الفصل الأول من رواية سكلمة
محمد فتحي المقداد
(1)
-"لا هيبة لغُبار اِسْتراح على كَفَنٍ عتيقٍ، ولا فرق حتَّى وإن كان
جديدًا، ويْل قلبي على عُمرٍ ضُيِّعَ على مدارج كواليس الظَّلام؛ سرقته الرِّيح في
يوم جُنونِ الهَبوبِ الغاضب، لم يرحم إخلاصًّا بكلمةٍ ناصحةٍ، منذ تسلَّل الشكُّ
مع خيوط اِخْتلاف وُجُهات النَّظر".
ودواخله تعوي بأنينٍ مُتحَشْرجٍ:
-"أين الأشرعةُ التي كانت؟. قيل: إنَّ الزَّمان
طَوَاها ببرود في قاع محيط النِّسيان، عندما تهاوَتْ بلا عِناد واِسْتسلمَت
للعاصفة..! وأصوات القراصنة المُرعبة المُنفجِرة برهبتها المُخيفة، جاثمة بجوار
حُطام الأشرعة في القاع".
بتاريخه:
9 نيسان (أبريل) ليلة سقوط بغداد 2003: (بيروت)
الحروب لعنة البشريَّة. هي انقلابٌ حقيقيٌّ على جميع الثوابت
والأعراف. من السَّهل إثارة حرب أو إشعال الحرائق في أيَّة بُقعة من العالم، ومن
الصُّعوبة بمكان إيقاف اِمْتداداتها، وليس من السَّهل التنبُّؤ بنتائجها غير
المحسوبة على الإطلاق.
لعنةُ الحرب لم تُغادر المكان، ذاكرته مازالت تحتفظ بأوشحة
قليلة ترتسم بألوان وأشكال بُؤسها على واجهات وجُدران وزوايا شارع الحمرا في وسط
بيروت التِّجاريِّ. صمتُ المكان لا ينفي ضجيجه المُنبعث من جديد الأذان والعقول
ولا يهدأ، القلوب تهتزُّ وترتجف، والألسنة تُردِّد: "الله لا يعيدها
أيَّام الحرب".
سبعة عشر عامًا حفرت مساربها عميقًا في نُفوس أجيالٍ
عاصرتْها، أحزانها السَّاكنة في دواخلهم، يبوحون بها بين الحين والآخر لأبنائهم في
أحاديثهم العابرة، عندما تعود الذَّاكرة التي لم تتآكل؛ فتدمع عُيون، وأخرى
تُجهَشُ بُكاءً على أعزَّاء نهشتهم آلة الحرب المُتوِّحشة.
أحزانٌ لا تفتأ بالظُّهور كلَّما سَنَحَتْ لها الفُرصة؛
فالحرب لم تكُن تُنقِص من أعمار النَّاس، إلَّا مَنْ اِنْقَضَت آجالهم. الآثار
المديدة للحروب تُصبحُ تاريخًا يُروى على أَلْسِنة مُعاصريها، أو من قرؤوا عنها في
الكتُب أو المجلَّات، أو من سمعُوا شيئًا عنها، وليس من سمعَ أوعى ممَّن رأى
وعاين، وهو شاهد العَيان. لا يُمكن مَحْوَ الأحزان خلال يوم وليلة، ولا بسنة أو
عشرة. تجفُّ الدُّموع، وتختنق العبرات بالنِّسيان المُؤقَّت، أو بالدَّائم إذا
فُقِدت الذَّاكرة.
..*..
وفي صالة
انتظار مقهى "ويمبي" الشَّهير برمزيَّته لدى الكثير من الكُتَّاب
والمُثقَّفين العرب والأجانب على حدٍّ سواء. ذاكرة المكان تُشكِّل جُزءًا لا
يتجزَّأ من ذاكرة سكلمة وأصدقائه القُدامى.
الاِرْتباط الرُّوحيِّ والنَّفسيِّ بمكان ما، لا تمحوه عَوادي
الأيَّام. المقاهي الحديثة في "شارع الحمرا" ومحيطه جاذبة
لنوعيَّة جديدة للزَّبائن، مختلفة بطبيعتها بمعطيات وتكوينات زمن غير ذاك.
يذهب الإنسان بعيدًا في دروب الحياة والنِّسيان، ويترك شيئًا
من روحه في مكان أحبَّه، يعود إليه على الأغلب؛ ليستعيد جزءًا من نفسه لتعزيز
توازنها، ويُجدِّد ذكرياته، ويتلذَّذ بها.
كان سكلمة على موعد مع جورج صديق دراسته
الجامعيَّة. اللِّقاءات المُتقاربة أو المُتباعدة لم تنقطع بينهما، كلَّما سَنَحت
الفُرصة بتواجدهما معًا في بيروت، على مدار سنوات ناهزت الاثنين والأربعين عامًا،
منذ دُخولهما إلى الجامعة الأمريكيَّة 1961م، جمعتهما زمالة الجامعة الاختلاف ما
بيْن كُليَّتَيْ دراسات العلوم السياسيَّة والعلاقات الدُّوليَّة، والصَّحافة
والإعلام.
..*..
طلَبَ فنجان قهوته السَّادة قبل وصول صديقه بنصف ساعة، اِسْتخرَج
دفترًا متوسَّط الحجم من حقيبة يده المُرافقة له في كلِّ مكان، عاد الجرسون؛ فلم
ينتبه لوقوفه بجانب الطَّاولة عندما وَضَع أمامه فنجان القهوة؛ إلى أن سمع
الجَرْسُون:
-"تفضَّل يا أُستاذ".
لم يستطع الردَّ على تحيَّة الجَرْسُون، إلَّا بإيماءة من
رأسه بحركات بطيئة تنبئ عن تعب صاحبها. رفع رأسه، وتوقَّف عن كتابة آخر كلمة في
السَّطر بعد أن وضَعَ نُقطة، وأغلقها بقوسيْن صغيريْن.
نظر إليه بنظرات زائغة لم يتبيَّن شكله جيِّدًا، بعد أن
اِسْتدار الجَرْسُون بخطوات سريعة لمتابعة طلبات باقي الزَّبائن المُنتظرين وصوله
بفارغ الصَّبر، نادى سكلمة عليه؛ ليعتذر له عن عدم ترحيبه به بحرارة، ظنًّا
منه أنَّه يعرفه قبل ذلك.
..*..
المكان مهجوس بأرواح تسكنه حسب اعتقاد سكلمة، وردَّد
ذلك مرارًا على مسامع أصدقائه القُدامى، والجُدُد في جلسات سابقة جمعته بهم على
فترات مُتُقاربة مرَّة، وأخرى كثيرة مُتباعدة:
-"خُطوات خالد عُلوان لا أستطيعُ كيف أصفها
كلَّما تذكَّرتها، وكما أتخيَّلها وأتصوَّرها بذهني. لا أظنُّ إلَّا أنَّه كان
رابط الجأش، وهو يتقدَّم بخُطوات واثقة نحو هدفه، وهو يُشهر نفسه مُسدَّسه بشكلٍ
مفاجئ، عندما أصبح الضَّابط الإسرائيليِّ ومرافقيه من الجنود، ولم يتردَّد
بالضَّغط على الزِّناد لينتهي كلِّ شيء إلى الأبد، الغُزاة دنَّسوا ببساطيرهم طهارة المكان،
ونجَّسته دماؤهم العفنة.
ما الذي جاء بهم من هُناك ليحتلُّوا بيروت، أوَّل عاصمة
عربيَّة تسقط سُقوطًا غير مسبوق، اِنْتهاك سيادة، واِغْتصاب إرادة.
ما معنى أن يجلس هذا الضَّابط عَلَنًا في مكانٍ عامٍّ، هُنا..
هُنا.. على هذه الطَّاولة بالذَّات، ومن شدَّة صلفه أصرَّ على دفع فاتورته
بالشِّيْكِلُ العُملة الإسرائيليَّة.
وبهذه النُّقطة بالضَّبط, لا يُخالجني أدْنى شكٍّ أنَّه
يستهزئ بنا، ويتحدَّانا جميعًا بلا اِسْتثناء، أحيانًا يخالطني شُعور بثقل الهواء
المُلوَّث بأنفاسه الكريهة، ودُخَّان سيجارته على جهازي التنفُّسي بعد كلِّ هذه
السِّنين، وأظنُّ أنَّ قَتَامَة عَدَسَتَيْ نظَّارة الرِّيبان السَّوداء، كانت
غِشاوة أَعْمَت بصيرته عن رُؤية المكان الكَارِه له، ولا فكَّر إلَّا أنَّ الجميع
اِسْتسلموا لجبروته، يا لها من نظَّارات رائعة أبرزته بتفاخُره للعَيَان؛ صَوَّبت
أنْظار أبناء البلد تجاهه.
فلو قُدِّر لي اِسْتقبال من أمري ما اِسْتَدْبرتُ؛
لاِشْتريْتُ المقهى حتَّى أقْلِبَه مُتْحَفًا ذا قيمة تاريخيَّة، وأقمتُ نَصْبًا
تِذكاريَّا رُخاميًّا، ويعتليه تمثالٌ برونزيٌّ من أجل خالد، ومهما كانت
كِلْفته الماديَّة وعلى حسابي الخاصِّ؛ ليبقى شاهدًا وحارسًا أمينًا لذاكرة
المُستقبَل.
يتربَّعُ هنا أمام عينيِّ على ناصية زاوية الرَّصيف المُمتدّة
أمام الويمبي، وسأجعلُ وجهه صوْب الغرب باتِّجاه البحر؛ ليرصُد القراصنة
ويواجههم بملامحه العابسة بغضب؛ وليقرأ قراصنة الشَّرق بوقفة شموخه الصَّلبة كصخرة
بيروت أنَّهم أخطؤوا هدفهم.
ها.. يا إلهي..! كأنَّ وقْع خُطُواته تقرعُ سمعي، وهو يتقدَّم
بخطوات ثابتة ليُردي الضَّابط اليهوديّ وجنوده مُجندَلين يتمرَّغون بدمائهم في
النقطة ذاتها التي أجلس عليها، وكأنَّهم ما زالوا تحت قدميَّ.. زَنَاخَة دمائهم
تسلَّلت إلى أنفي.
هل غادرت روح خالد المكان؟.
هل سيموت المكان بعد ذلك؟.
سيبقى التِّمثال حارسًا للمكان. ولم يكُن التّمثال إلَّا سوى
أمنية تُخالط عقل سكلمة فقط؛ فكلَّما تطاول العهد بحادثة ما، تتآكل الذَّاكرة
شيئًا فشيئًا، ثمَّ تُنسى إذا بقيت حكاية تتناقلها الألسُن، التَّوثيق أهمُّ نقطة
مفصليَّة لأيِّ أمر كان.
ومن أجل تنفيذ ذلك، لكنتُ قد اتَّخذتُ كلَّ الوسائل المُمكنة
وغير المُمكنة، لاِقْناع أو إجبار بلديَّة
بيروت على تسمية السَّاحة الصَّغيرة باسم خالد عُلوان، أُسْوة بالأمير الوليد
بن طلال حينما أَجْبَر رئيس الحكومة "رفيق الحريري" وشركته
"سوليدير" على إعادة تمثال جدِّه "رياض الصُّلح"
إلى مكانه في السَّاحة التي تحمل اسمه، أثناء فترة إعادة الإعمار لوسط بيروت
التِّجاريِّ.
الغُزاة العابرون
زائلون لامحالة، وما اِسْتقرَّ على الأرصفة إلَّا غُبار أحذيتهم، وبعد مُغادرتهم
ستتولَّى الرِّيح الأمر، وتذروه شَذَر مَذَر، وستمحو له أيَّ أثر، لا يبقى إلَّا
ذكرى في ذاكرة مُعاصريهم، وتاريخًا مقروءًا في الكُتُب. خالد علوان وأمثاله
علامات مُضيئة تُرفَع لهم القُبَّعات اِحْترامًا، حتَّى وإن كُنَّا مُختلفيْن في
وجهة كلِّ بانتمائه الحزبيِّ والسِّياسيِّ، إنَّما نحن مع الوطن وإن اِخْتلفنا،
لكنَّنا لن نفترق على الوطن، بل من أجله".
..*..
فقرتان مليئتان بمشاعر القهر والخيبة والإحباط واليأس، اِنْتفاخ
جفنيْه المُحْمَّريْن كجمرة من نار، على مدار أسبوع لم يذُق طعم النَّوم كما عهده
السَّابق المُنتظم بمواعيد نومه وطعامه. التَّدخين والقهوة على مدار السَّاعة حرق
للأعصاب مستمرّ، صُدُود نفسه عن الطَّعام عُمومًا إلَّا إذا دَاهَمه شعور قاهر
بالجوع، لا يأكل إلَّا أقلَّ القليل.
الاستعداد للِّقاء أخرجه من كَسَله وجَزَعه، حاول تبديل
مَظْهره بحلاقة دقنه التي مضى عليه أسبوع، أو ربَّما وَصَل الأمر لعشر أيَّام،
حتَّى أنَّ شعر رأسه المُتوسِّط بطوله لم يُسرِّحه، إلَّا مرَّتين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملحوظة: إنَّ مقرَّ مقهى الويمبي في شارع الحمرا في بيروت، الذي شهد
على هذه الواقعة التاريخية المسماة باسمه، غير موجود حاليًا، ويقال أن أحدهم
اشتراه، وحوَّله لمحلًّ لبيع الأحذية، فيما افتتح مقهى آخر في نفس الشَّارع باسم
الويمبي. كما العمارة بأكملها هُدمت وأنشئت مكانها عمارةLOFT) ). كما أنَّ بلدية
بيروت اعتمدت تسمية السّاحة الصَّغيرة
أمام موقع مقهى الويمبي القديم، باسم "خالد علوان"، وعلَّقت لوحة
إيضاحيَّة لذلك. (من مصادر الأنترنت، وبتوثَّق من المتابعة مع الروائي محمد إقبال
حرب. البيروتي الإقامة).
حينما نَزَل من جناحه في الفندق إلى تناول طعام الفُطور
مرَّة، وأخرى للغداء، وأغلب الوَجَبات تأتيه إلى مكان إقامته، ولم يستجب لجرس
وتنبيهات هاتفه النقَّال التي تطلبه. كان يرى أرقامًا دُوَليَّة ومَحليَّة من جهات
وأصدقاء. عدد قليل جدًّا منها ومعدودة لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة التي ردَّ
عليها. إلَّا ثلاث مُكالمات واحدة منها مع جورج.
قَلَب صفحة جديدة من الدَّفتر، وهي الصَّفحة الثانية التي
كتبها منذ وصوله إلى بيروت قبل أسبوع، وكتب:
-"(مديح الوطن.كهجاء الوطن\\مهنة مثل باقي المهن). محمود درويش.
الأدوات.. ستبقى الأدوات فاعلة إلى حين اِنْتهاء صلاحيَّتها.
الأدوات تَأْتمِر بإرادة سَيِّدها.. تخدُم، وتسمعُ، وتُطيعُ، وتُنفِّذُ المطلوب
بِدقَّة وحِذَر وصَمْت".
ــ
توقَّفت كأنَّما راودته فكرة. شَفَط نفَسًا عميقًا؛ مَلأ
فَمَه بدُخان سيجاره الكُوبيِّ. اِنْتبه لوصول جورج يدخُل من بوَّابة
المقهى. الساعة تشير إلى الحادية عشرة صباحًا.
عِناقٌ طويل بعد سَنتين على آخر لقاء بينهما كان في باريس.
لقاءات الأحبَّة وإنْ تباعدت لا تَبرُد ولا تجفّ، تبقى حارَّة نديَّة بلهفة
الشَّوق والحنين.
..*..
رائحة السِّيجار تختلط بعطره الخاصّ "الشَّانيل"،
شكَّلا حوله بحالة هُلاميَّة صنعت عُزلَتِه عن مُحيطه، ولم تلفِتْ اِنْتباهه.
ضحكاتُ السيِّداتُ الجالساتُ هُناك في الزَّاوية المُطلَّة
على الرَّصيف، ولا اللَّواتي على الطَّاولات المُقابلة له، أو القريبة من طاولته.
بعد السَّلام..، والأسئلة المعتادة عن الحال والأحوال. انتبه جورج
للدَّفتر على الطَّاولة وتناوله، بعد إشارة إيجاب من رأس سكلمة بالسَّماح.
صداقة بلا حدود.. بلا حواجز، ببساطة وبلا تكلُّف اِعْتادا ذلك منذ أيَّام الجامعة،
لم يتغيَّر شيء على طباعهما عندما يجتمعان في أيِّ مكان من الكرة الأرضيَّة.
اِرْتسمت على وجه جورج ضحكة حزينة بِالكَادِ كَشَفت عن
بَياض أسنانه اللُّؤُلُئِيِّ. هزّ رأسه بتعجُّب، وهو يرفع حاجبيْه للأعلى إلى ما
فوق إطار نظَّارته الذَّهبيِّ. وقال:
-"اِسْم الله عليكْ.. نَفسكَ مفتوحة على الكتابة".
-" مُجرّد خاطرة لتنفيس الاِحْتقان الدَّاخليِّ".
انخرط بالقراءة بصوْتٍ يسمعه سكلمة. ويتوقَّف عند
نهاية كلِّ فقرة. يصمُتُ لِبِضْع دقائق قبل البدء بأخرى. سكلمة لا يدري ما
يدور في ذِهْن صديقه في لحظة صَمْتِه، ولم يُتعب نفسَه بتوقُّع ما سيقول.
بقِيَ الدَّفتر بيده يتحرَّك كيفما تحرَّكت على وَقْع نَزَقِ
الكلمات الغاضبة. الجرسون بعدما تلقَّى إشارة من عين سكلمة، بلباقة وأدب وقف بصبره
العجيب، لباقته لم تسمح له بالتدخُّل لمعرفة طلب جورج المُنفعل. بل جمد مكانه،
وكان الانتظار سيِّد الموقف؛ فهو أسيرُ رغبة الزَّبون وإن خالفت طبيعة عمله
الدَّؤوب بلا توقُّف.
كثيرًا ما يكونُ الاستغراق في لُجَّة الانفعال؛ ليأخذ صاحبه
في غيبوبة تفصله عن محيطه؛ فلا يسمع ما يُقال، ولا يرى أيَّة حركة مع توقٌّف
ملاحظته للأشياء.
جاءت حالة جورج كَرَدٍّ، ونتيجة طبيعيَّة لما فَهِم ممَّا
قرأه في الدَّفتر، وقال:
-"أفهمُ من كلامكَ: أنَّ الاِنزواء والتراجُع للخلف رغم
أنَّهما نَتَاج ظُروف قاهرة.. لا طاقة لنا بمقاومتها، أو التَّخفيف من شِدَّة
وطئتها، وقساوة مُعطياتها. معنى ذلكَ أن نصمُت..! وهل الصَّمتُ، ودفنُ الرأس في
الرِّمال هو الحلُّ..!؟".
-"ليس بالضَّبط كما تقول، ولكنَّ الحرب بهذه الهمجيَّة
أقوى منَّا جميعًا. بصراحة. وللمرَّة الأولى أقولها لكَ حصريًّا: تعبتُ..
وتعبتُ".
-"برأيكَ، وهل تحتاج لاِسْتراحة المُحارب..!".
-"لا.. لا أبدًا.. أعتقدُ أنَّه آَنَ للفارس أن
يترجَّلَ، ويُعلن...". قاطعه قبل إكمال جُملته بلا استئذان منه، وكأنَّهُ
خمَّن تكملة كلامه. بتوتُّر بدا على ملامح وجهه الغاضبة من شيء مجهول، غطَّى على
فرحة اللِّقاء بينهما.
-"أرجوك يا سكلمة.. ثمَّ أرجوكَ. لا تقُلها، كنتُ
أظنُّ أنَّني الوحيد الذي يُفكّرُ؛ ليعلنَها للعالم بملء إرادته".
-"وما الذي ننتظرهُ بعد هذا السُّقوط المُريع والمُخزي،
ربَّما فكَّرتُ بالاِنْتحار مرَّات عديدة، للخلاص من الكآبة والحزن واليأس،
باِنْطفاء بغداد آخر شمعة عربيَّة.. اِنْطفاء العراق يعني نهاية العرب، ولا أمَل
بتاتًا.. ولن تقوم لنا قيامة بعد هذا.. فظاعة الشُّعور بالسُّقوط تنهشُ قلبي بلا
رحمة".
-"وهل هذا هو سكلمة..!! الرَّجل المعروف بعناده
المعهود ولو على خطأ، وعناده لا يُقارن إلَّا بصخرة صمَّاء، تستعصي على عوامل
الطّبيعة مهما كانت عاتية، وصقيلة ملساء يستحيل على ذرَّات الغُبار النَّاعم
اِسْتيطان سطحها.
وا أسفاه..!! على زمان كنَّا فيه وكان لنا.. وعلى حاضر تسرَّب
من بين أصابعنا، ولا حيلة نملكها لضبطه".
الأسى والحزن ظاهر في لهجة جورج بالتأسِّي على ماضيه
في الواجهة الإعلاميَّة في لُبنان الفاعلة المُؤثّرة بطروحات ذات لهجة مُنكسِرَة
ناضحة بالحُزن، هناك موضوع يشغل ذهنه لرفد حركة الحوار مع سكلمة في جلستهما
النَّادرة باستثنائيَّتها، قد تكون لقاءهما الأخير، شعور غريب خالجه بإحساس مجهول
المصدر والرُّؤية، هناك شيء غامض ولا دليل عليه، بالفعل هذه المرّة كان اللِّقاء
باردًا، مشوبًا بالحزن، آثار التَّعب على وجهيهما، لهجتهما قلقلة، لم يستطيعا
القبض على مصدر الإزعاج لكلِّ منهما، أو الإفصاح عن مكنوناتهما المُحبطَة، الحديث
المُتشعِّب كان جريئًا بملامسته ثوابت كانت مُقدَّسة إلى وقت قريب، تغيُّر
الظُّروف بدَّلت المعايير لرؤية جديدة للقضايا، ليتابع:
-" على وجه التَّحديد لا أستطيعُ معرفة سببٍ معقولٍ؛
لتذكُّر مقولة المرحوم "كمال جنبلاط": (إذا خُيِّر أحدكم بين
حِزبه وضميره، فَعلَيْه أن يتركَ حِزبه، وأن يتبعَ ضميره؛ لأنَّ الإنسان يُمكن أن
يعيشَ بلا حزبٍ، لكنَّه لا يستطيعُ أن يحيا بلا ضمير)".
-"وهل تعتقدُ، أنَّه خَرَج من اتِّحاده الاِشْتراكيِّ
مُنحازًا لضميره؟".
-" بكلِّ تأكيد يا صديقي كان موقفُه أفصَحَ وُضوحًا من
الشَّمس في رابعة النَّهار؛ عندما عادى الجميع دِفاعًا عن لُبنان، والقضيَّة
الفلسطينيَّة. ضميرُه صنَعَ أعداءه الذين اِشْتغلوا على تنحيته من طريقهم، لكنَّهم
لم يتَّفِقوا على اِغْتياله.
معلومٌ أنَّ إسرائيلَ العدوّ الأوَّل المُتضرِّر من وُقوفه
إلى جانب قضيّة فلسطين، وجماعة الموارنة رأوا فيه تهديدًا لوجودهم، وسوريا
التي لم تحتمل نفوذه الواسع في لبنان؛ فالمنافسة لا تقبل شريكيْن قويَّيْن (كمال
جنبلاط وحافظ الأسد)، كان يُمكن أن يتقاسما الكعكة عن تَراضٍ بينهما، إنَّما
لابدَّ من إزاحة أحدهما؛ فكان أن أزاحوه، وأسْكَتوا صوته إلى الأبد، رغم أنَّه كان
على عداء مُباشر مع المسيحيين الموارنة تأييدًا للفلسطينيِّين، ولم يتردَّد بتوجيه
اِتِّهاماته العلنيَّة للموارنة بوقوفهم
مع "إسرائيل" لتصفية القضيَّة الفلسطينيَّة، وخصوصًا الوعود التي أعطيت
لــ"بيار الجميِّل" ومن بعده لابنه "بشير"،
ولـ"كميل شمعون" مع بدء الحرب الأهليَّة، والاشتغال على مسار
إعادة تعريب الموارنة ليستعيدوا مكانتهم التاريخية كطائفة أولى في لبنان؛ عندها
يتمّ القضاء على المقاومة الفلسطينيَّة، واِسْتمرَّ كمال ثابتًا على موقفه حتَّى
مقتله، ونظريًّا ومنطقيًا أنَّ الموارنة هم أكثر المُتضرِّرين منه، لكنَّ الطَّلقة
الأخيرة جاءت من غيرهم". قال جورج.
-"أستاذ جورج.. آنَ الأوانُ لأنحاز إلى ضميري
مثله، ولو أنَّه جاء مُتأخِّرًا، سأذكرُ موقفه عام 1967 إلى جانب مصر وسوريا
والأردنّ، وتأييده اللَّامحدود للقضيَّة الفلسطينيَّة.
بعدها بسنوات أصبحَ أمينًا عامًّا للجبهة العربيَّة من أجل
الثَّورة الفلسطينيَّة. وتصدَّى للمؤامرة الصُّهيونيَّة الاِنْعزاليَّة في لبنان،
وقاد نضال الحركة الوطنيَّة اللُّبنانيَّة مُعلنًا برنامجه الإصلاحيِّ بإنهاء
الطّائفيَّة السياسيَّة اللُّبنانيَّة، وتأسيس المجلس المركزيِّ للأحزاب الوطنيَّة
التقدميَّة العربيَّة".
-"بِشَرفي إنَّه لَشيْءٌ مُحيِّر.. سياسة بلا شَرَف،
وسياسيُّون لا مبدأ لهم".
-"هكذا هي منذ الأزل. المصالح أوَّلًا.. ولا قيمة
للنوايا الحسنة، ولا للعواطف الصَّادقة في مقامات السِّياسة. أستاذ جورج لا
تُؤاخذني أو تُسجِّل عليَّ ملاحظة،
ربمَّا تتندَّر بها عليَّ، وأنا لا أطيق ذلك –ضحك
جورج بصوت عالٍ- ولا أدري كيف اِسْتطاع قلبي اِحْتمال هذه المُتناقضات طوال هذه
السِّنين أثناء خدمتي في أروقة صِنَاعة القرار بمطبخنا السِّياسيِّ، ولم يغفر له حافظ
الأسد تحدِّيه عندما قال له: دخولكَ إلى
لبنان يعني أنَّ إسرائيل ستجدُ مُبرِّراتها للتدخُّل، كما رفض مشروع
الكونفدراليَّة التي تجمع سوريا ولبنان والأردن، التي كانت تهدف لإنهاء الثَّورة
الفلسطينيَّة".
قسمٌ غير كبير فقط من رُواَّد الويمبي اِنْتبه إلى
مصدر الضَّحِك، الذي اِخْترق أسماعهم رغم قرقرة النَّراجيل، وقرقعة أحجار النَّرْد
عندما تنثرها بغضب يدُ لاعبٍ مقهورٍ من خَسَارته، صُراخُ الباعة العابرين أمام
المقهى، والذين مَنْ هم على الرَّصيف في الجهة المُقابلة للمقهى، الأصوات تُضفي
صبغة خاصَّة على المكان، بشعور نابض بالتجدُّد بلا توقُّف مهما كانت الظُّروف.
الاِسْتمرار صيغة الحياة المقبولة بجميع الظُّروف. وعليْه تُبنى آمال طامحة،
وتتبدَّد أحلام مقهورة.
تتعالى سَحَابة دُخان من فَمِ جورج فور أن رفع وجهه
للأعلى، وكأنَّه ضَاقَ بسقف المقهى المائل بلونه للأصفر، وفي بعض الزَّوايا إلى
العسليِّ، والأغمق قليلًا البُنيِّ، وعقَّب على كلام صديقه سكلمة:
-"تخيَّل أنَّني ذات مرَّة كتبتُ هذا الكلام ليس
بِحَرْفيَّته. بل قريبًا منه في الحوادث في الذِكرى العشرين لاِغْتيال كمال
جنبلاط، شعرتُ وقتها بأنَّ الهواء بلا أوكسجين في لُبنان، والحلقة بدأت تضيق
حول عُنُقي، كوابيسُ اللَّيل السَّوداء سرقَتِ النَّوم من عينيَّ على مدار شهر
كامل، بعدها غادرتُ خمس سنوات إلى باريس. كما تعلم، ومن هُناك تابعتُ كِتاباتي إلى
الحوادث، وغيرها من المجلَّات والجرائد العربيَّة".
رأس جورج الضَّخم يتربَّع فوق منكبيْن عريضيْن كأبي
الهوْل. جَهَامَة وجهه تُكتَنَز فيها أسرار العالم أجمع. شارباه يتدليَّان على فمه
وجوانبه، السَّواد والبياض يتقاسماه مُناصفةً، كما هي الحقائق تندلق على مساحة وطن
المُتناقضات.
بشرته الحنطيَّة تتآلف مع طبيعة تكوينات جغرافيَّة جسمه
الطَّويل، بدلة الجينز تُضفي عليه مَظْهرًا لافتًا بأناقته، وتُغطِّي رقبته خصلات
شعره المُسترسل باِنْسيابيَّة تستجيب لنسائم الهواء اللَّطيفة بنُعومتها
ورِقَّتها، يده لا تهدأ طيلة الوقت برفع الغُرَّة للأعلى كلَّما نزلت على عينيْه.
نبرات صوته غير منفصله عن نظراته الحادَّة، وهو يتحدَّث بصوته
الجهوريِّ الضَّائع في لُجَّة اِخْتلاطات المكان الواسع المُريح، كفُّه الواسعة
تتحرَّك بإيماءات مُتوافِقة بتآلُفٍ مع تعابير وتقاطيع وجهه التي تختصر كلَّ ما
قيل، أو سَيُقال عن الكاريزما لفلان أو فلان.
وتابع حديثه، وسكلمة ساهِمٌ بنظراته من غير المعلوم
أين تتركَّز:
-"وأخطَرُ ما في حياتي أنَّني أقفُ أمام بُوَّابة كبيرة
لا أستطيعُ وُلوجَها، وعاجز عن طَرْقِها فضلًا عن فتحها، ليتَها تُفتح تِلْقائيًّا
من ذاتها. لو سألتني: لماذا؟. لقلتُ لكَ بكلِّ تأكيدٍ؛ لأنَّها بُوَّابة ذاتي، ولا
علاقة لأحد بشأنها؛ فهي تهمُّني وَحْدي، وخاصَّتي، ولن أسمحَ بعُبورها لأيٍّ كان
مهما الأمر فظيعًا وقاسيًا. ولو كرَّرتَ السُّؤال ثانيةً: لماذا؟. بلا تردُّدٍ:
إنَّ مواجهة الذَّات أصعبُ اللَّحظات في حياتي، أخافُ الصَّدمة المُوجعة. لكنَّ
الذي لا بُدَّ منه حاصلٌ لا محالة.
تتراءى لي على الدَّوام صورة مُعلِّمي الأوَّل سليم
اللَّوزي لروحه السَّلام، ولترقُد بأمان، حينما كنتُ أوَّل الواصلين إلى
المستشفى؛ بعدما تلقَّيْتُ نبأ العُثور على جُثَّته في أحراج منطقة عَرَمُون
–جنوب بيروت- من مركز الدَّرَك. يا إلهي.. منظر غير معقول
أبدًا!!. في قسم إسعاف الطَّوارئ. خلعوا عنه ثيابه، لتشريح الجُثَّة، رأيتُ طُيوفَ
الألوان الحمراء القاتمة والدّاكنة السَّوداء من آثار التَّعذيب الوحشيِّ الذي
تعرَّض له. عيناي جامدتان كقطعة حَجَر صُوَّانيٍّ، تصلَّب جفناهما فلا يقويان على
أن يَرِفَّا بأدنى حركة تستجيب لدواعي الحُزن والبُكاء، صدمةُ المنظر أَلْجمَت
الكلام في فمي، وفقدتُ شجاعتي، وأظنُّ فُقدان رُجولتي وقتها، وتوقَّف عقلي عن
التُفكير بأيِّ شيء. شللٌ تامٌّ حاق بي،
غدا شَكْلي ليس بأكثر من هيكل تمثال على شكل إنسان.
بصراحة أكثر ما حَزَّ بنفسي وآلمني، وحرق قلبي لمشهد خارج عن
تصوُّرات العقل والإدراك: حَرْقوا يده بمادَّة الأسيد، وانسلخ العظم عن لحمه
الذَّائب في قذارة أوعيتهم الصَّدئة، إذ تعكس صورة وجوههم المتوحِّشة، المُتطابقة
مع وجوه الذِّئاب، وهي الرِّسالة الواضحة لكلِّ قلمٍ حُرٍّ يعلو صوته صارخًا في
وجه الظُّلم، ويقول للظالم: يا ظالم بصوت تهتزُّ له جَنَبات الكَوْن".
توقَّف عن الكلام فجأة، غُصَّة تحشرجت في حلقه كادت تخنق
أنفاسه، تناول كأس الماء من على الطَّاولة، اِنْسكب منه شيئًا طال دفتر صديقه سكلمة،
بسرعة جفَّفه بورقة منديل.
اِنْتبه سكلمة من ذُهوله، ليُكمل بدوره؛ ليحكي حقيقة
مشاعره تجاه قضيَّة كمال جنبلاط وسليم اللَّوزي، وكأنَّه أراد تخليص ضميره
من كلام بقي حبيس صدره لسنوات طويلة:
-"للتاريخ يا صديقي سأقولها بصدق، وبإمكانك تثبيتها
والحديث بها، ونقلها عن لساني: أعلمُ عِلْم اليقين أنَّ قرار تصفيتهما صَدَر من
عندنا؛ لأنَّهما تخطَّيا الخُطوط الحمراء، ولامسا الممنوع وغير المسموح. تغيير
الخُطوط المرسومة كالكُفر بالله".
..*..
بداية عملي بالصَّحافة في مجلة الحوادث. هل تذكُر ذلك؟. البدايات
صعبة بالنسبة لي، في الأشهر الأولى عملتُ كمُتدرِّبٍ في المُتابعة والتّنسيق بقسم
الأخبار. لقائي الأوَّل بالمعلِّم سليم؛ حينما طلبني بعد الظُّهر في اليوم الثّاني
لدوامي.
رأيتُه بمهابةٍ نادرةٍ لا تُشبه إلَّا مهابة أبي بِصَرامتها،
اِبْتسامته السَّاحرة سابقت نظرات عينيْه المشغولتَيْن بمُطالعة ورقة كانت بيده.
لو قُدِّر لي تِعْداد ضَرَبات قلبي المُتسارعة بجُنون، لا أظنُّ إلَّا أنَّها
ناهزت المليون خلال النِّصف ساعة التي جلستها معه.
قيل لي وقتها من أحد زملائي لا أذكُر اِسْمه على وجه التحديد:
"بالفعل إنّك محظوظ يا جورج، لحصولِكَ على وقت ثمين لم يُتَحْ لنا
قبلكَ". غمرتني نشوة داخليَّة بارتياح عميق، قتَلَ كثيرًا من هواجسي غير
المُبرَّرة، وهدأت مخاوفي القلقة.
منذ زمان ليس بالقصير، تُقلقني فِكْرة فريدة؛ تستوطن عقلي لا
تغادر مكانها أبدًا.
-"قسمًا بالله إنَّكَ حيَّرتني، وأنت أبو الأفكار يا جورج.
ولو قَلِق العالم كلَّه، لا يُمكن أن تقلق". وأطلقها ضحكة، ليست بقدر ضحكة
صديقه قبل قليل.
-"صِدْقًا. بلا لَفٍّ ولا دَوَرانٍ عليكَ يا سكلمة.
شُعوري الدَّائم، بأنَّني أتشابه بِمُشكلتي مع سيَّارة المرسيدس".
-وما معنى المرسيدس بالذَّات يا رجُل؟".
-"المرسيدس؛
لأنَّها كانت شاهدة عَيانٍ على كلِّ الاِغْتيالات التي وقعت في لُبنان على
الأخَصِّ والشَّرق الأوسط عُمومًا، شهدتُ قبل ذلك اِغتيال الرّئيس رشيد كرامي،
وسماحة مفتي الجمهورية الشيخ حسن خالد".
-"من الرَّائع يا جورج أن نكون شاهديْن على العصر
على الأقلِّ إن لم نكُن شُهود زور، أو مثل (عبد السميع عبد البصير -عادل إمام-
في مسرحيّة شاهد ما شافش حاجة)، عندما نحكي، نحكي عن عِلْمٍ ببواطن الأمور،
ولا ندَّعي كاذبين. نَهْرِفُ بما لا نعرف".
-"الجريمة لا تنقضي بالتقادُم، يحدُث أن ننسى، وفي لحظة
فارقة تأتي ذاكرة المآسي عندما تأتي بأثر رجعيٍّ؛ فبرغم من مُضِيِّ ثلاثة وعشرين
عامًا على مقتل المُعلِّم سليم، بين فترة وأخرى تتجدَّدُ صورة يده اليُمنى
المحروقة بالأسيد أمام عيْنيَّ، بشاعة يقشعرُّ منها بَدَني، ويقف شعر رأسي كلَّما
تذكَّرت المشهد".
-"لن يتركوا صحفيًا ولا مُعارضًا، وإن كان شاعرًا أو
أديبًا، وما قبل سنتَيْن من الآن أتذكُر ما حصل للروائيِّ نبيل سليمان
باعتداء مجهولين عليه في بيته في اللّاذقيَّة؟، عندما اِفْتتح فيه مُنتدًى
ثقافيًّا للحِوار حوْل فكرة المُجتمع المدنيِّ في سوريا. بالطَّبع كانت نهاية
المنتدى بوقف جميع فعاليَّاته، بعدما نقلوه إلى المستشفى".
-"إنَّها سياسة تكميم الأفواه يا سكلمة..!".
-"ليس تكميمها فقط. بل المطلوب حقيقة: إسكاتها للأبد..!،
كما أسكتَ الإسرائيليُّون صوت غسَّان كنفاني من قَبْل، ولا تزال كلمة جولدا
مائير بتعقيبها على مقتله بوَقاحتها الكريهة، تصمُّ الآذان لمن سمعها أوَّل
مرَّة بتصريحها الشَّهير، وكذلك من قرأه في الجريدة أو في كتاب ما، لن ينسى روح
الشَّماتة التي أظهرتها، وما تردَّدتْ أو نَدِمَتْ أمام عدسات الكاميرات، ولو من
باب التَّمثيل أمام الرَّأي العامِّ العالميِّ، وما حَسبَتْ حِسابًا للاِنْتقادات
اللَّاذعة لقذارة كلامها الفجِّ، ولا لصفحات التاريخ.
لا أشكُّ بأنَّ لعنة الأجيال ستلاحقها ولو بعد مئات السِّنين:
(اليوم تخلَّصنا من لِواءٍ فكريٍّ مُسلَّح).بكلِّ أسف بدا بلهجة سكلمة
فيما قال.
-"شوف هالخبريَّة..! الريِّس رشيد حينما رفَضَ
تحذير الحارس الخاصّ به. العميد المُتقاعِد جمال الموَّاس المُرافق ا
للرَّئيس الشَّهيد رشيد كرامي، وقد سمعتُ منه ذلك مُباشرة: ("أبلغتُ
"الأفندي" بضرورة عدم اِنْطلاق الطَّائرة التي تُقلَّه أُسْبوعيًّا من
طرابلس إلى بيروت من قاعدة "أَدْمَا"، بل يمكن اِنْطلاق الطَّائرة من
قاعدة عسكريَّة في بيروت، وهذا أضمن.
لكنّ الرَّئيس الشَّهيد رَفَضَ ما أبلغتُه به قائلاً:
"هل تَشُكُّون في الجيْش اللُّبنانيِّ..؟ فأنا لا أقبلُ هذا الكلام". *
-" ليس بغريب ما ذكرْتَ يا جورج، وكأنَّ التاريخ
يُعيد نفسه. فمثلما حصل للرَّئيس رياض الصُّلح بالضَّبط، عندما (تمّ
تحذيره من أنّ جِهاتٍ تسعى إلى اِغتياله، ونُصِح بتأجيل زيارته للعاصمة
الأُردنيَّة عمّان؛ فكان جوابه: "هل يجرؤون على فعل ذلك أثناء زيارة رسميَّة
لدولة شقيقة..!؟"*.
______________________
*نقلا عن مقال زياد عيتاني. لموقع أساس ميديا
وجع الماضي يسترجع ذكريات مأزومة بأوجاع تتربَّص زمن
اِسْتعادتها؛ لتجديد مواسم الأحزان، ولِتبُثَّ دُروس الخوْف في نفوس الشُّجعان،
وتنثُر في طريقهم الأشواكَ لِتثنيهم عن
مُواصلة المِشْوار.
سكلمة وجورج
وَجْهان لِعُملة واحدة، كِلَاهما بإمكانه تكملة رواية أيّ موضوع أو حادثة رُويَت
منذ البداية. أو أيَّة دلالة عليه. ويتشابهان حدَّ التطابُق مع الحكيمَيْن "جورج
حبش" و "وديع حدَّاد" كلاهما من جيل واحد يتطابقان مع
فارق بسيط لا يتعدَّى الأشهر بميلادهما، ومن خرِّيجي الجامعة الأمريكية ببيروت،
وتتلمذا على يديّ "قُسطنطين زريق" الذي كان أستاذًا في نفس
الجامعة، ورئيسًا لها لسنوات طويلة، وتعلمَّا كما تعلَّم منه جميعُ دُعاة
القوميَّة العربيَّة والعُروبة؛ فالجميع مدينون له بما وصلوا إليه من أمجاد
قوميَّة.
بسهولة يستعيد أحدهما ما بدأه صاحبه أو جليسه. كأنَّهما كتابٌ
مُتسلسل على شكل روايةٍ مُتقنةٍ، بل الأصحُّ دِقَّةً أنَّ: جورج رواية
وحده، وسكلمة رواية أُخرى شبيهة. ربَّما يكمِّلان بعضهما حدَّ التطابُق
التامِّ.
طبيعة علاقتهما لم تتأثَّر بعوامل السِّياسة المُتناقضة في
مَسار كلٍّ منهما؛ فوظيفة سكلمة كمُستشار في ديوان رئاسة الجمهوريَّة في
سوريَّا، وعمل الصَّحافيِّ جورج في الصُّحُف اللُّبنانيَّة بطبيعته
المُعارضة للوجود السُّوريِّ في لبنان.
طروحاته الجريئة بوضوحها حِيَال سوريَّا كنظامٍ، وليس كشعبٍ،
فكما علاقته مع سكلمة، هي مع جميع المُستويات الثقافيَّة السوريَّة
والعربيَّة. فهل التَّنافُر السَّاكن دقائق الحياة مع كلِّ فردٍ، هو تفصيل شارحٌ
لدقائق دروس المُتناقضات المعشعشة في
الدَّواخل؟.
ولماذا يظنُّ البعضُ أنَّ مِخْيالهم الواسع المُنطلق في رحابة
الواقع دائمًا على حقٍّ؟.
ورُبِّما يضيق الوقت باِنْتحار الدَّقائق الحَرِجة، على
مَذْبح الخَيْبات التي تتخفّى خلف بوارق الأمل، وما تتداوله ألسنةُ النَّاس من
مقالات وحكايا وأمثال شَعبيَّة، لم تكُن لتأتيَ، وترسخَ على أطراف ألسنتهم، إلَّا
ليُطلقونها إذْ يَرَوْن الضَّرورة لذلك، وما قيل: (شو لَمْ المَتعُوس على خايب الرَّجا). تذكَّر سكلمة هذا المثل، وأراد تطبيقه على حالتهما
الرَّاهنة. ثانية اِنْطلقت ضحكة جورج هذه المرَّة بانسيابيَّة غير معهودة،
وبعد أن امتلأ جفنيْه بالدُّموع، سأل:
-"برأيكَ يا صديقي من منَّا المتعوس، ومن خايب
الرّجا؟".
-"لو أردتُ وتجرَّأتُ على قوْل الحقيقة: إنَّني أحملُ
الصِّفَتيْن معًا، وأنتَ يا جورج كذلك تحملهُما أيضًا".
-"كلامكَ فيه الكثير من الصِّحَّة، لقد تشابهنا بكلِّ
شيء كتوأميْن مُتماثليْن. وُلِدْنا مع ثوْرة القَسَّام في الستِّ والثلاثين،
ودرسنا بنفس الجامعة، وكُنَّا مُؤثِّرين في مجالنا الوظيفيِّ كلٌّ حسْبَ موقعه
الذي كان..". قال جورج.
-"ولا تنسى أنَّ كِلَيْنا أعزب؛ فنكون قد شكَّلنا
ثُنائيًّا مُرادفًا للثُنائيِّ الأشهَر عربيًّا بعزوبيَّته: الرَّئيس رشيد
كرامي، والرَّئيس ياسر عرفات. عندما تزوَّحا القضيَّة، ونحن تزوَّجنا
العزوبيَّة؛ فكان قَدَرُنا مصنوعًا على مقاسنا..!". بلهجة بَدَت بملامحها
المليئة بالأسَى على وجه سكلمة أثناء كلامه.
-"وها نحن في آخر النَّهار عند غروب شبابنا، تُسدَل
السِّتارة، ويحلُّ الظَّلام، وكأنَّنا لم نكُن بالأمس القريب..!".
-"سبعٌ وستُّون عامًا ألا تكفينا..!".
-"تخيَّل يا سكلمة هذا العمر الذي نحكي عنه، فإنَّ الأضواء
والشُّهرة حرقتنا، حرمتنا من نَوْم اللَّيالي لمُلاحقة الأحداث، هذا حالي وحال
أمثالي ممَّن امتهنوا الصَّحافة والإعلام، وصَدَق من سمَّاها مهنة المتاعب.
والنَّاس عند الصَّباح يتوجَّهون لأجهزة الرَّاديو والتلفزيون
لمعرفة الأخبار، بعد أن يكونوا قد ناموا جيِّدًا، وشخيرهم كان يُحيل صمت غُرف
نومهم الهادئة الغارقة بالأحلام والظَّلام إلى ضجيج.
بينما تتَّسِع حَدَقاتُنا ويحمرُّ البياض حولها، ونشفُط
المزيد من القهوة، ونُشعل السِّيجارة من أُختِها قبل اِنْطفائها. يا لها من أيَّام
حرَّقت أعصابنا بنيران مُتابعة أيِّ حدَثٍ على مُستوى العالم، والأكثر إيذاءً
لمشاعرنا ما كان يحدُث في بلادنا".
الاِنْفعال بلهجة جورج واضح تمامًا؛ فمن يسمعه أو يراه
من على بُعد مسافة لا يحتاج إلى تَخمين ذلك، يلحظ ملامحه المُتكِّدرة،
وعصبيَّة حركاته يديْه مُتزامنة مع كلامه المُستمرِّ.
بينما ينفثُ دخان سيجاره الكوبيِّ، ويتلمَّظ على طعم القهوة
في فَمِه، وزادت مرارتها على مرارة بحَسْرَة حديث الذِّكريات، غير آبِهٍ بِشُرود سكلمة.
وتابع:
-"تخيَّلْ كأنَّ لُبنان كُتِبَ عليه أن يبقى ساحة صِراعٍ
دائمٍ لمحيطه ومُتغيَّراته، واِهْتزازاته الصَّاعدة والهابطة، وفضاء لتنفيس حرارة
الغَلَيان الدَّاخليِّ. حتَّى تكوين ديمقراطيَّتنا مُفصَّلة تفصيلًا فضفاضًا لا
تضيق على أيِّ مَقاسٍ مهما كان، ولا بأيِّ فعلٍ أو كلام أو رأيٍ أو تَصرُّف".
بلهجة تَهكُمِيَّة قال سكلمة:
-"كم وَددتُ لو كانت قطعة صغيرة من ديمقراطيَّتكم عندنا،
لا شكَّ بأنَّ ديمقراطيَّة لُبنان فريدة، وأجيز لنفسي وصفها: بديمقراطيَّة
الشَّرق..!!".
-"كأنَّكَ يا سكلمة تعزفُ على وَتَر الأسى في
قلبي، بل إنَّها ديمقراطيَّة رَخْوة زَيِّ المطَّاط، والبلد يمطُّوه على مَقَاسات
جعلت منه مَشَاعًا مُباحًا بلا أبواب ضابطة لحركة من يَعبُر ويخرُج، وصارت وجهة
لجميع القادمين من الشَّرق أو الغرب".
-"نعم صحيح.. تمامًا كما ذكرتَ، فقد رَحلُوا من بلادهم
إلى هنا، مُحمَّلين بمشاكلهم المنظورة وغير المنظورة التي أقلقت البلد، وقلبت
حياته".
-أُقسِمُ يا سكلمة بأنَّ بلَدَنا أصبح مثل بيت دعارة
مفتوحًا ليل نهار؛ لإطفاء الشَّهوات المُتواثِبة في عقول أصحابها، ومقبرة
مَغْبُونة الحظِّ بأكوام ميَّتة من الرَّغبات الجامحة.
مِثْل كلِّ هارب من دَوْلته يأتينا، وكلَّ متآمر على بلده
يُخطِّط لعمل اِنْقلابٍ عسكريٍّ، ينطلق من هنا، بعد حصوله على الدَّعم من جهات
مشبوهة، وكلُّ من أراد تهريب المُخدِّرات، أو تزوير العُمْلة؛ يبتدئ من هنا. ولك
أن تتخيَّل مجيء الإمام موسى الصَّدر في الخمسينيَّات، عندما رسَّخ التغيير
الذي جاء من أجله، وعمَّقه ليتجذَّر بأرضنا الصغيرة بجُغرافيَّتها الضيِّقة ذات
الموارد الضَّئيلة غير الكافية لأهلها الأصليين.
رَحَل إلى رِحَاب ربِّه، بعد أن أسَّس جُمهوريَّته النَّاشئة
داخل دَوْلتنا، وتركها تنمو، حتَّى كادت
أو على وشَك اِبْتلاع لُبنان بأكمله.
جاؤوا من خلف البِحار، ورحَّلوا معهم مشاكلهم. ذهبُوا وتركوها
لنا نتصارع عليها أو من أجلها، أليسَ من الغرابة أنَّ جميع البشر لهم مصالح
عندنا..! يعني لو نحنا دولة عُظمى مو هَيْك..! شيء مُحيِّر".
-"أيضًا جمال عبد النَّاصر امتدَّت يده، لتدفع بفؤاد
شهاب رئيسًا للجمهورَّية، وكأنَّ الجنرالات يبحثون عن بعضهم، يفهمون كلمة
السرِّ المُشتركة. يعني تخيَّل أنَّ ذلك حَدَث بعد سنتيْن من مجيء الصَّدر إلى
لُبنان..!، رغم أنَّ شهاب يوصف بالقائد الأكثر عروبة. لصلاته المُميَّزة بعبد
النَّاصر وحلفائه في لبنان، لكنَّه في الوقت نفسه ضغط على الفلسطينييِّن بقوَّة..
سياسة بلا أخلاق، عروبي ويقف ضدَّ الأخوة الفلسطينييِّن، وما تفسيركَ يا جورج
باللِّقاء الشَّهير الذي جرى بين عبد النَّاصر وفؤاد شهاب في خيمة من الصَّفيح على
الحُدود السُّوريَّة اللُّبنانيَّة، كانت نصفها في لبنان ونصفها الآخر في
سوريَّا.. أليس هذا مدعاة للعجب..!". قال سكلمة.
-"ذهب جمال عبد النَّاصر إلى لقاء ربِّه، وأبقى
لنا حِزْبًا ناصِريًّا قويًّا وله ميلشياته العسكريَّة، وأجمل ما بقي في لُبنان من
آثاره هو "جامعة بيروت العربيَّة"؛ أرادها نديدًا للجامعة
الأمريكيَّة؛ تُخرِّج أنصارًا له في البلاد العربيَّة، يقودون بلادهم وِفْق رُؤيته
النَّاصريَّة؛ لاستبدال خِرّيجي الأمريكيَّة الذين يقودون بلادهم، ويُسيِّرون
دفَّة الحكم، وأنا وأنتَ منهم يا سكملة".
-"أرى أنَّهم جعلوا من لُبنان مُستنقَعًا أفرغُوا فيه
فوائض أوساخهم؛ فصارت وباءً مُدمِّرًا كآلة دَمارٍ شاملٍ مُفخَّخة؛ يُتوقَّع اِنفجارها
في أيَّة لحظة".
..*..
السّاحات المفتوحة ممرٌّ للعابرين بلا قُيود، - سكلمة يقرأُ من
دَفْتره صفحات مكتوبة بخطٍّ جميلٍ بلونٍ أسود، يبدو أنَّها بقلم حبر سائل- قد
تُرحِّب بهم، يرحلون وآثار أقدام تبقى عالقةً شاهدةً، تقول: "كانوا
هنا".
السَّاحة الصَّغيرة أمام المقهى مليئة بالزَّبائن الجالسين
إلى طاولاتهم، حركة السيَّارات بالاِتِّجاهين المُتعاكسيْن لا تتوقَّف. ضجيجُها
يُغطَّى على جَلَبة أحاديث الزَّبائن القابعين داخل الويمبي، ولعب الوَرَق
والنَّرد. الأيدي لا تتوقَّف بحركتها الدَّؤوبة النَّشيطة بالدَقِّ بقوَّة على
الطَّاولة بعصبيَّة ونزَق؛ إذا ما رَمَت ورق اللَّعب الخاسر من يدها، ولا حَجَرَيْ
"الشِّيْش بيْش" يَتَدحرَجان بجميع اِحْتمالاتهما، والعُيونُ
تُلاحقُ حركاتهما، والأنفاسُ تتوقَّف لمعركة الرَّقم الذي سيستقرَّان عليهما؛
لتحديد مصير من سيكون الرَّابح، ومن هو الخاسر.
بعد أن رَشَف جورج من فُنجان قهوته، شَفَط نفَسًا
عميقًا من سيجاره الكوبيِّ، اِحْتفظ بدخَّانه في فمه، إنَّما كانت خُيوط الدخَّان
تخرج من فُتْحَتيْ أنفه ببطء، بمنظر يذكِّر بالقطار القديم المُسيَّر بوقود الفحم
الحجريِّ، ينفُث من مُقدِّمته دُخانًا
أبيض كالبخار.
ما إنْ اِلْتقط سكلمة نَفَسه بِسَكْتَةٍ خفيفة، حتَّى
بادر جورج للتأكيد على نفس الفِكْرة التي قرأها سكلمة للتوِّ من
دفتره، يبدو أنَّها إرهاصاتٌ، أو محاولة لكتابة مُذكَّراته، ولن يكتبها أبدًا؛
اِسْتنادًا إلى تصريحاتٍ سابقة له في هذا المجال.
عندما سُئل مِرَارًا حول هذه المسألة، لكنَّها أَغْرَت جورج
بمُتابعة العزف على وَتَر سكلمة. بكلام من النَّادر التَّصريح به إلَّا في
حالات اِسْتثنائيَّة:
-"الحظُّ لُعبة الأُمنيات. قد يأتي أو لا يأتي، ليس
بالضَّرورة أنْ لا يبتسم لِشَخصٍ إلَّا مرَّة واحدة في حياته، بالمُقابل هُناك من
لا يبتسم له أبدًا ولا لمرَّة واحدة.
لعنةُ الحظِّ كلعنة السَّاحات المفتوحة على رأيكَ يا سكلمة.
كانوا يقولون في العادة عن شيء، أو إنسان ما أصابه النَّحس: (أصابته لعنة الفراعنة)، يعني أنَّها ليست لعنة الحظِّ
التي أصابت لُبنان، وجعلت منه ساحةً لا بل ميدانًا واسِعًا. وبالأصحِّ هي لعنةُ
الدِّيمقراطيَّة الهشَّة.
الدَّولة الرَّخوة تتميَّز بقابليَّتها الفظيعة لاحتواء جميع
المُتناقضات، كالإسفنجة تمتصُّ كلَّ رَشْحٍ ورُطوبة، لا أعتقدُ أنَّ دولة في
العالم تمتلك رصيد لُبنان من المُتناقضات، ربَّما أنَّ موسوعة "غينس"،
لو فَطِنَت لهذه النُّقطة، أو أنَّ أحدًا أراد تسجيلها، قد تُصنِّفه الأوَّل
عالميًّا".
سكلمة
صامتٌ عيناه تدوران في رأسه بحركة لولبيَّة، لا تستقرَّان على نقطة واحدة في أيٍّ
من زوايا المقهى، أو عبر نوافذه، وبوَّابته المُطلَّة على الشِّارع. اكتفى
بالاِسْتماع لكلام صديقه، غير معروف إذا كان يتابعه باهتمام، أو أنَّ ذهنه مشغول
بأمرٍ آخرٍ بعيدٍ عن جلستهما.
...*..
أذكُر أنَّ الأخوينُ رحباني كتبا بعد النَّكْسة للقُدس زهرة
المدائن، ولا أظنُّ إلَّا أنَّها كانت نبوءة الرَّحابنة. بالفعل لا أستطيع
السَّيطرة على مشاعري المُختلطة في لحظة انفجار غضبي وإحباطي: (الغضب السَّاطع
آَتٍ.. سَأمُرُّ على الأحزان)، اِنْفلتَ كلَّ غضب الدُّنيا وقتها علينا،
والتنِّينَاتُ تنفخ نارها من كلِّ الاتِّجاهات، حرقتنا بلا رحمة، لم يبق لون
للرُّعب إلَّا تجرَّعناه. قال جورج.
تحرَّكَ سكلمة في مكانه بحركة لا إراديَّة، مُبدِيًا
اِنْفعاله. قاطع جورج:
-"حينما أسمعُ كلمة النكسة أختها التي قبلها النكبة يقشعرُّ جسمي، وتنكتم
آفاق الحياة في عينيَّ، ويرتجف قلبي بخفقان باهتزاز يهزُّ كِياني من الأساس.
سامَحَ الله العرَّاب قسطنطين زريق أستاذنا، برأيي أنَّ حينما ابتكر هذا المصطلح
كان من باب الأتيكيت المقبول. على حالٍ مُوارَاةٍ ذكيَّةٍ؛ ابتعدت بنفوس العرب عن
فكرة الهزيمة؛ لكي لا يشعروا بعُقدة الذَّنب، ويجلدوا أنفسهم بسياط النَّدَم، ويفعلوا
فِعْلَة الكُسَعيِّ.
لن أسيء الظنِّ به أبدًا، إنَّما على الأغلب أراد إقالة
العثرة، وبثّ الأمل من جديد في نفوس من سبقونا، لنأتي ونسير على نهجهم.
وقد وقعنا ذات مرَّة في معمعة المُصطلحات، وقت انطلق الإعلام
بتسليط الأضواء والدقِّ وقرع طبول الخوف
والرُّعب من كلمة الإرهاب؛ فصارت موضة العقد الأخير من القرن العشرين.
وقتها كلَّفنا الرَّئيس بكتابة أبحاث ودراسات عن الإرهاب
وتاريخه وجذوره وأصوله، اِخْتار ثلاثة من بين فريق المُستشارين، ولم يلجأ
للأكاديميين من أستاذة الجامعات، وكانت تستهويه هذه المعلومات حتَّى العَظُم.
أخيرًا بعد عمل شاقٍّ دؤوب؛ خرجنا بنتيجة تليق بجُهدنا، وكان لي الفضل شخصيًّا
بِنَحْتِ مُصطَلَح "سلام الشُّجعان". الأقوياء المُنتصرون يصنعون السَّلام على
طريقتهم. الضُّعفاء المهزومون يقبلون ما يُملى عليهم طَوْعًا أو كُرهًا.
قمَّة سعادتنا تكلَّلت بخطاب شهير له بإحدى المُناسبات،
واِنْهالت عليه طلبات المقابلات التلفزيونيَّة والصَّحفية والإعلاميَّة من وسائل
عربيَّة وعالميَّة. لم يترك كلمة ممَّا كتبا، وشرح بما فيه الكفاية ممَّا أرضى
غروري وشعوري بنشوة فرحٍ عارمةٍ.
مُشكلة المُصطلحات بحَرْفيَّتها ودلالاتها الدَّقيقة. خُذ
مثلًا قرار الأمم المُتَّحدة الشَّهير "242" بعد حرب الأيَّام الستَّة
1967 ، حينما صاغوا الفقرة أ: (اِنْسحاب القوَّات الإسرائيليَّة من الأراضي
التي اُحْتِلَّت في النِّزاع الأخير)، وقضيَّة حذف (أل) التعريف من
كلمة (الأراضي)، ونكَّروها تمهيدًا لنكران أبشع وأفظع، وليُصبِح تفسيرها
مطَّاطًا بلا معنى، وضاعت الضِّفَّة الغربيَّة بأكملها ضحيَّة لمحو أل التَّعريف،
ولحقت بما ضاع ببركة القرار (181) على خلفيَّة الوعد المشؤوم.
..*..
(الغضب السَّاطع آتٍ.. سأمُرُّ على الأحزان). بحُرقة
كرَّر جورج العبارة: "الأحزان أهلكت قلبي، سحقت عظامي، وأتلفت
أعصابي".
بصوت مسموع لمعظم زبائن الطَّاولات القريبة منه. كلامه ما لفت
نظر أحد إلَّا رجُلًا عجوزًا قابعًا في زاوية الويمبي الداخليَّة المُعتمة قليلًا،
وجهه بدا شاحبًا، عيناه غائرتان للدَّاخل، تدوران بحركات مُتباطئة خلف النظَّارة
السَّميكة، يسحب دخانه من غُليون خشبيِّ قديم ما زال زاهيًا، ويعتمر على رأسه
قُبَّعة حديثه، رفع حاجبيْه فوق مستوى النَّظارة. تُحدِّثه نفسه المُشاركة بحديث
يعني له شيئًا لا يعرفه إلَّا هو بالذَّات، شنَّف أُذنيْه لمُتابعة حديثهما. قام
من مكانه مُتثاقلًا إلى طاولة فارغة أقرب ما تكون بتمكينه من سماعهما، وإذا لزم
الأمر ربَّما يتدخَّل لمُشاركتهما. لم يفعل؛ مُؤثِرًا الاِنْطواء على نفسه. يسترقُ
النَّظرات الخاطفة إليهما، ويرفع عدستي النظَّارة ليتأكد من رؤيته، أُذُناه
تشتغلان بطاقتهما القُصوى لالتقاط حروف الهمس إن خفضا وتيرة صوتهما، بالضَّبط
كأفعال المُخبريِن المُحترفين المُكلَّفين بمُراقبة أحدٍ ما.
منذ 1968مع أوَّل عمليّة قام الفلسطينيُّون بها في الجنوب؛ كانت
صراعًا مُسلَّحًا ضد إسرائيل منذ 1968على الأراضي اللُّبنانيَّة، وانتقام إسرائيل
بعمليَّة اللَّيطاني، وتفجير الفردان، ومذبحة تل الزَّعتر والكرنتينا. ومجزرة صبرا
وشاتيلا. وحرب المُخيَّمات، والاغتيالات العديدة لشخصيَّات مختلفة الانتماء
والتوجهات.
وتتفجَّر الحرب أهلية لبنانية شاملة على مدار سبعة عشر من 1975، حتى خروج
الُمنظَّمة إلى تونس بعد الاجتياح الإسرائيلي 1982.
الحرب طوفان جارف يجتاح كلَّ مَنْ يقف بطريقه. لا أحد
يستطيع الصُّمود أمامه. موضوع حيَّرني
طويلًا –جورج
يحكي- لماذا تركوا بلدانهم وجاؤوا لبنان لتصارعوا؟. ولماذا يخوض لبنان حروب غيره؟.
ولماذا أصحاب القضيَّة ورفاق السِّلاح من إخواننا الفلسطينيِّن خاضوا "حرب
الأخوة"؟. مُبرَّرٌ لهم محاربة العدو بوسائلهم المُتاحة. أصابنا المثل: (قاعد
بحضنه.. وينتف بدقنه). غلطتهم كرَّروها ثانية هُنا بمنافسة الدَّولة والأحزاب
والطَّوائف، مثلما فعلوا سابقًا في عمَّان. يطول الكلام ولا ينتهي عند حدِّ. هذا
وغيره مُؤْسٍ ومهما قيل سيبقى هناك الكثير الذي لم يُقَل.
..*..
اسْتحوذَت مشاهد شاشة التلفزيون كبيرة الحجم على اِهْتمامه، تشدُّ
انتباهه إليها عُنوة, فقال من غير انتظار أن يسمعه جورج، وكأنَّه يُحاكي
نفسه:
-"إشارة محطَّة الجزيرة أصبحت الأشهر على الإطلاق على
مُستوى العالم، نافستِ القَنوات الأجنبيَّة في نقلها الحيِّ والمُباشر لحظة وقوع
الحدث. يصلني صَوْت المُذيع واضحًا من السَّهل تمييز كلامه عن خليط الكلام
المُتداخِل.
لكنَّ الإعلام العسكريِّ الأمريكي لعب دوره الفعَّال في معركة
سقوط بغداد، لم يسمحوا بنقل أيَّة مشاهد إلَّا المنقولة عن طاقمهم العسكريِّ، كلُّ
شيء مدروس بعناية. توقُّف جميع فترات العرض على مشهد الرافعة والحبل يتدلَّى منها
لخلع تمثال الرَّئيس، وكأنَّها إيماءة ذكيَّة لتقول للناس: ها نحن خلعناه وأعدمناه،
وعندما سقطَ أرضًا كانت المطارق الحديديَّة والأزاميل الحادَّة تنتظر الانتقام
بتحطيمه، والأقدام تتسابق لوطء ما تناثر من فتات القِطَع الصَّغيرة، كلُّ ذلك
ترافق مع الهُتافات المُبتهجة بهذا الحدث، وأقذع الشَّتائم التي تعجز عنها قواميس
اللُّغة عن الإتيان بجزء منها.
يا إلهي..!! يا لعجبي من هذه المفارقة الصَّادمة، للأيدي
الحاملة للمطارق أدوات التحطيم، بالأمس كانت تُصفِّق للقائد واِنْتصاراته،
والحناجر والألسنة لا تتردَّد بالهُتاف له ولإنجازاته.
عيناي لا تُصدِّقان ما يجري، بين عشيَّة وضُحاها يجري هذا
الانقلاب والتحوُّل عكس الاتِّجاه بمئة وثمانين درجة. تدخَّل جورج مُقاطعًا:
-"بل تصحيحًا لكلامكَ يا سكلمة: بل ثلاثمئة
وستِّين درجة، أعتقدُ أنَّ الأمر أعقَدَ بكثير ممَّا هو مُتوقَّع بمئات المرَّات،
وبعد كلِّ هذه السَّنوات. ما زلتُ أتساءل نفس تساؤل الرَّئيس "جمال عبد النَّاصر"،
وأظنُّه كان مُحِقًّا في ذلك: (لماذا لم يتمكَّن البعثيُّون في سوريّا والعراق
من الوحدة، عندما حكموا بغداد ودمشق..!؟) ها هو الشَّيء بالشَّيء يُذكَر،
وأجزمُ بأحقيَّة مقولة "ميلان كونديرا": (إنَّ تخريب
الذَّاكرة ضربٌ من طُموح السِّياسيِّ، وفخٌّ ناجحٌ للشَّعب الغافِل).
تستفزّني ذاكرتي، واستفزاز الذَّاكرة ليس سهلًا؛ الملك حُسيْن
-رحمه الله- بَذَل قُصارى على مدار فترة زمنيَّة، لإقناع الرَّئيسيْن، وفي نهاية
المطاف اِستطاع عقد اِجْتماع سِريٍّ
للغاية بين الأسد وصدَّام؛ اِسْتمرَّ
إحدى عشرة ساعة في صالة خاصَّة، وأخلى لهما الجوَّ؛ ليتصارحا؛ ليحلَّا
خلافاتهما إن اِسْتطاعا التنازُل عن عنجهيَّتهما المُقزِّزة. العُقَد النفسيَّة
شديدة التَّعقيد، قسمًا بالله لو جيء بأعظم أطبَّاء النَّفس في العالم أجمَع،
لوقفوا حائرين، ولما تردَّدوا بإعلان عجزهم، ولم يبق بأيديهم علاجًا لهما إلَّا
الكَيِّ لأنَّه آخر الطبِّ.
في غرفة مجاورة يتقلَّب على جمر الانتظار بفارغ الصَّبر، ومن
شدّة حرصه على السريَّة كان يوصل المشروبات والطَّعام لهما من خلف الباب. ضجيجهما
الغاضب يخترق حاجز الصَّمت؛ ليصله في الغرفة المجاورة. وما فَقَد الأمل في إصلاح
تصدُّعات عميقة من الصَّعب رأبها
اِسْتلم سكلمة دفَّة الحديث مُجدَّدًا وتابع:
-"بالله عليكَ يا جورج لو قُدِّرَ لكَ إجراء
مُقابلة صحفيَّة مع الرَّئيس جمال عبدالنَّاصر. فهل كان سيخطُر ببالكَ سؤاله:
لماذا لم يُحاول تجسير الهوَّة بين دمشق وبغداد، لوضعهما على طريق التَّقارُب
مبدئيًّا، ومن ثمَّ يجيء دور وحدة، استكمالًا لمشروعه في تأجيج فكرة الوحدة
العربيَّة، وهو القُطب القوميُّ الأبرز عربيًّا. هل كنتَ ستردَّدُ في هكذا طرح؟.
الحقيقة تَسوخُ ذوَبانًا بين عبد النَّاصر والبعثيِّين.
أيُّهما المؤمن بالوحدة العربيَّة؟.
أخوَف ما أخافُ منه: أنَّهما لا يُؤمنان بها أصلًا..!!، وتلك
مصيبة إذا صدقت ظُنوني. يعني ذلك أنَّ الأمة العربيَّة من المُحيط إلى الخليج كانت
في وَهْمٍ، وغياب تامِّ عن الوعي بحقيقة ما يجري على المسرح.
لاحِظْ معي أنَّ الملك "حُسيْن" حاول، ولم
يدَّخر جُهدًا بتقريب وُجُهات النَّظر بين الزَّعميْن "حافظ الأسد وصدَّام
حسين" لمواجهة الطَّاعون القادم من الشَّرق. الحياة مواقف ستُذكر عاجلًا
أم آجِلًا. لنَعُد لقضيَّة إغراق المُتابع بهذه النُّقطة وتفاعلات النَّاس، ولا
تتوانى قناة الجزيرة بنقل الحدث العاجل خلال دقائق من موقعه. لتُوتِّر الأجواء،
وتزيد من حدّة القلق، أعتقدُ جازمًا أنَّ القنوات الإخباريَّة ووكالات الأنباء لا
تتناقل إلَّا الأخبار والمآسي والموت الدَّمار؛ وهي سبب رئيس للإصابة بالجلطة
العصبيَّة والدماغيَّة.
أستغربُ لماذا لا تستنفر هيئات الرّعاية الصحيَّة لتحذير
المواطنين من التقليل من خطر متابعة الأخبار، مثلما فَعَلتْ مع منتجات الدخَّان
بمختلف أنواعه".
..*..
استمرار حركات يديْه. مرَّة بالمسح على شعره، أو على شاربه،
الذي ما فَتِئ يمتصَّه لداخل فَمِه؛ لتنظيفه ممَّا علق به بعد اِرْتشائه من فنجان
قهوته، والمَسْح حول فَمِه بمنديل وَرَقيِّ.
لابدَّ أنَّ حديث جورج قبل قليل اِسْتثاره لصراحته الفَجَّة.
مُؤكَّدٌ أنَّها ستفتح عليه أعشاش الدَّبابير. بعد تجرُّؤه بالتَّصريح عن
جمهوريَّة الصَّدر. ولمَّا أيقنَ من سلامة مَوْقفه؛ فيما لو تكلَّم بما يتوافَق مع
ما سَمِعه من صديقه بخُصوص لبُنان، بكلام غير مسبوق منه قطٌّ. اِبْتسمَ اِبْتسامةً
بالكاد اِرْتسمت على فمه؛ فقال:
-"أمرٌ لا يختلف عليه اِثْنان يمتلكان أقلَّ درجات
العقل، أنَّ البلد الرَّخوة صارت ساحة لجمهوريَّات الموْز، وما من لعنة هُناك أفظع
من هذا..! يعني ماذا ننتظر من نظامٍ
سياسيٍّ أنشأت اِسْتقلاله إرادة البريطانيِّين. لم يتوان "الجنرال سبيرز"
باستخدام بِحِنكَتِه القويَّة، وبمهارة أجْبَر الفرنسيِّين المُنتدِبين على لُبنان
بعد سقوط "خطِّ ماجينو" وعلى الأخصِّ بعد عمليَّة "إنزال
النُّورماندي"؛ اِنْقلب أعلى فرنسا إلى أسفلها والعكس صحيح؛ لِيتخلُّوا
عن أنصارهم، لمصلحة أنصار بريطانيا "بشارة الخوري" و"رياض الصلح".
-"كلامك لا يختلف عليه اِثْنان يا سكلمة، وهذه
النُّقطة لفتَت اِنْتباهي لشيء مُهمِّ، وكأنَّ جمهوريَّة الصَّدِر، مهَّدت لنشوء
بل كانت مُقدِّمة صالحة لتجربة أولى ناجحة، مهَّدت لجمهوريَّة الفاكهاني برئاسة
الختيار أبو عمَّار كما يُلقِّبونه، وبعدها جمهوريَّة عنجر بقيادة غازي
كنعان".
-"اِخْتلفتِ الأهداف والأجندات والرُّؤى، وهذا ما
اِسْتدعى التَّنافُس في جُغرافيا ضيَّقة. عند التَّنازُع على الجُغرافيا فالنُّقطة
تختلف بأهميَّتها عن تلك البعيدة عنها مترًا واحدًا.
الجميع يتقاتلون لإرواء ظَمَئِهم واَحْتواء الجُغرافيا. من
يُسيطر عليها سيكتُبُ تاريخه عليها، وينزِع تاريخها القديم؛ فيستبدله بآخر جديد من
صُنْعه، أو يقوم بمحاولة تعديله وتحريفه لمصلحته.
الجُغرافيا تُحقِّق أحلام القادة والزُّعماء، ولا جُغرافيا
بلا أهميَّة أبدًا، تكتسب القَدَاسة إذا تحوَّلت إلى وطنٍ غارق بأدبيَّات ذات
أبعاد تاريخيَّة، وإن كانت مُنطوية على مُتناقضات أساسيَّة.
برأيي أنَّه من المُستحيل اِحْتمال ضخامة المشاريع التي تفوق
حجم وإمكانيَّات لُبنان بعشرات المرَّات".
بلهجة طافحة بالأسى والحُرقة خرجت كلمات جورج من
أعماقه المحروقة، فمن رأى ليس كمن سمع. هو رأى وعَايَن؛ فكان شاهِدَ عَيانٍ،
موقِنٌ باستحقاق كلِّ كلمةٍ ينطقُها، وبِصَواب أيِّ حُكمٍ سيُطلقه على أيِّ أمر،
لا ينتظر سماع رأيٍ آخَر أو مشورة أحد لمعرفة ما حصل، ومن غير المُحتَمَل إطلاقًا
زحزحة قناعاته لتغيير رأيه، ولو قَيْد أُنمُلَةٍ بعيدًا عن ذلك.
-"آلام الوطن لا تتركنا نرتاح، فإذا تألَّم مرضنا
جميعًا. مثلًا جاء الفِلسطينيُّون بمختلف تنظيماتهم؛ ليبنوا جمهوريَّتهم هنا في
الفاكهاني بقيادة الخِتْيار ياسر عرفات، حينما فَشِلوا في إقامتها
الأردنُّ، وبطبيعة الحال من غير المُمكن أن تسمح لهم سوريا بذلك، على الرَّغم من
أنَّها تساعدهم، وتدعمهم لوجستيًّا.
خلافات التَّنظيمات داخل منظَّمة التَّحرير، جَعَل من سلاحهم
يعكس اِتَّجاهه لصدور إخوتهم، والمُشكلة أنَّ جميعهم يريدون تحرير فلسطين.
..*..
من
غريب الصُّدَف أن تتوافق
الظُّروف وتتآلَف؛ لتخلق حالة جديدة، ومن العجيب كيف اِستْطاعت الصُّدفة السَّماح
بمرور سيَّارة بشارع الحمرا من أمام الويمبي، والأعجب المُدهِش ذلك السَّائق
الشَّارد بأفكاره..!.
الضَّجَر يرسمُ لوحة من القلق على ملامح وجهه. عيناه زائغتان
بنظراتهما السَّاهمة بلا مُبالاة بالتَّركيز على نُقطة على نقطة مُعيَّنة. اكتظاظ
السيَّارات سبَّب اختناقًا مُروريًّا.
احتجاجات السَّائقين الآخرين جعلت شتائمهم تتمازج متآلفة
الهدف مع انطلاق زمامير سيَّاراتهم ذات الأصوات المتنافرة، تعالت نسبة الضَّجيج
بلغت حدَّها الأقصى.
بينما حجم ذلك السِّائق لا يقلَّ ضخامة عن فرس النَّهر، ومازال
صامتًا، غير مُبالٍ بمحيطه الهائج الغاضب. من غير المعلوم إن كان يعي معاني
الأغنية المُنطلقة من راديو مركبته. بصوت "جوليا بطرس" بنبرته
الحادَّة التي اخترقت كتلة الضَّجيج في الشَّارع وصلت إلى داخل صالة الويمبي:
(غابت شمس الحق\\وصار الفجر غروب
وصدر الشَّرف انشق\\وتسكَّرتْ دروب)
انتبه جورج من استغراقه بأبعاد الحديث المُتداول بينهما،
عندما التقطت أُذُناه صوت جوليا؛ توقَّف عن حديثه. بينما كَرَعَا ضحكة مزدوجة منه
ومن سكلمة، ولم يكُن هناك هو مُضحِكٌ.
سكلمة: "شُعوري أنّ ما أضحكني. أضحككَ..!".
جورج: "على الأغلب..!"، وأطلَقَ سُحُب دُخان سيجاره
الكوبيِّ، نفس اللَّحظة شهدت انطلاق دخَّان السِّيجار من فم سكلمة.
"أُقسِمُ يا سكلمة أنَّ ما أضحكني هو العبارة: (صدر
الشَّرق انشق)، للوهلة الأولى ذهب تفكيري
إلى شرق بيروت، بأنّه قذف بجميع بَشَره وسيَّاراتهم إلى هُنا، والسيَّارات
جاءت تتدحرج مُسرعة لتلبية نداء جوليا، وانظر الدُّروب التي تسَكَّرَت جميعها،
وصارت الأزمة الكُبرى والمُروريَّة جُزء منها.
تذكَّرتُ الشَّاعر كاتب هذه الكلمات، إذا أسعفتني ذاكرتي أنَّ
اسمه "نبيل أبو عبدو"، جمعتني الصُّدَف ذات مرَّة به بأحد الاحتفالات مع هاروت.
سكلمة: "من هاروت..!؟".
جورج:
"هاروت فازليان" مايسترو الفرقة الموسيقيَّة التي تعرف لجوليا،
وهو عازف عالمي، ومشهور جدًّا الخارج، ونال تقدير وإعجاب العالم السيمفوني
الأوبِّرالي".
هزَّ سكلمة رأسه استحسانًا للمعلومة الجديدة، الوافدة
إلى عالمه المُترَع تُخمة بمعارف ومعلومات موصَد عليها بأقفاله السريَّة، وغير
مُتاحة للتداول بأي شكلٍ كان، وهو لا
يقلُّ أهميَّة عن البنك الدَّولي المُستحوذ على مُعظم أموال العالم.
تابع جورج:
-"الشَّيء بالشَّيء يُذكَر. شوف كيف جوليا كيف رجَّعتنا
للجنوب غصبًا عنَّا. هاي البنت جنوبيَّة من صور، وكأنّها أليسار عندما تركت صور
وهاجرت إلى قُرطاج، بينما جوليا هاجرت لبيروت ومن صغرها كانت تُغنِّي مع جوقة
مدرسة الرَّاهبات الورديَّة, بس الظُّروف قادتها إلى طريق الشُّهرة. أخوها زياد
موسيقي ومُلحِّن. لقاؤه مع "نبيل أبو عبدو" صنعا مجدًا
للجُغرافيا.
فأصبح الجنوب أيقونة عربيَّة، اِنْتشلته من غياهب النِّسيان
والإهمال ليتصدَّر المشهد العالميِّ، ومن متاهات الأخبار بإحصاء أعداد القتلى،
وحجم الدَّمار بعد كلِّ غارة إسرائيليَّة، وصلحت الأغنية لكل جنوب في العالم، من
جنوب لبنان وحصرًا من الشَّقيف و أرنون، إلى جنوب العراق وملحمة أم قصر والنَّاصريَّة.
كأنّ هاي البنت مخلوقة أصلًا من رحم المُقاومة. سألتُها ذات
مرَّة؛ فأجابتني بطريقة طريفة: (إنَّ أمِّي فلسطينيَّة الهويَّة من أصول
أرمنيَّة).
على سبيل المِزاح أجبتُها من فوري: "أتوقَّعُ يا جوليا
أنَّ جدَّكِ لأمَّكِ كان من الطِّنشاق أو
الهنشاق". اِسْتحسنت مُلاحظتي: "يعني أنَّكِ جنوبيَّة، وأمَّك أرضعتكِ
حليبها الفلسطينيِّ والأرمنيِّ، ولا شيء يأتي عبثًا. يعني يا جوليا لم تُخلَقي
هكذا مثل الآخرين. بل من خليط مُتمازج فيك، وكلّ الخُيوط امتدَّت من أقاصي
الدُّنيا وقريبها؛ لتُكوِّن عُقدتها فيكِ".
كان حديثي ذاك الوقت مصد سعادة لها، رأيتُ ذلك يتراقصُ في
عينيْها الجميلتيْن، وعلامات الفرح تملأ وجهها بمعاني الإصرار والتحدِّي.
سكلمة: "أوَّل مرَّة أعرف هذه المعلومة عنها. كنتُ
التقيتها مرَّة في دمشق في أحد الاحتفالات بشكل عابر على هامش معرض دمشق
الدُّوليِ، قبل دُخولها للمسرح بنصف ساعة، سلام وكلام مجاملات وإطراء، لم أذكُر
أكثر من ذلك، ولا حتَّى في أيِّ عام كان".
..*..
الحرب والموت صديقان متآلفان بتناغُمٍ، فإذا حضر أحدهما حضر
الآخر حتمًا من أجل وليمة الدَّمار، ولا حياة مع الحرب لأنَّهما تُناقضهما، كلاهما
عدُوَّان لا يلتقيان".
-"أستاذ جورج. لو تأمَّلتَ حال الحكيم "جورج
حبش" وقد تَرَك الحِكْمة وتطبيب الأجساد المريضة، وتوغَّل في السِّياسة.
حقيقة من جِهَتي فأنا من أشدِّ المُعجبين ببراعته وذكائه، لا شكَّ أنَّه من
الأفذاذ بمواهبه القياديَّة.
حينما أنشأ حركة القوميِّين العرب، وبسرعة اِنْتشر التَّنظيم
إلى معظم الدُّول العربيَّة، وامتدَّ نفوذ الحكيم إلى اليمن الجُنوبيَّ، وبعد يأسه
من تجربة العمل في دمشق خاصَّة بعد الاِنْفصال؛ ولأنَّه محسوبٌ على عبدالنَّاصر،
تمَّت مُلاحقته، ومن ثمَّ قُبِض عليه وحُبِس؛ اِلْتَفَّ على الرَّئيس جمال عبد
النَّاصر، ومنذ أوَّل لقاء بينهما، طالبه بدعم الكفاح المُسلَّح في جُنوب
اليمن وفلسطين، وبحنكته أقنع الرَّئيس ووافق على تدريب عسكريٍّ لمقاتلين
فلسطينييِّن، مع حُزمة مِنَحٍ دِراسيَّة في الجامعات المصريَّة.
ولم تنتظر طويلًا أَذرُع الاِسْتخبارات المصريَّة للتدخُّل
المُباشر؛ فامتدَّت لمُناصرة الجبهة الوطنيَّة بقيادة "قحطان الشَّعبي"،
إلى أن اِسْتقرَّ لها الأمر بالاِنْفراد بساحتها في عَدَن؛ حيث لم يستطيعوا دمجها
بجبهة التحرير اليمنيَّة بزعامة "عبدالله الأصنج".
-"أصحبتُ على قناعة تامَّة يا سكلمة، بأنَّ
الحكيم ببراعته اِكْتَشف الطُّموحات القياديَّة العظيمة لدى الرَّئيس، ففتح له
بُوَّابة السَّاحة اليمنيَّة وتركه يدخلها وحده، لإرواء ظمأ العظمة المُتأجِّجَة
في عقل الرَّئيس، بصناعة صفحة من الأمجاد؛ لتكون مُستنقعًا يغرق فيه الجيش
المصريُّ فيما بعد".
-"طيِّب برأيك أنَّ الحكيم حبش وَرَّط الرَّئيس
عبدالنَّاصر..!؟. شوف الحكيم وديع حداد
أيضًا كزميله الطَّبيب في الجامعة الأمريكيَّة الحكيم جورج حبش،
تَرَك الطبَّ والحكمة، ونَبِغ في التَّخطيط للعمليَّات العسكريَّة ضدَّ الأهداف
والمصالح الإسرائيليَّة داخل فلسطين وفي أيَّة بُقعة من العالم.
بينما كان وديع الصَّافي يُغنِّى أشهر أغنياته: (خضرة يا بلادي خضرة..)، على وقْع عمليَّات
الحكيم وديع بخطف الطَّائرات والاغتيالات والتَّفجيرات، وبعد كلِّ عمليَّة يقوم
بها، تنتقم إسرائيل من لُبنان عِقابًا
جماعيًّا؛ لتحرق الأخضر واليابس.
ويعجبني إصرار وديع الصَّافي بمطالبته المُستمرَّة
بإعادة الإعمار: (عمِّر يا معلِّم العمار..). شوف الفرق بين الحكيم عندما
يجيب الخراب، واستجابة الخليج لنداء الفنَّان وديع ليدفع بِسَخاء وطيب خاطر أُجرة
المِعْمار".
-"بالفعل شيء غير معقول أستاذ سكلمة.. الحِكْمة
توقَّفت جميع طرقها، ونصائحها أمام طُموحات المنافسة والسَّيْطرة؛ فلم يكتَفِ
الحكيمان برؤيتها الثوريَّة لتحرير فِلسطين، التفتوا للمُناحَرة مع رفيق الطَّريق
والسِّلاح ياسر عرفات وغيره، أو على الأصحِّ هو لم يُطِق منافستهم على
الزَّعامة، واِسْتدارت بُندقيَّتهم عكس الاتِّجاه، ضاعَتْ بوصلتهم.
والنَّار اِشْتعلت لحرق ساحتنا، واِحْترقنا. كنَّا معهم في
تحرير فلسطين، ولمّا ضَلَّت بُندقيَّتهم هَدَفَها الحقيقيِّ خالفناهم. بُوصِلتنا
ما زالت تؤشِّرُ صَوْب فِلسطين".
بِحَماسٍ عاد سكلمة للكلام:
-"الحربُ مَوْتٌ وخَرابٌ... والفنُّ ذوْقٌ وحياة.
المُحاربون مشغولون كلَّ وقتهم
بالتَّخطيط، ينامُون على أحلام النَّصر المفقود، أو على متاهة النَّصر،
والهموم تُثقل كواهلهم. الفَنَّانون ينامونَ من تَعَبٍ يرسُم دروب الحياة، وبثّ
روح الفرح والتفاؤل والأمل.
الحكيم وديع هجر الحكمة ووداعته، ليشتغل بالحرب والخطف،
وتباعَد وجه التَّماثُل مع المُطرب وديع، وهو يُطرب النَّاس بوداعة وجهه البشوش.
من السَّهل قراءة البِشرَ في وجهه الطَّافح بمساحة الحبِّ،
التي غطَّت ساحتنا وما حولها من السَّاحات العربيَّة، ولَأْلَاء صلعته يُثير نشوة
الحياة في رؤوسٍ اِنْسجمت؛ فتمايَلَت طربًا مع عَزْفه. بينما اِفْتَقَدت صلعةُ
الحكيم التعاطُف، رغم وداعة ملامح وجهه البريئة بظاهرها، وتحتها تُخفي ما
تُخفي".
..*..
سكلمة انفتحت قريحته على الكلام بطلاقةٍ غير معهودةٍ بطبعِهِ في
الاِنْطلاق في الأحاديث مثلما هو الآن، نشطت ذاكرته بعدما كان قد أعلن لصديقه جورج
عن تَعَبه. فقال:
-"برأيي لأنَّ جمال لُبنان بمُتَناقِضاته التي تبدو
بظاهرها مُتنافرة، وتعلم يا جورج
كم كنتُ مُعارضًا لتيَّار سعيد عقل
المجنون غير المقبول بمواقفه المُعلنة والعُدوانيَّة من الفلسطينيِّين والقضيَّة،
ولم يكُن يتحرَّج من التصريح بذلك بمقابلاته التلفزيونيَّة ولقاءاته.
هذا الكلام لا ينفي باِحْترامه كشاعر كبير؛ اِحْترامًا
لشآميَّاته التي لم يكتُب الشُّعراء السُّوريُّون مثلها على الإطلاق. بطبعي أميل
إلى الحُكم على كلِّ موقف على حِدَة، ولا آخُذ بالحكم على المواقف بالجُملة".
اِنْتبهَ جورج من شروده، واِسْتغلَّ سُكُوت سكلمة،
ليقول:
-"وماذا سأفعل مع مُعلِّمِنا قُسطنطين زريق؛
عندما بثَّ فينا روحه وعقيدته الرَّاسخة بالقوميَّة العربيَّة، اِتَّبعناه؛
وصِرْنا كما أتباع الأنبياء، تشرَّبنا أراؤه، وحفظنا أقواله؛ لنكون أئمَّةً
ودُعاةً على مختلف المنابر العديدة في أيِّ مكان هبطنا إليه، ولم نتنازل عن
آرائنا، ولم نُزاوِد بها على الآخرين.
ووفاء له، لم أكُن أنقطعُ عن جلساته الأُسبوعيَّة التي
اِسْتمرَّت إلى آخر حياته تقريبًا، إلَّا لأمرٍ خارجٍ عن إرادتي، إمَّا بسفر أو
عمل لا يحتمل التأجيل إذا تعارض مع يوم جلستنا معه، وكانت فرصة للقاء الأصدقاء
القُدامَى، والتعرُّف إلى المُتَتلمِذين الجُدُد على يديْه على قِلَّتِهم،
ونَدْرَتِهم.
التطوُّرات المُتلاحقة على السَّاحة العربيَّة والعالميَّة؛
لم تترك فُرصةً لاِلْتقاط الأنفاس، للبحث عن المبادئ والأفكار، أرى أنَّ
الأكثريَّة تنزع نحو الاِنْتهازيَّة السِّياسيَّة، المُنطوية تحت سِتار
الدِّيماغوجيَّة لتصيُّد المنافع
والفُرَص؛ إطلاقًا أنا لستُ ضدَّ الفلسطينيِّين بذاتهم، ولستُ أُوافق موقف سعيد
عقل المُتطرِّف ضِدَّهم بأيِّ شكلٍ كان، بينما كان مَوْقفي واضحًا ضدَّ
الوُجود السَّوري في لُبنان، وتحوُّل مساره، وسبب مجيئه تحت مِلاءَة شرعيَّة
الجامعة العربيَّة، وبإجماع الأمَّة العربيَّة، ليكون قُوَّة رَدْعٍ لإسرائيل التي
تعتدي علينا وقتما تشاء، وصَدِّ عُدوانها عن لُبنان والمحافظة على سِيادته.
لكنَّ جمهوريَّة عنجر تضَّخمت، وتضخَّم دور قائدها الجنرال
غازي كنعان، وساعده الأيمن الجنرال رُستم غزالة، إلى أن أفرَغُوا جموع
نِطَاف فُحولتهم العسكريَّة، وجرَّبوا كافَّة أساليبهم القبيحة فينا، لهذا أستطيعُ
التَّفريق بين حُكَّام جُمهوريَّات الموز، الأقوى والأعتى بينهم على
الإطلاق جمهوريَّة عنجر، إلى أن اِلْتَهَمَتْنا جميعًا بلا اِسْتثناء، وتناغمها مع
جُمهوريَّة الصَّدْر الأقرب محبَّة بزواج غير مُعلن".
تناول جورج كأس الماء من على الطَّاولة، سمع صوت
اِزْدراده لجُرعةٍ رطَّبت حلقه النَّاشف، وقال:
-"العَمَى بِعُيونهم.. العَمَى.. شيء يُنشِّف الرِّيق
غَصْبًا عنَّا".
بدأ سكلمة يتململ في كُرسيِّه، قام واقفًا مَاطًّا
ذِرَاعيْه للأعلى، مُترافِقًا مع بثِّه لتنهيدة أنعشت أعماقه، عاد للجُلوس،
ليُجاري حديث صديقه:
-"على كُلٍّ تبقى المُراهنة على تيَّار الوعي الرَّشيد؛
ليُنتِجَ مواقف صادَّة لتيارات التفلُّت من الاِلْتزامات، والاِسْتحقاقات
الوطنيَّة في جميع بلادنا". سكت فجأة، كأنّما نضُب الكلام في دَوَاخله. وقال:
-"يكفينا يا جورج.. تعبنا.. (تعب المشوار من خطواتي وخطواتك تعب المشوار) على رأي فؤاد غازي".
يرفع يده لاستطلاع الوقت من ساعته (الرُّولكس)
المُذهَّبة المُختفية تحت كُمِّ جاكيت المُخمَل الأسود، اللِّباس المُفضَّل لسكلمة،
كما تروق له بَدْلات الكُتَّان الرَّسميَّة ذات الماركات العالميَّة، مثل (بيير
كاردان وفيرساتشي، ويس سانت لورانت). وقال:
-"ثلاث ساعات منذ مجيئك في الحادية عشرة، وأنا وصلتُ قبل
موعدنا بنصف ساعة، اِشْتياقًا للويمبي على الأخصِّ، لأجلس مع روحي فقط.
الآنَ أشعرُ بجوع، ما رأيكَ بالغداء كفُرصة لنستمتع معًا، فقد مَلَلتُ من أكْل
الفُندق، جَايْ على بَالي أكل لُبنانيّ. تبُّولة وحمُّص وفول من زمان ما أكلتُ
هيْك شَغْلات.
والآن باجتماعنا اِكْتملت الرَّغبة عندي، واِنْفتحت شهيَّتي
لمذاقِ الأكل البَيْروتي اللَّذيذ، الذي لا يعلوه على الإطلاق إلَّا المذاق
الدِّمشقيِّ الشَّهير".
..*..
كما
قلتُ لكَ قبل قليل يا جورج:
-"لقد مَلَلْتُ من أكل الفُندق رغم تنوّع الأطعمة
الفاخرة. يقولون: إنَّ الشِّيف وطاقمه في الــ(سان جورج) من أرقى
الطبَّاخين على مُستوى العالم، وأخبروني بأنَّ المطعم في الفندق على ما أذكُر، أو
قرأتُ على مدخل المطعم أنَّه حائز على نَجمَتَيْ (ميشلان)".
-"هل بِبَالكَ الذَّهاب إلى مكان مُعيَّن لتغيير الجو؛
لعلَّه يُغيُّر شيئًا فينا". قال جورج.
سكلمة
يميل للبساطة في الحياة هذه الفترة، سنين طويلة كان مُحاطًا بالرِّعاية والاهتمام،
وضعه الوظيفيِّ كان يُملي عليه بروتوكولًا مرسومًا، لا يُمكن مخالفته حسب الأعراف
الدُبلوماسِيَّة التي أغرقته طيلة فترة وظيفته منذ بدايته في وزارة الخارجيَّة
لسنوات، وتلاها بعد ذلك بانتقاله إلى ديوان رئاسة الجُمهوريَّة، بناء على طلب رئيس
الجُمهوريَّة له بالاسم.
بعد إنهاء خدماته المُفاجئ بدأ إحساسه بالفراغ، واِنْعزاله
طوعيًّا مُنطويًا على نفسه بفقدان أهميَّته، ولمَّا شاع خبر: أنَّ الرَّئيس غضب
عليه لأمر مجهول، ولا يعرفه إلَّا أخصَّ الخواصِّ، اِنْقطعت خُيوط العلاقات
الكثيرة مع المسؤولين في الدَّولة على مُختلف المُستويات، فهجروه، ونسوه مُطلقًا،
واِنْمحى من ذاكرتهم، ولم تجرؤ ألسنتهم على النُّطْقِ باسمه إلَّا سرًّا
وبِتَكتُّمٍ، وكأنَّه لم يكُن يومًا ذا أهميَّة لهم، وبما كانوا يظهرونه من
الاِحْترام الشَّديد له، كلُّ ذلك ذَهَب أدراج الرِّياح.
اِشتياق البساطة لمغادرة قُيود الحياة المُعقَّدة بِكَثرة
حِساباتها الدَّقيقة للأشخاص والمواقف، لا مجال للخطأ، ولو بنسبة بسيطة جدًّا
أثناء التنفيذ. الخطأ قاتل، ولن تُتاح الفُرصة ثانية لتعديل المسار، إلَّا في
نِطَاق ضيِّق، أو حالات نادرة لأسباب اِسْتثنائيَّة موجبة.
التفلُّتُ إلى رحاب الحريَّة شَوْق وتَوْق نُفوس جانِحَةٍ
للاستمتاع بطريقة مُختلفة عمَّا هو مُعتاد. ردَّ سكلمة على سؤال جورج:
-"شوارع بيروت العتيقة وفيَّة لتاريخها، بعضها حافَظَ
على وضعه لمئة عام منذ بداية القرن الماضي، مُثقلة بذكريات عابريها، وكِلَانا
عبرناها مثل غيرنا، وتركنا أجمل ذكريات الشَّباب منذ أيَّام الدِّراسة الجامعيَّة،
بمرورنا هذا فإنَّنا نتعاهدُها؛ فتجدَّدُ الدِّماء في عُروقنا".
-"أفهمُ من كَلامِكَ يا سكلمة، أنَّكَ لا ترغبُ
بمغادرة وسط بيروت إلى أطرافها التي تعجُّ بالمطاعم والمتنزَّهات والمقاهي،
وإطلالاتها الفريدة".
هزَّ رأسه سكلمة برأسه علامة الموافقة، وأغضى بعينيْه
لدقيقة نحو الأرض، ظنَّ جورج كأنَّما يبحثُ عن غرضٍ وقَع منه، ثمَّ رفع
رأسه مُركِّزًا عينيْه بنظراتٍ كَسِيرةٍ بعينيْ جورج.
داهمه شعور غريب بأن هذا اللِّقاء ربَّما سيكون الأخير، وأن
لا لقاء بعده ثانية، بينما تترقرقُ دمعةُ على جفنيْه. بنبرة خفيضة بالكاد يسمعها جورج:
-"لا أريدُ المُغادرة إلَّا مُكرَهًا، كما غادرتُ
الشَّام مُجبَرًا، وتعرف يا جورج جميع الظُّروف الماضية، ولا فائدة من إعادة
الكلام فيها الآن، ولكنِّي أريد أن أملأ بطني من خَيْرات بيروت وأكلها، الذي
أشتهيه، كان خياري الطبيعيِّ الإقامة في بيروت، ولكنّه مسار المرض والعلاج غيَّر
حياتي وفرض عليَّ المُغادرة، للتَّعافي من الآثار النفسيَّة والجسديَّة التي
دَاهَمتني، ولن أستسلمَ لها على الإطلاق. أحبُّ الحياة، وسأحاول السَّعيَ لها ومن
أجلها ومن جديد أيضًا".
صدمة الكلام ألجمت لَسَان جورج عن الكلام، بل صَمتَ
على الإطلاق، بينما تأجَّجت رغبة مُتابعة الكلام عند سكلمة:
-"سأخبركَ يا جورج بأمْرٍ أثَّر بنفسي، وأقلقني
على مدار أشهر قضيتُها بتفكير عميق، حتَّى استطعتُ اتِّخاذ قراري الأخير.
دُعيتُ لحضور اِفْتتاح معرضٍ فنيٍّ أواخر العام الماضي لأحد
الأصدقاء، ولِحُسن الصُّدفة؛ فقد اِلْتقيتُ هُناك بطبيب نفسيٍّ، شعرتُ وقتها بوخز
ضميري عندما تمنَّعت ذاكرتي عن فتح أيِّ أبوابها أو نوافذها، عاب اسمه تمامًا.
طيلة لقائنا على مدار ساعات في المعرض والكافيه؛ تجنَّبتُ
محاولة ذكره باسمه وكانت كلمة الدُّكتور قد أنقذتني، ولمَّا كان الكلام عن أخيه
أيضًا لجأتُ لكلمة القاضي. كلُّ الخيانات في العلاقات مشروعة، إلَّا خيانات
الذَّاكرة لأنَّها زهايمر مُبكِّر، أدركتُ وقتها بتآكلها بشكلٍ فظيع.
كنتُ قد تعرَّفتُ إليه عن طريق صديق مُشترَكٍ بيننا، حينما
كلَّمني الصَّديق: من أجل التَوسُّط لأخٍ للطَّبيب النفسيِّ، الذي تقدَّم لمُسابقة
أعلنَتْ عنها وزارة العدل؛ لانتقاء قُضاةٍ جُدُدٍ؛ لرفد وترميم جهازها القضائيِّ,
ووقع الاِخْتيار على أخيه.
بعد ذلك أخذُوا مَوْعدًا لزيارتي؛ جاء ثلاثتهم صديقي
والطَّبيب وأخيه القاضي الجديد. وكان لقاءً مليئًا بالمُجاملات والشُّكْر من
شِدَّة فرحتهم. ولردِّ الجميل بالجميل.
..*..
بعد
التِّجوال في المعرض واِسْتماع
لشرحٍ مُستَفيضٍ من الفنَّان الصَّديق، الذي أُكِنُّ الكثير من المحبَّة
والاِحْترام، ويُبادلني نفس الشُّعور. شجَّعتني دعوتُه بشكلٍ شَخصيٍّ؛ عندما
اتَّصل بي مُشدَّدًا على حُضوري. كان ذلك في بداية الشَّهر التاسع من العام
الماضي، قُبيْل اِفتتاح المدارس بقليل.
لباقته الآسِرَهْ؛ لم تترك لي عُذرًا إلَّا بالحُضور،
ومشاركته فرحته بمعرضه الأوَّل، الذي حصل على المُوافقة على إقامته في مكتبة
الأسد إلَّا بعد جُهدٍ جَهِيدٍ، في
صرح ثقافيٍّ كهذا من العِيار الثَّقيل.
أُمنية يندُر تحقيقها بالطُّرق العاديَّة. الأمر يحتاج
لوساطات ذات نفوذ، ودعم من جهات مسؤولة؛ تُيسِّر له الأمر مع وزارة الثَّقافة،
والجهات الأمنيَّة كذلك.
الطَّبيب إلى جانبي لم يتركني لحظة واحدة، يستمع كما أستمع
للشُّروحات، والنُّكات والقَفَشات من التشكيليَّات العريقات؛ كنَّا آخذين وَجْهًا
على بعضنا بلا تحرُّج، أعرفُ بعضَهُنَّ من أيَّام العزِّ.. أيَّام الوظيفة.
..*..
ثلاثةُ أرباع السَّاعة بعد الخامسة مساءً على قصِّ الشَّريط
من قِبَل مندوب وزيرة الثَّقافة، ومن السِّباحة في عوالم فلسفة الألوان والظِّلال
القاتمة والفاتحة، والإضاءة الكاشفة والمُموَّهة، والأشكال التي تستعصي على أمهر
السَّحرة والعرَّافين تفسيرها، ولم أجد لها أثرًا إلَّا في عقل الرسَّام، وفي
نادرة لمحاولة فَهْمٍ للوحة غامضة غموض ليلة شتائيَّة باردة انقطعت فيها
الكُّهرباء.
سألته ببراءة ظاهرة رغم إضماري الخُبث:
-"ما الفائدة للجُمهور من أمثالي برؤيته، ومشاهدته للوحة
لا يُفهَم منها شيء، ولا مفتاح فيها للتأويل بأيِّ اِتِّجاه، فما قيمة اللَّوحة
إذا لم تترك أثرًا في النَّفس، بل وتجذبني لها لأحكي عنها للآخرين، وأحاول تفسيرها
على غير علم".
ضحِكَ بشكلٍ هِستيريٍّ. رآه الحاضرون، اِنْدهشُوا له. وقال
بعد أن مسح الدَّموع من عَيْنيْه بمنديل ورقيٍّ؛ اِسْتخرجه من أحد جُيوب السُّترة
عديمة الأكمام، ذات اللَّون الأسود الباهِت قليلًا:
-"أستاذ سكلمة. ها أنت تتكلَّم عن اللَّوحة بملء
إرادتكَ، وأسمعتَ ممَّن هم حَوْلكَ. هذا يكفيني..!".
فارتفع ضغطي، وتفصَّد جبيني مُتعرِّقًا لتتكوَّن حُبيبات من
العرق؛ اضطرَّني الأمر لاستخراج كومة مناديل ورقيَّة من جيْب الجاكيت. مُؤكَّد
أنَّ اِحمرار وجهي لاحظه كلَّ من رآني من الحُضور، كما رأيته أثناء خروجي في مرآة
كانت بجانب الباب الرَّئيس للصَّالة".
شعور بالضِّيق جَثَم على صدري فجأة، يبدو أنَّ كلامه صَدَمني،
وأصابتني حالة من الإرباكِ، أُحرِجتُ جدًّا جدًّا. قبل ذلكَ لم يكُن ليمرَّ مثل
هذا الموقف التَّافه بهذه السُّهولة.
عندما ظننتُ خُروجه عن سِيَاق لَبَاقته المعهودة، واِنْفلتَتِ
اللَّحظة المُتفجِّرة من بين يديْه؛ لم أَسْتطع مُجاراتِه بالحِوار ولا بالردِّ
عليه، غادَرْتني الرَّغبة بالمُتابعة؛ قرَّرتُ الاِسْتئذان منه.
بل اِنْتهزتُ فُرصة اِنْشغاله مع فنَّانة مشهورة جدًّا ذات
شخصيَّة جذَّابة، غاب عنِّي اسْمُها تمامًا، خانتني ذاكرتي، ولم تُسعفني بتذكُّره
أبدًا، بعد أن أجهدت نفسي لدقائق بلا جدوى. جمال شعرها الأشقر المُنسدل لمُحاذاة
وِرْكَيْها المُكتنزيْن المُتكوِّريْن ببنطلون الجينز الأسود. أغناني عن اِسْمها،
فقلتُ: "وما سيزيدني لو عرفتُه..!؟".
غادرتُ المكان بهدوء برفقة الطَّبيب عند اِقْتراب السَّادسة
مساء، بعد خُروجنا لموقف السيَّارات الخاصِّ بزوَّار وموظَّفي المكتبة الشَّبيهة
بالقلعة، تنَّفستُ بِعُمقِ تراخت أعضائي المشدودة، لاحظنا أنَّ الجوَّ يميل
للبرودة قليلًا.
النَّسيم اللَّطيف يملأ ساحة الأمويِّين ومحيطها، قادمًا من
تلقاء الرَّبوة الدَّائمة الاعتدال بحرارتها الأقلّ عن وسط دمشق ومحيطها.
لا أدري ربَّما أكون قد جَنَيْت على الدُّكتور، بمُناصرة
مَوْقِفي، ولم يتركني أنصرفُ وَحْدي.
اِقْتَرحَ عليَّ بالذَّهاب إلى مكان هادئ:
-"ما رأيكَ بقهوة (أبو شفيق) قريبة من هُنا على
اِعْتبار أنَّنا قريبون جدًّا من الرَّبوة". اِقْتراحُه غير جذَّاب، لم يَلقَ
رغبة منِّي بالتَّجاوب معه.
الأماكن المفتوحة صارت تُسبِّب لي الضِّيق، وصرتُ أميلُ
للأماكن المُغلقة والمحدودة، والرَّسميَّة أكثر، لم يكُن في ذهني إلَّا ذاك المكان
المُحبَّب إلى نفسي ولا أملُّه أبدًا.
فقلت:
-"سنذهب إلى كافيه فُندق الشَّام".
لم تبدُر منه أيَّة معارضة، تهلَّلَ وجهُه لمَّا سَمِع رغبتي
بوجهة مُعيَّنة، ومكان مُريح بالنِّسبة لي. وجه الطَّبيب رسالة موحية بمعان يصعب
تفسيرها بشكل مُباشر. بشاشة ترسم البسمة الدَّائمة على وجهه الطافح المعجون
بسُمْرَتِه، عيناه العسليَّان تتَّقِدان ذكاءً، تتَّفقان مع صَمْته بإيحاء عميقٍ
يصعُب تفسيره، وقبل صُدور أيِّ كلامٍ منه، وشاربه المحفوف بإتْقانٍ. رسالة مُطمئنة
مبدئيًّا لمنْ يلتقيه لأوَّل مرَّة قبل أن يتعامل معه.
طبعُه هادئ أساسًا من غير تصنُّع؛ يتوافق بتناسُب معقول مع
مِهنته في الطبِّ النَّفسيِّ. شكله مُريح لمرضاه، طوله المُتوسِّط مُتواطئة مع
رخامة صوته الهادئ بنعومته الخفيضة بِخَفَرٍ؛ أقربُ بنبرته لفتاة خجولةٍ حَيِيَّةٍ
في العشرينيَّات من عمرها.
على مدار ساعتين ونصف من جلستنا في الكافيه، وبعد نقاش
المُكاشفة مع الطَّبيب، كنتُ في غاية الاِرْتياح أخرجتُ معظَم ما اِسْتطعتُ إخراجه
بلا حرَج من مكنونات نفسي التي أتعبتني في حياتي، وأحالت أيَّامي قلقًا دائمًا.
عندما فهم حالتي بالضَّبط، بسبب صراحتي بالإجابات بلا تحرُّج
أو خوف من أيِّ شيء.
في النِّهاية صمتَ لخمس دقائق بالضَّبط، يبدو أنَّه كان
يستجمع أفكاره؛ توقَّعتُ: ليُعطيني رأيه، وفي قرارة نفسي أنَّه سيُجاملني، ولا
يقول إلَّا ما يُرضيني، إلى أن فوجئت بشجاعته فيما سمعتُ منه في النِّهاية، رغم
أنَّ شكله غيرُ موح بأدنى درجات الإقدام والمغامرة والشَّجاعة. آخرُ عبارة قالها
قبل مغادرتنا المكان بدقيقتيْن، انتبهتُ للسَّاعة وهي تقترب من الثّامنة والنِّصف
مساءً:
-"صديقي أنتَ بحاجة لعلاج، يُؤسفني إخباركَ بأنَّ حالتكَ
غير مُطمئنة بتاتًا، وخوفًا من تدهور صِحَّتكَ مُستقبَلًا، نصيحتي بالعلاج".
تماسكتُ ولم أُبدِ أي تأثُّر، أظنُّ أنَّ ملامح وجهي أوحتْ له
بلا مُبالاة، ولم يظهر أي تغيُّر، بل اِبْتسمتُ بكلِّ ثقةٍ، كنتُ أشبه بإسْفنجة
امتصَّتْ كميَّة الماء المُندلقة على سجَّادة غُرفة الضُّيوف.
شكرتُه من أعماق قلبي؛ فقد أَسْدى لي أعظمَ خِدمة في حياتي
بِنَصيحته الذَّهبيَّة؛ فقد جاءت في وقتها المُناسب؛ لإخراجي من قُمْقُمٍ حُبِستُ
فيه بين جدران نفسي، في عزلة اِخْتياريَّة لم يكُن بدٌّ منها، واِسْتطاب لي الحبس
فيه بين مخاوفي وهواجسي؛ حتَّى أصبحت مُتلازِمَةٍ منسوجة مع جمع من المُتلازمات
التي تستحقُّ العلاج من عقابيلها.
تبدو المُشكلة فينا بالضَّبط. وهل برأيكَ يا جورج أنَّه من السُّهولة بمكان؛ تكوين قناعة بأمر ما
بمجرَّد طروئه على بالكَ، أو بسماع كلام عابر.
هزَّ جورج برأسه ذات اليمين واليسار وتلاها بحركة للأعلى
مُترافقة مع حركة حاجبيه للأعلى. فَهِمَ سكلمة أنَّه يُوافقه في رأيه,
وتابع: من أصعب الأمور التي مررتُ بها، الاستسلام بسهولة لفكرة المرض النفسيِِّ،
الذي يُعَدُّ في مجتمعاتنا بمختلف مستوياتها عيبًا، ومثير لسُخرية وتندُّر الآخرين
أثناء نوبات الخوض في مستنقعات النميمة القذرة التي لا غِنَى عنها، على خلاف
الغربيِّين؛ فهُم يعتبرون هذا الأمر عاديًّا وسليمًا ولا شيء فيه؛ وذلك من أجل
صحَّتهم النفسيَّة التي يعتنون بها كما صحتَّهم البدنيَّة، لتسيير شؤون حياتهم
وفق رُؤيتهم الدَّقيقة.
الحديثُ المُستفيضُ بالنِّقاشات مع الطَّبيب كان وسيلةً
لإقناعي، لشعوري بخطئي. كنتُ أظنُّ بأنَّني مُعافىً، ولستُ بحاجةٍ حتَّى لمُجرَّد
اِسْتشارة ولو على سبيل الاِسْتئناس بالرَّأي، ولم أكُن لأتخيَّل بمُجرَّد التفكير
بهذه المسألة أبدًا.. أبدًا.
أخيرًا حزمتُ أمري.. واتَّخذتُ قراري بعد تفكير، وتداول مع
نفسي لأيَّام، أخيرًا تلاشى الخوف، واِنْحسر التردُّد، وحلَّت الطُّمأنينة بدَلَ
الوسوسة. ثبتَتِ الرُّؤية يا صديقي: أنا بالفعل مريض.. أصبحتُ على يقينٍ من ذلك،
وبملء إرادتي وأنا بكامل قِواي العقليَّة أقولها وليسمع العالم كلَّه: أنَّني
بحاجة للعلاج.
أقسمُ يا سكلمة:
-"بأنَّ جميع ما سمعتُ منكَ؛ رأيتُه ينطبقُ على حالي،
التي لا تفرُق كثيرًا على حالتكَ بجميع مُعطياتها وجُزئيَّاتها، حتَّى في المرض
تطابقنا –ضحكَ باستهتار- لا أدري هل سنموتُ في ذات المكان
والزَّمان..!، ولا أستبعدُ دفننا في قبر واحد، وعلى شاهِدَتِه سيضعون رمز الهلال
والصَّليب؛ لنبدأ هناك بجولة جديدة من
حِوارٍ طويل بين الأديان برعاية ملائكيَّة..!.
أخيرًا لابدَّ لي شكركَ على ما خبَّرتني به؛ فقد شجَّعتني
للَّحاق بك بعد فترة كي أُنهي بعض الأمور العالقة منذ زمان بعيد؛ فلن أتركها هذه
المرَّة كما لم تكُن واردة في حُسباني، خاصَّة أمور التَّرِكَات والميراث مع
إخوتي، لا بدَّ من حسمها والبدء بإنجازها".
..*..
لم
يطُل بي التفكير مسافات زمنيَّة –ما
زال سكلمة مُسترسلًا بحديث-؛ لاتِّخاذ قراري المصيريِّ كي أنقِذَ نفسي، بعد
وصولي إلى البيْت عند التَّاسعة، تناولتُ سندويشة جُبنة مع كأس من الشَّاي،
وأسلمتُ نفسي للفراش عند العاشرة، ليلتها نمتُ بعُمقٍ لم أنعَمْ به منذ زمَنٍ
طويل.
أبو سكلمة وقف
أمام سريري، يده تُلمِّسُ على جبيني،
أحسستُ بنعومة يده الطريَّة القديمة في صغري -بنبرة جادَّة- قال: (اِسْتمِعْ
لنصيحة الدُّكتور، ولا تُهمل نفسكَ).
هول المُفاجأة أَلْجَم لِسَاني، واِخْتفى طيفُه قبل أن أرُدَّ
عليه. ودِدُّتُ لو اِسْتطعتُ تقبيل يده. غادرني؛ وأخَذَ النَّوم من عينيَّ معه.
اِنْتبهتُ لساعة الحائط على الجِدار المُقابل لسريري؛ عقاربُها تشيرُ إلى الخامسة
صَباحًا.
مع أوَّل رشفة من فنجان قهوتي لهذا الصَّباح المُشرِق،
ترافَقَ مع صَوْت فيروز المُختلف هذا اليوم عن غيره من الصَّباحات. اتِّفاق
غير مُعلَن بين الإذاعات ببدء موسمها الصباحيِّ لكلِّ يوم بأغانيها على مدار
ساعتيْن تقريبًا. رُطوبة الجوِّ النديَّة؛ أغرقتني في عوالم الذِّكريات، ولم يَطُل
الوقت باتِّخاذ قرار السَّفر، القناعة سبقته بالتشكُّل فسهَّلت الأمر.
كان يتوجَّب عليَّ إجراء اتِّصالٍ هاتفيٍّ مع جِهَة ما. عند
التَّاسعة صباحًا بعد اِبْتداء دوام الدَّوائر الحُكوميَّة في الثَّامنة؛
لإخبارِهِمْ بِنِيَّتي للسَّفر للعلاج، بناء على نصيحة الطَّبيب النَّفسيِّ.
رجعتُ للاِسْترخاء في سريري؛ نعُمتُ بارتياحٍ عجيبٍ هذه
المرَّة على خلاف الأيَّام السَّابقة، ومن غير تعجُّل بانتظار موعد الاِتِّصال.
النَّوم داعَب جفنيَّ بغفوة سرقتني من واقعي؛ ليعود أبي بكامل هَيْبته، وجلال
مَهابَته، وقال: (وفَّقكَ الله يا سكلمة, تابع قَراركَ الصَّائِبْ، واعتني
بِنفسكَ جيِّدًا..!).
تململتُ بِحَركاتٍ أستطيعُ بها الاِنْقلاب إلى جَنْبي الأيسر،
بعد شعوري بِخَدر يَسْري بِكَفِّي
اليُسْرى، فَرَكْتُها برفْقٍ بحركات قليلة، وعُدتُ لِغَفوتي؛ آمِلًا بعودة أبي
للمرَّة الثالثة.
..*..
كانت المسافة التي مشياها من الويمبي إلى المطعم قد
استوعبت حديثهما على مدار ثلث ساعة، خطواتهما المُتباطئة غير المُتعجِّلة جعلت
الوقت أخذ عشر دقائق إضافيَّة، فيما لو كانت عَجْلَى.
انسجامهما حد الاستغراق بتكملة حديثهما؛ أذهلهما، وجعلهما
منفصلين حِسيًّا عن أصوات البَّاعة وزمامير السَّيارات، وأصوات مكابحها إذا ما
اعترضها طارئ لتلافي حادث، ولم يلفت انتباههما أي من الجميلات بألبستهن
الرَّبيعيَّة الزّاهية، ومُقدِّماتهنَّ العامرة بنجودها وهضابها الجُغرافيَّة، ولا
بأنواع العطر الفوَّاح عندما يقتحم الخصوصيَّة، ولا يعترف بها. وما توقَّفا عند
ضحكة من إحداهن عندما حكى لها خطيبها أو صديقها نُكتة، لم يسمعها غيرها لأنَّ
أحدًا لم يُشاركها ضحكتها.
حرارة الجوِّ الرَّبيعي المُعتدلة في بيروت في شهر نيسان من
كلِّ عامٍ لم تتجاوز بمعدلاتها الخمس والعشرين درجة فهرنهايت، وفي أغلب الأحيان
أخفَضُ من ذلك وتتراوح حوالي العشرين أو أقلَّ بقليل.
نيسان يغلب الانفتاح على الحياة والاِنْطلاق في رحابها.
الدِّفء اللَّطيف بطبيعته مُريح للنُّفوس، ومُشجِّع لممارسة المشي باطمئنان، ما
عدا بعض التقلُّبات عند المساء فيميل الجوّ للبرودة. نيسان مِزاجه مُتقلِّبُ كما
مزاج السِّياسة غير المُستقرَّة عادة.
سكلمة مُسترسِلٌ بحديثه السيَّال كتدفُّق نهر فاض في نيسان،
بقوله: -"حكمتي المُفضَّلة في الحياة: (من تأنَّى نال ما تمنَّى)، لم
أكُن مُتعجِّلًا على شيء في حياتي كلّها، تمهَّلتُ جدًّا.. امتلكتُ نَفَسًا
بطيئًا، درَبتُ نفسي خلال عملي مع الرَّئيس، الفترة الطَّويلة التي قضيْتُها
قريبًا منه أفادتني بالتريُّث لأيِّ أمر مهما كان صغيرًا أم كان كبيرًا. الأمر
سيَّان، المُراهنة على صبر الانتظار وتسرُّب الزَّمن، لأنَّ الزَّمن كفيل بحلِّ
أعظم المُشكلات تعقيدًا وتشابُكًا، هذه النُّقطة أفادتني كثيرًا، فكلُّ الأمور
جاءتني فيما بعد طائعة راضخة أمام قدميَّ، ما دُمتُ ممسكًا بالخيوط أحركُّها كما
يروق لي".
كأنَّ كلام سكلمة تحرُّش مُستفزٌّ لجورج، عندما
تحفَّز للكلام، كأنَّ الفُرصة مُواتية لقذف المكنونات المُكدَّسة في دواخله بأكوام
تفوق حجم الشَّرق الأوسط بأكمله:
-"أُجيد الانتظار بلا ملَلٍ، كثيرًا ما سمعت ممَّن هم
حوْلي يتهامسون وغضبهم باد من حركات شفاههم وأيديهم وتعابير وجوههم: على أنَّني
بطيء في التَّفكير حدَّ الشَّلَل. ربَّما أظنُّ أنَّ منشأ ذلك هو ترتيب الأفكار
يحتاج للهدوء، لإتاحة مساحة واسعة لرؤية ناضجة.
أولى دروس السِّياسة التي تعلَّمناها ووَعَيْناهَا بدقَّة:
أنَّ قطف الثِّمار ربَّما يتأخر عن موعده المحسوب بسبب الظروف المناخيَّة مثلًا،
وفي السِّياسة قطف النَّتائج بعد مُقدِّمات طويلة عريضة؛ من المُمكن جدًّا تحتاج
لسنوات قادمة، بحاجة الاِنْتظار بأعصاب باردة، أبرَد من أعصاب الإنكليز".
لم يفطنا لمسافة الطَّريق، شعورهما غامر بالمشوار النَّادر
ولن يتكرَّر بمثل هذه العفويَّة، بلا تخطيطٍ مُسبَقٍ بعيدٍ عن التكلُّف،
والمُبالغة في التَّحضير والإعداد لبروتوكول الاِسْتقبال والضِّيافة.
البساطة في التعامل تُضفي حميميَّة على اللَّحظات، وتمحي
مُنغصِّاتها السَّوداء، وتفتح آفاق النَّفس للترويح والاِنْبساط. اِقْتناص الفرح
مهارة لا يُجيدها إلَّا الأذكياء؛ إذا اِسْتطاعوا التخلُّص من كاريزماتهم
بسهولة.
..*..
انقضت ساعات اللِّقاء بنقاشات طالَت الحرب، والتحالُف الدوليِّ غير
المسبوق في التَّاريخ على العراق، وتجييش العالم ضدَّه. عفويَّة العلاقة بين
الأشخاص تُضفي عليها الصِّدق. امتزاج الفرح والسُّرور بالحزن واليأس بآن واحد. هما
لا يعرفان أنَّهما يتشاركان الحالة نفسها إلَّا لحظة الوداع الأخير. يستحيل تحديد
موعد آخر استنتجا ذلك واِسْتقَرَّ في نفسيهما. تبدُّل الظروف والمُعطيات بعد تراخي
يديهما عن الإمساك بحبال طالما كانت مشدودة عليها. جاء آخرون وسحبوها ببساطة.
إنَّما أقوى الرِّوايات قالت بسحب البِّساط من تحتهما.
جورج ما زال مُستمتعًا بلقاء صديقه سكلمة، والذي بدوره
يبدو بهيجًا إلى حدٍّ ما باجتماعها.
تأفَّف سكلمة من الفراغ الذي يُعانيه تجميد وظيفته
كمستشار في ديوان رئاسة الجمهوريَّة قبل سنوات، بعد اِجْتماع المطبخ السياسيِّ
لدراسة الموقف تجاه قضيّة دُخول الجيش العراقيِّ باحتلال الكُويْت.
سكلمة
بكلِّ ثقة من صَوَاب مَوْقفه، أعلنَ رأيه صراحةً:
-"بأنَّه يجب الوقوف مع العراق، أو على الحِيَاد في أسوأ
الحالات. لكنَّ هذه المرَّة الأولى والأخيرة، عندما هبَّتِ الرِّياح بما لا تشتهي
السُّفُن".
وفي تقريره الكتابيِّ الذي قدَّمه:
-"ليس من الحكمة إرسال الجنود السُّوريِّين إلى
حفر الباطن وعرعر، والوقوف مع الأمريكان،
ومن أجل ماذا سيموت شبابنا؟. أمهاتهم وزوجاتهم بحاجتهم. القضيَّة ليست قضيّتنا..
لا ناقة لنا فيها ولا جَمَل".
رئيس الدِّيوان المكلَّف باستلام نتيجة تقارير اللِّجنة
الاِسْتشاريَّة، ويشتغل على تلخيص جميع
الأوراق بخصوص مناقشة الموقف وبحث جميع الاحتمالات بصراحة تامَّة، وبلا
تحفُّظ.
لفتت انتباهه عبارة: (ليس من الحكمة). القلم ذو
اللَّوْن الأزرق بيده وضع تحتها خطًّا، وأعاد بيده جيئة وذهابًا مرَّات؛ لتعميق
اللَّون كي يتَّضح بجلاء، لتقع عليْه عين السيِّد الرَّئيس من أوَّل نظرة على
الورقة، وضلَّلها بِلَون فُوسفوريِّ، وكتب على الحاشية عبارة لتأييد وجهة نظره: (إذا
كان ليس من الحكمة رأينا، هذا يعني أنّنا متهوّرون وخاطئون). وأتبعها
بتوقيعه.
في اليوم التَّالي صدر أمر:
"بتجميد وظيفة سكلمة، ويُترَك مكانه شاغِرًا لحين
انتهاء القضيَّة، وتُصرَف له كافَّة رواتبه ومُستحقَّاته، كما لو أنَّه على رأس
عمله".
-"تخيَّل يا صديقي أنَّني اِسْتَمَتُّ للحصول على مقابلة
الرَّئيس لخمس دقائق فقط، لمعرفة السَّبب باتِّخاذه لقراره. لم يُسمَح لي بالوصول
حتَّى لمُدير مكتبه. جاءتني التَّعليمات دُفعة واحدة، ومُقتضبة باختصار شديد،
فهمتُ الأمر بانتهاء صلاحيَّتي. لم أعُد للمحاولة ثانية".
تسلَّمتُ نُسخةً من الأمر الإداريِّ بتوقيع الرَّئيس باللَّون
الأحمر، وهو المسؤول الوحيد هو المُخوَّل بالتوقيع بالأحمر فقط في سوريَّا. تمَّ
إيصالها إلى بيتي عن طريق مُراسلٍ يعملُ هناك، بعد ثلاثة أيَّام من صدوره.
..*..
وداعًا بيروت:
"بيروت تتَّسِع للجميع ولثرثراتهم ونَزَقهم ونَزَواتهم.
اِعْتادت خلافاتهم بصبر وأناة، ولا تضيقُ ذَرْعًا، ولا تنبذُ أحدًا. في بيروتَ لا
حِسَاب على الثرثرة.
في دمشقَ فاتورةُ الثَّرثرة باهظة الثَّمن. وعلى رأي "نزار قباني": (يا
ستَّ الدُّنيا يا بيروت). بالضَّبْط هي مثلُ الأُمِّ ستٌّ لِلكُلِّ. قلبُها
كبيرٌ يستوعبُ مُشاغَبة أبنائها ورفاقهم.
ولا أعرفُ سرَّ حُبِّ نزار العميق لبيروت: (ليس
للحُبِّ ببيروتَ خرائط.. اِبْحثي عن فُندقٍ لا يسأل العُشَّاق عن أسمائهم، فإن
الحُبَّ في بيروت مثل الله في كلِّ مكان).
من شَرِبَ ماءها، واِسْتنشقَ هواءَها عشقها. سيعود لها اشتياقًا حرَّاقًا ولو بعد
حين".
ما إنْ انتهى سكلمة من كتابة الكلمة الأخيرة من خاطرته
تحت عنوان: وداعًا بيروت. دفتره رفيقه الدَّائم المُرتحِل معه أينما حلَّ. راح
يتأمَّل بطاقة السَّفر للتأكُّد من صحَّة المعلومات ورقم وتوقيت رحلته، بعد
اِقْتراح صديقه جورج بتبديل وِجْهَة سفره من باريس إلى لُوزان في سويسرا.
أعادها إلى المُغلَّف، وشكر الشَّاب الأنيق الذي ما زال
ينتظر. اِسْتخرج ورقة المئة دولار ناوله، انعقد لسان الشَّاب ظنَّ أنَّه سيطلب منه
جلب أو شراء بعض الحاجات، فوجئ حينما مدَّ سكلمة يده، بقوله: "هاي إكراميَّة
لكَ". غادَرَ الشَّابُّ، ونشط لسانه بترديد كلمات الشُّكر والثَّناء على
جَزالة البقشيش غير المُنتظَر.
قبل أن ينام في آخر اللَّيْل، أودع بطاقة سفره وجواز سفره مع
دفتره الأثير على نفسه، في حقيبة (السَّامسونايت)، وحرَّك دواليب الأرقام
السريَّة، وركنها على طاولة بوسط الغرفة قُبالة سريره.
..*..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق