرين معاً: 

1. تدهور الأخلاق: بسبب الضغوط النفسية والجسدية التي تُجبر الأفراد على التخلي عن قيمهم للبقاء. 

2. كشف الخلل الأخلاقي: حيث تعمل كاختبار يُظهر حقيقة القيم والمبادئ التي يحملها الأفراد والمجتمعات. 

 

المجتمع المصغر في البنسيون، الذي بدا متماسكاً في البداية، يكشف عن تصدعات أخلاقية كانت موجودة بالفعل. الرواية تُبرز كيف أن القيم الأخلاقية الهشة تتحطم تحت وطأة المعاناة، بينما القيم الراسخة تُصبح أكثر وضوحاً. وقد وزع الروائي شخصياته كرموز لرؤى متناقضة لتعبر عن وجهتي النظر المختلفتين.

 

تكشف رواية "بنسيون الشارع الخلفي" عن حقيقة معقدة، وهي أن الحروب ليست سبباً لتدهور الأخلاق بقدر ما هي مرآة تُظهر ما كان يكمن تحت السطح. لكنها في الوقت نفسه تُعيد تشكيل سلوكيات الأفراد ومنظومتهم القيمية وفقاً للضغوط التي يواجهونها. المجتمعات ذات البنية الأخلاقية الضعيفة تكون أكثر عرضة للانهيار أثناء الحروب، بينما المجتمعات ذات القيم المتماسكة تميل إلى الصمود رغم الانتهاكات التي قد تحدث. 

 

يبقى السؤال الأهم الذي تُطرحه الرواية: هل نحن ضحايا للظروف، أم أن الأخلاق هي ما يُميزنا حتى في أشد الأوقات قسوة؟ الإجابة قد تكون مزيجاً من الاثنين معاً، حيث إن الحروب تُظهر خير الإنسان وشره في آن واحد، ما يجعلها اختباراً حقيقياً للإنسانية.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الرمزيّة في رواية "بنسيون في الشّارع الخلفيّ"

- بين التّحليل السّرديّ والتّأويل الفلسفيّ

 

بقلم. أ.د. سعاد بسناسي- جامعة وهران1، الجزائر

 

قبلَ البدءِ أقولُ:

(الحياةُ رقصةُ ظلٍّ ونورِ، فيها ما يُقال وما لا يُقال، ما يُرى وما يُحسّ؛ هي مرآةٌ تُحدّق فينا بوجوهٍ لا تُحصى، وفي صمتها همسُ المعنى لمن يُنصت بقلبٍ لا بعين). سعاد بسناسي.

نسيرُ في دروبها كأنَّنا ننسجُ من لحظاتها خيوطًا من سؤالٍ ودهشة، نرتشفُ من عذاباتها شرابًا يكشف السّترَ عن وجهِ الحكمةِ، ونبتسمُ حين نكتشفُ أنَّ الجُرحَ ما كان إلاَّ نداءً للاستيقاظ.

كلّ ما حولنا يبوح،

 وإن تظاهر بالصّمت،

الرّيحُ حوارٌ، والغيمُ قصيدةٌ من حنينٍ غابر، والحَجَرُ حكمةٌ مطويّةٌ في كتاب الزّمن.

فما الحياة إلاّ مجلى لمعاني تتقلّب بين التجلّي والحجاب، بين البوح والإشارة... ومن تذوّقها بلُبّه لا بعقله، أدرك أنّ كلّ شيء فيها يُشير إلى شيء أبعد، وأنّ المسكوت عنه أبلغ من المُعلن إن أُصغي له من مقام الصّفاء).

اسمحولي وإن أطلتُ قبل البدء، فليس ذلك إلاّ لأنّ قبل البدء بدءٌ ظاهرٌ ومضمرٌ وبينهما مسكوتٌ عنه خفيٌّ خلفيٌّ كما في بنسيون في الشّارع الخلفيّ....

1-       الفروق الدّقيقة في المعجم العربيّ بين (الفندق، والنّزل، والبنسيون) تتطلّبُ أن نتوقّف عندها، حيث تتداخل الدّلالات بين الأصل اللّغويّ والاستخدام المعاصر، وتكمن الفوارق في الآتي:

 

 أ- الفندق: الأصل اللّغويّ: كلمة "فندق" معرّبة من اليونانيّة  "πανδοχεῖον" (pandocheion)، عبر اللّغات الأوروبيّة، وتعني مكانًا يستقبلُ الجميع.

- الدّلالة المعاصرة:

  - مكانُ إقامةٍ مؤقّت للسّياح والمسافرين.

  - يتّسمُ عادةً بالفخامةِ أو التّنظيم التّجاريّ.

  - يقدّمُ خدماتٍ متعدّدةٍ: غرف، مطاعم، استقبال، أحيانًا مرافق ترفيهيّة.

- الطّبقات الاجتماعيّة: يرتبطُ غالبًا بالطّبقة الوسطى فما فوق، ويُستخدم في السّياقات الرّسميّة والسّياحيّة.

 

 ب- النُزُل: الأصل اللّغويّ: من الجذر "نزل"، أي أقام أو حلّ بمكان. ورد في القرآن الكريم: "نُزُلًا من غفورٍ رحيم".

- الدّلالة المعاصرة:

  - مكانُ إقامةٍ بسيطٍ، غالبًا ما يكون أرخص من الفندق.

  - يُستخدمُ أحيانًا للإشارة إلى بيوت الشّباب أو أماكن إقامة جماعيّة.

  - قد لا يقدّم خدمات فاخرة، بل يركّز على الوظيفة الأساسيّة: المبيت.

- الطّبقات الاجتماعيّة: يرتبطُ بالبساطة، ويُستخدمُ في السّياقات الأدبيّة أو الرّسمية التي تميل إلى الفصحى.

 ت- البنسيون: الأصل اللّغويّ: كلمة فرنسيّة pension، دخلت العربيّة عبر الموجات الاستعماريّة  أو التّبادل الثّقافيّ.

- الدّلالة المعاصرة:

  - مكان إقامة صغير، غالبًا تديره عائلة أو أفراد.

  - يقدّم غرفًا للإيجار، أحيانًا مع وجبات منزليّة.

  - يُستخدم في المدن الصّغيرة أو الأحياء القديمة، وله طابع حميميّ.

- الطّبقات الاجتماعيّة: يرتبط بالطّبقة المتوسّطة أو المحدودة، ويُستخدم في اللّهجات أو السّياقات غير الرّسميّة.

رواية "بنسيون الشّارع الخلفيّ" للرّوائيّ السّوريّ محمّد فتحي المقداد هي عملٌ أدبيٌّ جريءٌ ومؤلمٌ، يكشفُ المسكوت عنه في المجتمع السّوريّ خلال سنوات الحرب، تسلّطُ الرّواية الضَّوء على التَّحوُّلات الاجتماعيّة والأخلاقيّة التي فرضتها الحرب السّوريّة، من خلال تصوير واقع مخيّم اليرموك بعد تهجير سكّانه، حيث تحوّل إلى مسرح لانتهاكات متعدّدة:

- المساكنة غير الشّرعيّة بين الشّباب والفتيات دون رابط قانونيّ أو دينيّ

- التّعفيش وسرقة البيوت من قبل الشّبّيحة (كلمة "التّعفيش" في سياق النّزاعات المسلّحة تعني نهب وسرقة محتويات المنازل والممتلكات الخاصّة في المناطق التي تشهد صراعًا أو أصبحت خالية بسبب النّزوح. ويُشير مصطلح "التّعفيش" تحديدًا إلى سرقة الأثاث المنزليّ...)

- تفكّك القيم الأخلاقيّة والدّينيّة

- القتل، القصف، الاعتقال، الجوع، وأكل الحشائش للبقاء على قيد الحياة.

رواية "البنسيون الخلفيّ" هي عملٌ أدبيٌّ يعكسُ الواقع الاجتماعيّ والسّياسيّ في سوريا من خلال عدسة سرديّة تجمع بين الواقعيّة والرّمزيّة.  يحملُ العنوان دلالة رمزيّة؛ ـ"البنسيون" مكان إقامة مؤقّت، و"الخلفيّ" يوحي بالعزلة أو التّهميش، ممّا يعكس حال الشّخصيّات أو المجتمع الذي تصوّره الرّواية.

- المكان: تدور أحداث الرّواية في بنسيون يقع في أحد الأحياء الدّمشقيّة، ويضمّ مجموعة من الشّخصيّات المتنوّعة، كلّ منها يحمل قصّة ومأساة.

- الزّمن: يمتدّ السّرد عبر مراحل مختلفة من التّاريخ السّوريّ، مع التّركيز على التّحوّلات السّياسيّة والاجتماعيّة التي أثّرت على حياة النّاس.

 

 الشّخصيّات الرّئيسة في الرّواية:

الرّواية لا تركّز على شخصيّة واحدة بل ترسم لوحة جماعيّة من:

- الشّبّيحة الذين استغلّوا البيوت المهجورة

- الشّباب والفتيات الذين لجأوا إلى المساكنة في ظلّ غياب الأمان

- السّكّان المتروكون خلف الرّكام الذين يكابدون الجوع والذّل

- الرّاوي أو المراقب الذي ينقل الأحداث بواقعيّة نقديّة

- نزلاء البنسيون: كلّ منهم يمثّل شريحة من المجتمع السّوريّ—من المثقّف المنكسر، إلى اللاّجئ، إلى المرأة المهمّشة، إلى رجل الأمن.

- صاحب البنسيون: شخصيّة رمزيّة تمثّل السّلطة أو النّظام، يفرض قوانينه الخاصّة على النّزلاء.

- أبو عادل: أحد سكّان المخيّم القدامى،  يمثّل الجيل الذي تمسّك بالقيم رغم الخراب، شاهد على التّحوّلات الأخلاقيّة، يثير الحنين والمرارة.

- رنا: فتاة شابّة تسكن في البنسيون، تجسّدُ الضحيّة التي تحوّلت إلى أداة للبقاء، تعكس هشاشة القيم أمام الجوع والخوف.

- سامر: شابّ هارب من الخدمة العسكريّة، يعيشُ مساكنة مع رنا، يرمز إلى التّمرّد على السّلطة والبحث عن مأوى، لكنّه يتورّط في الفساد.

- أبو نزار: شبّيح استولى على بيت مهجور، يمثّل السّلطة القمعيّة غير الرّسميّة، يفرض سطوته على السّكّان، يرمز لانهيار القانون.

- أمّ علاء: أرملة تعيش في البنسيون، تحاول الحفاظ على كرامتها وسط الفوضى، تمثّل صوت الضّمير النّسائيّ المقاوم.

- علاء: ابنها، مراهق ضائع، ضحيّة الحرب، يتورّط في السّرقة والتّعفيش، يرمز إلى جيل فقد البوصلة.

- الرّاوي: مراقب للأحداث، شبه خفيّ، ينقلُ الواقع بمرارة وحياد، يمثّل صوت الكاتب، ويطرح الأسئلة الأخلاقيّة الكبرى.

 

- تأثير الشّخصيّات في البناء الرّوائيّ:

 

- رنا وسامر: علاقتهما غير الشّرعيّة هي محور نقد اجتماعيّ، تكشف كيف تتحوّل العلاقات إلى أدوات للبقاء.

- أبو نزار: وجوده يخلق التّوتّر، ويجسّد السّلطة الفاسدة التي تفرض نفسها في غياب الدّولة.

- أمّ علاء: تمثّل المقاومة الصّامتة، وتحاول الحفاظ على القيم وسط الانهيار.

- الرّاوي: لا يتدخّل، لكنّه يسلّط الضّوء على التّناقضات، ويطرح الأسئلة دون إجابات جاهزة.

 

شخصيّة رنا في "البنسيون الخلفيّ" تستحقّ تأمّلًا عميقًا، لماذا؟ فهي ليست مجرّد فتاة تسكن في الظّل، بل تمثّل الأنثى السّوريّة المعذّبة بين الحرب والجسد، بين الحاجة والكرامة، بين المسكوت عنه والمُفصح عنه قسرًا.

- تحليل سيميائيّ-وجوديّ لشخصيّة رنا:

- البنية الظّاهرة:

رنا فتاة شابّة، جميلة، تسكن في البنسيون مع سامر، في علاقة مساكنة غير شرعيّة. تبدو في البداية كضحيّة، ثمّ تتحوّل تدريجيًّا إلى شخصيّة أكثر تعقيدًا، تتقن التّفاوض مع الواقع، وتعيد تعريف أنوثتها في ظلّ الحرب.

- المسكوت عنه في شخصيّة رنا:

1- الجسد كأرض محتلّة:

- جسد رنا ليس ملكًا لها، بل أصبح عملةً للتّفاوض: مع سامر، مع الشّبّيحة، مع الجوع.

- المسكوت عنه هنا هو الاغتصاب الرّمزيّ الذي تمارسه الحرب على الجسد الأنثويّ، دون أن يُسمّى اغتصابًا.

2- الأنوثة الممزّقة بين الرّغبة والنّجاة:

- رنا لا تعيش الحبّ، بل تعيش النّجاة عبر العلاقة.

- المسكوت عنه هو غياب الحقّ في الحبّ، في زمن صار فيه الجسد وسيلة للبقاء، لا للتّعبير.

3- العار الصّامت:

- رغم أنّها لا تُدان صراحة، إلاّ أنّ الرّواية تترك هالة من العار غير المنطوق حولها.

- هذا العار ليس من فعلها، بل من نظرة المجتمع، ومن صمت النّساء الأخريات.

4- الهويّة المهدورة:

- رنا لا نعرف أصلها، ولا خلفيّتها، ولا حلمها.

- المسكوت عنه هو محو الهويّة الأنثويّة في زمن الحرب، حيث تتحوّل المرأة إلى "وظيفة" لا إلى "ذات".

- البعد النّفسيّ والوجوديّ:

- رنا تعيش الانفصال بين الذّات والجسد، فهي لا تملك أن تختار، بل تُختار لها.

- تعاني من الاغتراب الدّاخليّ، حيث لا تنتمي للمكان، ولا للعلاقة، ولا حتّى لنفسها.

- تمثّل الأنثى التي لم تُمنح فرصة أن تكون إنسانة كاملة، بل مجرّد "نجاة مؤقّتة".

- تفسير رمزيّة رنا في الرّواية:

- المرآة المكسورة: أنوثة مشروخة، لا تعكس ذاتًا واضحة.

-الظّل: تعيش في الخلف، لا في الضّوء، كما عنوان الرّواية .

- النّافذة المغلقة: لا تطلّ على مستقبل، بل على جدار الخوف.

سؤال فلسفيّ يطرحه وجود رنا:

1- هل يمكن للمرأة أن تحافظَ على كرامتها في زمن يُجبرها على بيع جسدها للبقاء؟  

2- وهل العار في الفعل، أم في الظّروف التي فرضت الفعل؟

هذه الأسئلة حقيقةً تفتحُ بابًا بالغَ العمق، لأنَّ رواية "البنسيون الخلفيّ" ليست فقط عن شخصيّات تعيش الحرب، بل عن كائنات تمشي في الظّل، تحملُ أوجاعًا لا تُقال، وتعيش في مساحات المسكوت عنه أكثر ممّا تعيش في الواقع المعلن. وإذا أردنا تحليل المسكوت عنه في الشّخصيّات الأخرى، وربطه بأحداث الرّواية نجدُ الآتي:

 المسكوت عنه في شخصيّات الرّواية:

2- سامر: الذّكر الممزّق بين الرّجولة والنّجاة،

الظّاهر: شابّ هارب من الخدمة العسكريّة، يعيشُ مساكنةً مع رنا، يبدو متمرّدًا.

المسكوت عنه:

- فقدان الرّجولة كقيمة أخلاقيّة: سامر لا يحمي، لا يبني، بل يختبئ خلف جسد رنا.

- الخوف من السّلطة: هروبه ليس بطولة، بل هروب من مواجهة الذّات.

- الذّنب الصّامت: يعلم أنّ علاقته برنا ليست حبًّا، لكنّه لا يملك بديلًا.

ارتباطه بالأحداث:

- مساكنته مع رنا تعكس تفكّك الأسرة والشّرعيّة.

- هروبه من الجيش يربطه بالانهيار الوطنيّ، حيث لم يعد الوطن يستحقّ الدّفاع.

 

3- أبو نزار: الشّبّيح الذي يسكن بيتًا ليس له.

الظّاهر: رجل قويّ، يفرض سلطته على البنسيون، يسرق، يهدد، يبتز.

المسكوت عنه:

- الخوف من السّقوط: رغم سطوته، يخاف من فقدان السّيطرة.

- الفراغ الدّاخليّ: لا يملك قضيّة، ولا حلم، فقط سلطة مؤقّتة.

- العار غير المعترف به: يعلم أنّه لصّ، لكنّه يلبس قناع "المنقذ".

ارتباطه بالأحداث:

- استيلاؤه على البيوت المهجورة يجسّد التّعفيش كمنظومة أخلاقيّة مقلوبة.

- تهديده لرنا وسامر يكشف التّحوّل من حماية المجتمع إلى افتراسه.

 

4- أمُّ علاء: الأرملة التي تحاول النّجاة بالكرامة.

الظّاهر: امرأة مسنّة، تحاول الحفاظ على ابنها، ترفض المساكنة، تراقب بصمت.

المسكوت عنه:

- الحنين إلى زمن القيم: تتذكّر زوجها، بيتها، صلاتها.

- الخوف من الانهيار الأخلاقيّ لابنها: ترى علاء يتغيّر، لكنّها لا تملك منعه.

- العار الصّامت من الجيران: تخجل من الحديث عن ما يحدث في البنسيون.

ارتباطها بالأحداث:

- تمثّل الضّمير الأخلاقيّ المهزوم، الذي يرى ولا يقدر أن يغيّر.

- وجودها يخلق توازنًا بين الانهيار والمقاومة الصّامتة.

 

5- علاء : المراهق الذي فقد البوصلة

 

الظّاهر: ابن أمّ علاء، يتورّط في السّرقة، يتأثّر بالشّبّيحة، يضيع.

المسكوت عنه:

- غياب الأب كمرجعيّة: لا نموذج يحتذي به.

- الفراغ القيميّ: لا يعرف ما هو الصّح، ولا يملك من يرشده.

- التّمرّد الصّامت: يسرق لا لأنّه يريد، بل لأنّه لا يرى بديلًا.

ارتباطه بالأحداث:

- يمثّل جيل الحرب، الذي لم يعرف سوى القصف والجوع.

- تورّطه في السّرقة يعكس تحوُّل الأطفال إلى أدوات في منظومة الفساد.

5. الرّاوي: الصّوت الذي يرى ولا يتدخّل.

الظّاهر: ينقل الأحداث بواقعيّة، لا يتدخّل، لا يحكم.

المسكوت عنه:

- الألم الدّاخليّ: يرى كلّ شيء، لكنّه عاجز عن الفعل.

- الذّنب المعرفيّ: يعرف الحقيقة، لكنّه لا يملك سلطة التّغيير.

- الحنين إلى وطن مفقود: كلّ وصف يحمل نبرة فقد.

ارتباطه بالأحداث:

- يمثّل ضمير الكاتب، الذي يكتب ليشهد، لا ليحاكم.

- وجوده يخلق مسافة بين القارئ والحدث، تسمح بالتّأمّل دون انفعال مباشر.

خلاصة رمزيّة: كلُّ شخصيّة في "البنسيون الخلفيّ" تعيشُ في مساحةً من العار، الخوف، الذّنب، أو الحنين، لكنّها لا تملكُ لغة للتّعبير.  ولعلَّ المسكوت عنه ليس فقط في الأفعال، بل في الغياب الكامل للمنظومة التي كانت تمنح المعنى: الأسرة، الدّين، الوطن، القانون.

 

 رمزيّة العنوان:

 

"البنسيون الخلفيّ" يشير إلى:

- الأماكن المتوارية عن أعين الأمن والرّقابة،

- الشّوارع الخلفيّة التي تحتضن النّشاطات المشبوهة،

- الجانب المظلم من المجتمع الذي لا يُرى ولا يُقال.

 

 

الثّيمات الرّئيسيّة في الرّواية:

 

- الاغتراب والهويّة: يعيشُ النّزلاء في حالة من التّيه، يبحثون عن معنى لحياتهم وسط واقع مضطرب.

- السّلطة والقمع: يظهر تأثير النّظام السّياسيّ على الأفراد، سواء من خلال الرّقابة أم الخوف أو التّهميش.

- الذّاكرة والحنين: يسترجع الرّاوي وأبطال الرّواية ذكرياتهم، في محاولة لفهم الحاضر من خلال الماضي.

- المرأة والحريّة: تتناول الرّواية وضع المرأة في المجتمع، بين القهر والرّغبة في التّحرّر.

 الأسلوب الأدبيّ في الرّواية:

 

- لغة الرّواية: تجمع بين البساطة والعمق، وتستخدم الرّمزيّة بشكل ذكيّ دون أن تفقد الواقعيّة. مع لمسات لهجيّة واضحة قد تربك لغة الرّواية في بعض المقاطع.

- السّرد: غير خطّي، يعتمد على التّنقّل بين الأزمنة والأحداث، ممّا يعكس تشظّي الوعي لدى الشّخصيّات.

- الحوار: يعكس التّوتّر الدّاخليّ والخارجيّ، ويكشف عن طبقات الشّخصيّة دون مباشرة.

 

رمزيّة "البنسيون الخلفيّ":

- يمثّل البنسيون فضاءً مغلقًا يعكس المجتمع السّوريّ في لحظة انهيار أو إعادة تشكيل.

- الخلفيّة تشير إلى ما هو مخفيّ أو مهمّش، سواء في السّياسة أم في النّفس الإنسانيّة.

- النّزلاء هم "المنفيّون داخليًّا"، يعيشون في وطنهم لكنّهم غرباء فيه.

- فهم البنية الرّمزيّة واللّغويّة في رواية البنسيون الخلفيّ،بين التّحليل السّرديّ والتّأويل الفلسفيّ، تفتح أفقًا غنيًّا في موضوع: (المسكوت عنه والمضمر) تناولته في كتاب: المضمر في الملفوظ السّرديّ طبع بالأردن 2024 ط1، سعاد بسناسي، وبعض البحوث ذات الصّلة بالموضوع.

- المسكوت عنه: هو ما يُقصى من الملفوظ، لكنّه يحضر عبر التّلميح، الإيحاء، أو التّوتّرات النّصيّة. في الرّواية، قد يتجلّى في القضايا السّياسيّة أو الاجتماعيّة التي لا تُقال صراحة، بل تُلمّح عبر الشّخصيّات أو الأحداث.

- المضمرات: هي البُنى العميقة التي تسكن خلف الملفوظ، وتشكّل دلالته التّأويليّة. وترتبط المضمرات بالنّيّة، السّياق، والبعد الثّقافيّ، وتُستخرج عبر القراءة التّأويليّة.  ومن خلال تطبيق المنهج التّأويليّ السّرديّ وفقًا لما تمّ تحليله من نماذج في الرّواية، يمكن تحديد ثلاثة مستويات لقراءة المضمرات:

1/ اللّغويّ-الملفوظيّ: تحليل البنية اللّغويّة للخطاب السّرديّ، استخدام لغة التّهكّم أو التّورية في وصف الشّخصيّات الهامشيّة.

2/ السّيميائيّ-الرّمزيّ: قراءة الرّموز والعلامات في النّص "البنسيون الخلفيّ" كمكان رمزيّ للهامش، للمنفى الدّاخليّ.

3/ الأنطولوجيّ-الوجوديّ: تأويل التّجربة الإنسانيّة في النّص صراع الشّخصيّات مع العزلة، الاغتراب، والهويّة .

 

المسكوت عنه في الرّواية:

 

- الجنسانيّة المقموعة: تظهر في المساكنات والعلاقات غير الشّرعيّة، لكنّها لا تُناقش أخلاقيًّا بل تُعرض كواقع مفروض.

- السّلطة الغائبة/الحاضرة: النّظام لا يظهر مباشرة، لكنّه حاضر في الخوف، الرّقابة، والخراب.

- المرأة كجسد/رمز: تُستخدم الأنثى كوسيلة للبقاء، دون أن يُمنح لها صوت واضح أو سرد ذاتيّ.

- الهويّة الممزقّة: الشّخصيّات لا تملك جذورًا واضحة، تعيش في حالة من التّيه والاغتراب.

 

- العلاقة بين المسكوت عنه والمضمرات وفقًا لمنهج مضمرات الملفوظ، فإنّ الرّواية تبني معناها من خلال:

 

-الملفوظ: ما يُقال صراحة، وصف البنسيون، العلاقات، الأحداث اليوميّة.

-المضمر: ما يُفهم ضمنًا، الخوف، العار، الذّنب، الانهيار الأخلاقيّ.

- المسكوت عنه: ما يُقصى أو يُلمّح إليه، القمع السّياسيّ، فقدان الوطن، انهيار القيم.

)الرّواية لا تُصرّح، بل تُلمّح. لا تُدين، بل تُعرض. وهذا ما يجعل القارئ شريكًا في التّأويل، يبحث عن المعنى في الفراغات، في الصّمت، وفي التّناقضات).

- الرّاوي كضمان تأويليّ: يمنح القارئ مفاتيح لفهم الشّخصيّات دون أن يفرض تفسيرًا.

- الزّمن السّرديّ المتشظّي: يعكس تفكّك الوعي، ويُتيح للمسكوت عنه أن يظهر عبر الاسترجاع والتّقطيع.

- الرّموز السّرديّة: مثل "الشّارع الخلفيّ"، "الغرفة"، "النّافذة"، كلّها تحمل دلالات مضمرات الهويّة، العزلة، والانكسار.

 خلاصة تأويليّة: (رواية البنسيون الخلفيّ هي نصٌّ يُمارس التّعتيم والتّلميح، ويُراهن على قدرة القارئ في استخراج المضمرات من الملفوظ، وفهم المسكوت عنه من خلال ما لا يُقال.  إنّها رواية عن النّجاة في زمن الانهيار، وعن الإنسان الذي يعيش في الظّل، ويبحث عن ذاته في مرايا مكسورة.

 

الخاتمة: ختامًا نقول: 

 الانهيار ليس دائمًا نفيًا للمعنى، بل قد يكون شرطًا لإعادة بنائه.  

رواية البنسيون الخلفيّ لمحمّد فتحي المقداد، رغم هيمنة سرديّة الانهيار فيها، لا تُغلق الباب أمام التّأويلات الإيجابيّة، بل تترك شقوقًا في الجدار تسمح بمرور الضّوء.

 في الظّاهر:

- الشّخصيّات تعيش في عزلة، مساكنة، خوف، واغتراب.

- البنسيون فضاء مغلق، خلفيّ، يرمز إلى التّهميش والانكسار.

- المسكوت عنه مشحون بالعار، القمع، والخراب الأخلاقيّ.

لكن نقول:

 التَّأويلات الإيجابيّة الممكنة:

1. الانهيار كشرط للوعي: حين تنهار القيم الزّائفة، يبدأ الإنسان في مساءلة ذاته.  

رنا مثلًا، رغم علاقتها المأزومة، تبدأ في إدراك هشاشتها، وتفكر في الخروج من الدّائرة.

2. البنسيون كفضاء للنجاة المؤقّتة: رغم سوداويته، البنسيون يمنح الشّخصيّات مأوى، فرصة للتّفكير، مساحة للبوح.  

حتّى العلاقات غير الشّرعيّة تُقرأ أحيانًا كبحث عن دفء إنسانيّ مفقود.

3. الراوي كصوت تأمّليّ لا يدين: الرّاوي لا يُصدر أحكامًا، بل يترك المجال للتّأويل، ممّا يمنح القارئ فرصة لرؤية ما وراء الانهيار.  

هذا الحياد السّرديّ هو بذرة أمل في استعادة المعنى.

4. المرأة ككائن مقاوم رغم القهر: أمّ علاء، رغم فقرها، تحاول الحفاظ على كرامتها.  

رنا، رغم استخدامها، لا تستسلم بالكامل، بل تُظهر لحظات وعي ورفض.

5. اللّغة السّرديّة كفعل مقاومة: الرّواية نفسها، بوصفها شهادة، هي فعل مقاومة للطّمس والنّسيان.  مع ضرورة مراجعة اللّغة بشكل دقيق لترتقي بموضوعها وانشغالها الفنيّ والمعرفيّ.

الكتابة عن المسكوت عنه هي محاولة لاستعادة الصّوت، والكرامة، والذّاكرة.

ختامًا: إنّ رواية "بنسيون في الشّارع الخلفيّ" ليس فقط سرديّة انهيار، بل أيضًا سرديّة ما بعد الانهيار. إنّه نصٌّ يُظهر كيف يمكن للإنسان أن يعيش في الظّل، لكنّه لا يفقد كليًّا قدرته على الحلم، أو على التّأمّل، أو على قول "لا" بصوت خافت.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفهرس

مقدمة الكتاب    5

تقرير موقع "زمان الوصل"  7

قراءة انطباعيّة  12

التشظّي والقلق الوجودي   18

اقتحام جريء لعالم التابوهات    31

هل الحروب تُدهور الأخلاق أم تكشف الخلل؟  35

الرمزيّة في رواية "بنسيون في الشّارع الخلفيّ"  43

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق