بنســيون
الشــارع الخلفــي
رواية
بداية الكتابة 1\6\2022
ملاحظة هامَّة: الأسماء والأماكن، إنَّما
هي مُتخيَّلة حتَّى وإن كانت موجودة على أرض الواقع، بينما هي ضرورة من أجل أن
يكون المكان الروائيُّ المسرح الذي تمُارسُ عليه الشخصيَّات قيادة وإدارة
الحدث المُؤثِّث للعمل الروائي، وليكون شبيهًا للواقع، ومقنعًا بتسلسله
للقارئ. لأنَّه من الممكن أن تتشابه بعض الأحداث بتقاطعاتها مع الواقع، قطعًا
لا أحد بعينه هو المقصود والمُستهدَف. |
(1)
رنين الهاتف أوقف استعدادي لتناول أوَّل لُقمة كنتُ
أشتهيها، لشعوري بالجوع منذ نهوضي من
النوم، في البارحة كانت نفسي مسدودة لم
تطلب الأكل بتاتًا، ولم يدخُل بطني سوى الماء، ليس هناك شيءٌ ظاهر محدَّد لما كنتُ
فيه. أعصابي مُتوتِّرة مُعظَم الأحيان بسبب أو بلا سببٍ، لا شيء يبعث على الهدوء
والاسترخاء، وضع بلدنا عُمومًا مليء بالمآسي والنكبات، باعث على خلق الكآبة من آخر
نقطة في الكرة الأرضيَّة، وجلطة القلب. كلُّ رنينٍ يهزُّ أعصابي، بداية تعييني في
التعليم قبل خمس سنوات، كان السَّبب جرس المدرسة، عند الاجتماع الصباحيِّ قبل
الدُّخول إلى الصُّفوف الدراسيَّة، خاصَّة إذا تأخَّرت لدقائق خوفًا من تأنيب
المديرة، وعند انتهاء الحصَّة تنقطع أنفاسي، ويتوقَّف تدفُّق أفكاري فجأة، ولا
أستطيع إكمال الفِكرة التي كنتُ سأقولها للأولاد لأهميَّتها، ممَّا يضطُّرني
لإعادة الجزء الضَّائع من معلومات الحصَّة السَّابقة، جرس الهاتف الثَّابت في غُرفة
الإدارة يُصيبني بالغَثَيان والتشتُّت؛ لاعتقادي أنَّه من مديريَّة التربيَّة؛ لتبليغ
المديرة بعقوبة أحد المعلِّمات، أو نقلٍ لأحدنا إلى مدرسة أخرى.
رنين هاتفي النَّقَّال؛ أوقفني عن مُتابعة
برامج الصَّباح في التلفزيون التي تستهويني في أيَّام العُطَل. مع كُلِّ رنَّة
تتوقَّف شهيَّتي للطَّعام، رغم اعتيادنا الدَّائم وجبات الزَّيت والزَّعتر واللَّبن
المُصفّى والزَّيْتون في طعام الإفطار، إضافة للشَّاي، إلا أحيانًا كانت تُضاف بعض
التَّحسينات عمَّا اعتدناه في ظلِّ عدم وجود البدائل المُتاحة سابقًا، كصحن البيْض
المقلي أو المسلوق أو الجُبنة البيضاء.
انقطع الرَّنين؛ بمجرَّد ضغطة قويَّة
من إبهامي الأيمن على كبسة فتح الخطِّ، الصَّوت القادم ناعم، من ابتدائها بالتعريف
بها وبمكان عملها، أشاع في قلبي هدوءًا غير مُتوقَّع، التقطَّتُ أنفاسي، واستجمعتُ
قِوايَ للردِّ:
- آلو..مين معي؟.
- عيادة الدُّكتور موسى النسائيَّة.
- أهلا وسهلًا، ويسعد صباحك.
تواثَبَت أحلام الأمومة أمامي عينيَّ،
وفتحت آفاقُ السَّماء أملي بالله الذي لم ينقطع، وتحقيق أمنيتي بسماع كلمة: ماما.
لا غير.
- لقد تحدَّد موعدُكِ لمقابلة الدَّكتور
في 1/9/2018 السَّاعة الثانية عشرة ظهرًا.
- كلُّ الشُّكر لكِ. لكن ألا يمكن
تقديم الموعد قبل ذلك، شهران من الانتظار فترة طويلة. الأهمُّ في الموضوع أنَّ
الموعد بهذا التّاريخ مع بداية العام الدِّراسيِّ، وافتتاح المدارس.
-سيِِّدة نورما، لا تنسي أن تُحضِري مَعكِ كلَّ
الأوراق، والصُّور، ورُوشِّيتَّات الأدوية السَّابقة، التي كتبها لكِ الأطبَّاء
الذين تعالجت عندهم؛ ليستطيع الدُّكتور دراسة حالتكِ بشكلٍ جيِّد، ووضع المعلومات كاملة
في ملفِّكِ. مع السَّلامة. بالنسبة للموعد من الصَّعب تبديله.. اُعذُريني.
- بكلِّ تأكيد. شكرًا ثانيةً لكِ على
اهتمامكِ.
غبارٌ يلفُّ المكان بأكمله؛ تزامن مع
انقطاع المكالمة المُقتضبة ذات الغرض المحدود، اِسْتفقتُ من غيبوبة الصَّدمة بعد
نصف ساعة، ألفيْتُ زوجي يجلس فوق رأسي، ويرشُّ الماء على وجهي، ويقوم بمسحه بقطعة
قماش ناعمة بيديه المُرتجفَتيْن، إحساسي الدَّاخليِّ أنبأني بذلك مع صعوبة عدم
الكلام على لساني، كان من الصُّعوبة رؤية أيّ شيء على الإطلاق في محيط بيتنا، تعسَّر
التعرُّف على المعالم الجديدة التي أحدثها الانفجار، الشَّبيه بما حدث في ناغازاكي
وهيروشيما.
مع فارقٍ بسيطٍ أنَّ ما حدث هنا قبل
نصف ساعة، لم يكن إلَّا قذيفة ظننتُها بِرميلًا، وهو ما أطلقوا عليه القذائف
الغبيَّة الوَسِخَة. قيل:
"لأنَّها تجمع نفايات الحديد
والصُّلب المُهمَلة".
لكلِّ حرب مُصطلحاتها، للمرَّة الأولى
في تاريخ الحروب تُستخدَم كلمة برميل للدَّلالة على القنابل الفتَّاكة التي تقذفها
الطَّائرات. حاويات حديديَّة مليئة بقِطَع الحديد والمسامير، وكلِّ ما هو مُؤْذٍ
وقاتل.
زوبعةٌ غير مسبوقة أبدًا لفَّت المكان، غبارها غطَّى سماء المكان لنصف
ساعة تعذَّرت معه رؤية أيِّ شيءٍ، مع ذلك تسارعت سيَّارات الإسعاف إلى المكان من
جميع الاتِّجاهات، والنَّاس يتراكضون، بعضهم يصيح أثناء ركضه بالآخرين، كي يلحقوا
بهم للمساعدة، وتقديم العَوْن للمُصابين.
ما إنْ اِنْجَلَت السَّحابة عن المكان،
وانسحبت آخر خيوطها المُتكاثفة؛ لِتُفسح المجال لتحسُّن مدى الرُّؤية لمدايات
قصيرة في المُستويات التي دون عشرة أمتار، وكلَّما تعالت العُيون بالنَّظر للأعلى،
تتكاثف ذرَّات الغُبار؛ ليستحيل لون السَّماء الأزرق، لِلِوْنٍ بُنيٍّ قاتم.
بعد كلِّ قصف أو اِشْتباكات هناك
ضحايا. مشاعرنا تبلَّدت، لدرجة أنَّني لم أعُدْ أُدقِّق جيِّدًا على دِقَّة
الإحصاءات.
النتيجة أنَّ تنقُّلاتنا مُستمرَّة
ودائمة؛ نترُكُ المناطق السَّاخنة قاصدين الأكثر أمنًا. ضاعت منَّا أشياء ثمينة عزيزة
على قلوبنا مع كلِّ اِرْتحال. التشبُّث بالأماكن غير مُجدٍ هذه الأيَّام.
اختلطت الأمور بتشابُكات مُعقَّدة
بذهني. قذيفة المدفع التي سقطت في السَّاحة. لا..
لا أبدًا لم أسمَعْ هدير المروحيَّة هذه المرَّة؛ عادة عندما تأتينا فجأة
دون سابق إنذار؛ لرمي حُمولتها من البراميل. يسبقها صوتها المثير للرُّعب؛ فالناس
يتراكضون مبتعدين عن الأبنية خوفًا من الشَّظايا القاتلة المُتناثرة في كلِّ
اتِّجاه؛ لينبطحوا في الأرض الخلاء إلّا من أشجار الزَّيتون وسواها.
لم أمتلك شيئًا من عِلم الغيْب، ولا
الإحساس بأنَّها ستكون آخر قذيفة تسقط في محيطنا هذا اليوم، وخاتمة حرب طالت
واستطالت؛ فأكلت الأخضر واليابس، ولم تُبق لنا شيئًا، ولن تكون قريبةً كما هي
التوقُّعات، وبداية مصالحات مفروضة، وبعضها مدفوعة الثَّمن برعاية مركز المصالحات الرُّوسيَّة
في مناطق عديدة من ريف دمشق قبل ذلك بأشهر أو سنة على الأقلِّ، والمناطق الأخرى
سائرة لا محالة على طريق الاستسلام بغلاف المُصالحات.
بعدها نشطت حالات الاغتيالات
والانتقامات، والضَّحايا بازدياد، وباتت شبه يوميَّة. اعتياد الحرب أصبح إدمانًا
كالمُخدِّرات تعبث بنا.
ساحة الحارة مُزدَحِمة بالغُبار. صُراخ
مع خليط من بكاء وَوَلْولة نساء مذهولات من هَوْل الصَّدمة. من المرَّات النَّادرة
التي تضيق هذه السَّاحة على مَنْ فيها، إلَّا فيما مضى في المناسبات القوميَّة
العظيمة؛ مثل احتفال عيد الجلاء، وعيد العُمَّال، وعيد الحركة التصحيحيَّة، وعيد
ثورة الثَّامن من آذار، وعيد ميلاد الحزب، وعيد الاِنْتصار في حرب تشرين.
هذه المناسبات تجعل من السَّاحة مُلتقى
للموظَّفين الرَّسميِّين والطُّلَّاب والمُعلِّمين وجماهير غفيرة، ترى السَّعادة
تغمر الوجوه، والتَّصفيق الحادّ المُصاحبُ للهُتافات، خاصَّة عند مُرور عدسة
كاميرا النَّقل التِلفزيونيِّ، وعلى الأغلب أنَّ البثَّ عادة ما يكون مُباشرًا.
سعادة ما بعدها سعادة، لمن تكُن قد دَعَتْ
له أمُّه بإخلاص في آخر ساعة من ليلة القَدْر، بالتوفيق والفلاح، إذا صادفت
الكاميرا ابتسامته طافحة على وجهه أثناء هُتافه وتصفيقه بحماس وبشكلٍ عَفْويٍّ؛
فإذا كان مثلًا معاونًا لمدير مدرسة ما، من المُؤمَّل والمُرَجَّح في دورة
التعيينات الجديدة سيصبح مديرًا للمدرسة، لغلبة الظنِّ عنده، بأنَّ مديره الحالي
لم يتبقَّ له إلَّا سنة واحدة لإحالته على التَّقاعُد عندما يبلغ تمام الستِّين.
ومن بعض الحزبيِّين ذوي الصفِّ الأول
من قيادات الشُّعبة الحِزبيَّة، منهم من يأمل أن يُصبح أمين فرع، أو عضو قيادة
فرع.
أمَّا الصفِّ الثَّاني الأقلّ طُموحًا في
أن يُختارون أمناء للفِرَقٍ الحزبيَّة، أو أعضاء في قيادة الشُّعْبة، وفي الحقيقة
التي تُداخِل هؤلاء جميعًا: لو أنّهم يختارون لأمانة الشُّعْبة.
اليومُ استثنائيٌّ في تاريخ السَّاحة
العتيد النِّضالي، حينما صارت المكان الأبرز للاعتصامات والمُظاهرات المُناهضة للدَّولة،
التي يقودها الشَّباب. كلُّ شيء تبدَّل بين عَشِيَّة وضُحاها، ما الذي جرى حتَّى
تبدَّل الحالُ من حالٍ إلى حال. تعاكُسٌ وتبايُنٌ، هبوط القديم، وصُعودٌ للجديد؛
حينما جُرِّدَت جَنَبات السَّاحة من رُموزها التقليديَّة، إلى رُموز جديدة تمامًا
مختلفة بمعطياتها المُشاهَدَة.
قيل: إنَّ عجوزًا قضى عشرة سنين في فترة
سابقة من عمره في السِّجن، أمضى حياته بانتظار لحظة لم يكُن لِيَحلم بها على
الإطلاق، بعد الثَّبات الطّويل للنِّظام في حُكم سوريَّا أمِّ الانقلابات
الدَّائمة على مرِّ تاريخها، منذ عهد الاستقلال إلى بداية السَّبعينيَّات، قال:
-"سبحان مُغيِّر الأحوال من حال
إلى حال، من غير المعقول أنّه بين عشيَّةٍ وضُحاها تتبدَّل الأمور، لم أكُن لأتخيَّل
ما حَصَل. عقلي عاجزٌ تمامًا عن اِسْتِيعاب ما حَدَث، تجمَّد صبري على قارعة
الانتظار سِتِّين عامًا".
اِمْرأةٌ تقف على مَقرُبَة منه، سمعتْ
كلامه لنفسه، ردَّدت صدى كلامه:
-"الله كبير، ما في إشي عليه
صعب".
يتعالى صوت شابٍّ هناك وسط السَّاحة،
كان يحمل بيده مُكبِّر صوت على البطاريّة، بلونه الأحمر والأبيض يتماوج بحركته في
الأعيُن على وقع لحن هُتافه، يهتزُّ صُعودًا وهُبوطًا، كمؤشِّرِ ميزانِ حرارةٍ
يقيس حرارة الصُّدور والقلوب لكلٍّ من هُم في المظاهرة:
-"الله.. سوريَّا.. حُريَّة وَبَسْ".
تصفيق حادٌّ بحماسٍ زائدٍ، مثل ذاك
الحماس أيَّام احتفالات المُناسبات والأعياد الوطنيَّة والقوميَّة. ترتفع بعض
الأيدي بأجهزة الموبايل للتَّصوير. كلُّ ذلك جرى ويجري تحت نظر تمثال السيِّد الرَّئيس،
الذي تحطَّم في الفترة الأخيرة، بفعل الغضب الجماهيريِّ، لكنَّ أحدًا لم يخطُر
بباله أن يحتفظ ولو بقطعةٍ من حُطامِه، كما فَعَل الألمان عندما احتفظوا بِقَطَعٍ
إسمنتيَّة صغيرة ومُتوسِّطة الحجم من جِدَار برلين، مُتَّخذين منها تُحفًا؛
حينما حطَّموه 1989 انتقامًا لحُريَّتهم. ليقترب بصموده الأسطوريِّ كرمزٍ حارسٍ لثُنائيّة
القُطْبِيْن، وحربهما الباردة على مدار ثلاثة عقود إلَّا قليلًا.
مسكين تمثال الرَّئيس الذي لم يتجاوز صُموده
نصفَ عقده الأوَّل فقط؛ لحين الثُّلُث الأوَّل من عام 2011 على قمَّة القاعدة الرُّخاميَّة
الملساء اللَّامعة وَسَط السَّاحة ذات المهابة المُؤثِّرة في نفوس النَّاس.
نهارًا يتلألأ بريقه البرونزيِّ تحت
أشعَّة الشَّمس، وليلًا لا تَدَعَهُ أضواء الكشَّافات عالية الإنارة بحاله، كأنّهم
لا يُريدون له الرَّاحة، دائرة الضُّوء مُقلِقَة على الدوام.
هناك البعض ما زال يُردِّد آخر كلمات
سمعوها من العجوز:
-"يا إلهي..!! إنَّه الفَجْر الصَّادق،
والوعد الحقُّ".
خُيوط الفجْر تسلَّلت عبر النَّافذة
على خَجَلٍ واستحياء، مع كتابة آخر الكلمات، إيذانًا بالنَّوم.
..*..
(2)
(نورما+
سيرا)+ (نبهان+ محمود صديقه)
(نبهان مجير البنسيون الآن، قبل الحرب كان
يشتغل بمحل لبيع الأحذية، أي بتجارة الأحذية المحليَّة والمُستوردة)، أفراد أسرته
ماتوا جميعا من قذيفة سقطت على بيتهم.
أتعبها المشْيُ لِسَاعاتٍ أربع، وأخذ كلَّ مَأْخذٍ.
المشيُ على غير هُدًى، أو البحث العشوائيُّ عن مكان ما، كمن يبحثُ عن إبرةٍ في كوْمةِ
قَشٍّ.
بعد العصر عادةً ما يضيق الوقت؛
بانقضاء الدَّقائق، والسَّاعة تِلْوَ السَّاعة. الخيارات تذوب مساءً على مَدارِج
الحِرْص على البقاء. مع تَسرُّب أوَّل خيوط العتمة مع انسحاب آخر خيوط ضوء
النَّهار؛ تخلو الشَّوارع حتمًا من المارَّة، وتنخفض مُستويات الضَّجيج بشكلٍ
ملحوظٍ.
تميلُ الحالة للهدوء كلَّ يوم في مثل
هذا الوقت. خُطوات العابرين مُتعجِّلة الوصول إلى مقاصدها. الأيدي مُثقلةٌ بأكياس
الخُبْز والخضراوات، والحاجات الضروريَّة كالشُّموع، وقَنَاني المشروبات الغازيَّة
الفارغة بعد إعادة استخدامها كعُبوات لزيت الكاز (الكيروسين).
انتعشت تجارته إلى جانب مادَّة البنزين
والمازوت (الدِّيزل) أيضًّا، أصبحت هذه الموادُّ
تُباع على جوانب الطُّرُقات. بعض الشَّباب وَجَدُوا فيها مَصدَر دَخْلٍ؛
يُدِرُّ عليهم رِبْحًا معقولًا من فارق الشِّراء والبيْع. لا نقاش ولا جدال على
الأسعار المُتحرِّكة في كلِّ دقيقة. لا ثَبَات هنا. المؤشِّرات للأسعار اِعْتادَت
الصُّعود دائمًا. الهُبوط غير وَاردٍ أبدًا، ولا يُمكن تخيُّله ولا في الأحلام.
شهَقَ أنفاسَه بصُعوبة ترافَقت بجفاف
حلقه، تطلَّع يمينًا ويسارًا باحثًا عن شفَّة ماءٍ تُرطِّب شفتيْه الجَّافَّتيْن وفمه
المُتخشِّب من العطش. تذكَّر عبوة ماء كان قد خبَّأها منذ زمان تحت وخلف الكَنَبَة
المُتهالِكَة على وشَك الانهيار.
تابع نبهان كلامه عن الوضع بشكلٍ عامٍّ لصديقه محمود، الذي اِلْتقى به
بطريق الصُّدفة، بعد انقطاع علاقتهما لأكثر من خمس سنين مَضَت، لا يدري كلٌّ منهما شيئًا عن
صديقه..!! بل على الأغلب أنَّ ظُروف الحرب والشَّتات؛ لم تسمَحْ لأيِّ شخصٍ إلَّا
التَّفكير بنفسه فقط، وبهُمومه اليوميَّة في تأمين رَغيفِ خُبْزٍ.. لا يهُم حتَّى
وإن كان الرَّغيفُ يابسًا عَدَا عليه العفَن والنَّشَفان؛ فَسَرقَه الزَّمان من
أيَّام الرَّخاء لِيَرْمِيَه في زاويةٍ مُظلِمةٍ.
نبهان يستأنفُ حديثه؛ بعدما شَعَر بارتياحٍ بحُريَّة دُخول وخُروج
الهواء إلى رِئتيْه. محمود
سلَّم أُذنيْه طواعيةً لحديث صديقه، يستمعُ، ولم يُعلَِّق بأيَّة كلمة:
-اعتاد السُّكَّان عُمومًا، وفي هذا
الحيِّ على وجْهِ الخُصوص، العَوْدة إلى منازلهم من بعد العصر. إلَّا مِمَّن
تأخَّر منهم خارج بيته لأمرٍ ضروريٍّ خارجٍ عن إرادته.
منذ سَنتيْن ونصف، وأنا مُقيمٌ في هذه
المنطقة، بعدما تقطَّعت بي السُّبُل، ولم يبق لي أحدٌ من أفراد أسرتي الصَّغيرة (أمَّي وأبي وأختي). قذيفة
مدفعيَّة سَقَطت على بيْتنا فَدَمَّرته بأكمله.
في أحيانٍ كثيرة يكونُ الصَّمتُ أبلغ
من الكلام. محمود لم
يتأثَّر على ما يبدو، ولم تتغيَّر معالم وجهه الجامدة كوجوه الموتى بلا أيَّة
انفعالات تُذكَر؛ لعلَّ التَّعبَ والإرهاق مَنَعهُ من التعليق، وربَّما أنَّه أصَمٌّ،
لم يسمع كلمةً واحدة من حديث صديقه..!!
ومن دَرَى: أنَّه أبْكَمٌ يسمعُ ولا
يتكلَّم.. ولعلَّ مفتاح التأويلات لحالته يُشرِّح غُموضَ وضعه، وفي رِحاب التأويل
يكمُن الشَّيْطان، للإيحاء بسوء الظنِّ في أحسن الأحوال.
..*..
أول
لقاء نورما مع سيرا
(نورما من ريف دمشق قرية مجاورة للكسوة، سيرا
من القامشلي)
لم تستغرب "نورما" قلَّة السَّالكين للطَّريق
الخلفيِّ المُحاذي للشَّارع الرَّئيس في أحد ضواحي العاصمةِ الجُنوبيَّة، وعلى
الأغلب، كما أفصحَتْ عن المكان فيما بعد بزمانٍ طويلٍ:
- إنَّه
في المنطقة الفاصلة بين مُخيَّم فلسطين ومُخيَّم اليرموك، وبالتحديد خلف "شارع لوبية".
مع كلِّ خُطوَة تخطوها؛ تُسابقها
هواجسها وليدة مخاوفها، وصلت من المنطقة الجنوبيَّة من جهة "الحجر الأسود"،
لم تقصد التَسُلُّل إنَّما اِلْتواءات الأزقَّة الضيِّقة في الحارات، ومن غير دِرَاية
منها على الإطلاق إلى أين يُمكن أن تستقرَّ في نهاية المطاف؛ عَبَرت إلى هذه النُّقطة
دون المرور على الحاجز.
جلست مَرَّاتٍ خلال رِحْلتها في ظلال
الأبنية الصَّامدة أو المُهدَّمة جُزئيَّا. ملابِسُها مُلَطَّخةٌ بالأتربة.
الغُبار شكَّل طبقةً تكسو ملامحَها،
كأنَّها بدويَّةٌ من سُكَّان البراري البعيدة، دَكُنَت بشرتُها بفعل الشَّمس،
أساسًا كانت قبل ذلك لا تخرُج إلَّا للضَّرورة القُصوى، بعد أن تضَعَ الكريم
الواقي الشَّمسي ماركة "بيرفكشن"؛ لتخفيف الآثار السيِّئةِ على بَشَرتِها
الحسَّاسة أصْلًا.
تنَفَّستْ بعُمقٍ عندما توقَّفت أمام عِمَارةٍ،
عند ناصية الطَّريق ذات الطَّوابق الثَّلاثة؛ لتقرأ على كَرْتونةٍ مُعلَّقة بمسمار
فولاذيٍّ مَعْقوفِ الرَّأس، لا تزال تتأرجحُ ذات اليمين واليسار في أعلى البوَّابة
الرَّئيسة مع كلِّ هَبُوب ريحٍ خفيفٍة، والشَّديد كان يقلبُها رأسًا على عَقَب. كَمْ
تأفَّف نبهان من
هذه الحالة..!!، ممَّا يضْطَّره لوضع تَنْكَة مَعدنيّة عتيقة، أو بقايا كُرسيٍّ
مُتهالِكٍ على يمين المدخل، ويَصعد لِتعديل اللَّوحة.
بصعوبة قَرَأتْ الكلمة الأولى المكتوبة
بخطٍّ سيِّئٍ "بنسيون"،
تتهجَّى بلا فائدة، ما زالت تُجاهِدُ عَقْلها الضَّائع في الاهتداء لهذا المعنى
الذي لم تسمَع به من قبْل. الكلمتان الأُخريان واضحتان إلى حدٍّ ما "الشَّارع
الخلفيِّ".
الحيْرة أمام ترجمة هذه الطَّلاسم لم يَطُل،
إلَّا حينما اِنْزلقت عيناها على الجدار الأسوَد المُعتِم، لتتمعَّن بكلمة فُندُق،
المكتوبة بشكلٍ مائلٍ بحجمها الكبير بفرشاة دِهَانٍ ضخمةٍ، كأنَّ اليَدَ التي كتبَتْها
بعجَلةٍ من أمْرها؛ جاءت بشكلٍ ظريفٍ يُمكنُ التَنَدُّر عليه.
تجدَّد الأمل في قلبها، وهي تقرأ كلمة
"فندق"، لسانها ردَّد تلقائيًّا:
-فندق.. فندق.. فندق.
صوتٌ جاءَها من الخلف لم تجفل حوَّاسُها
منه، ولا اِهتزَّت أعضاؤُها ارتجافًا، على خِلاف الأصوات الجَشَّة الخَشِنة الباعِثَة
على الرُّعْب؛ صوتٌ أُنثويٌّ رقيقٌ هذه المرَّة. يقول:
-فندق.. يا حبيبتي..!!
اِنْتبهت "نورما"، اِنْفرجت أساريرُها
قليلًا؛ أذْهَبَتْ تقطيباتُ جبينِها التي اِسْتَوطنتها في الفترة الماضية. نظَّفَتْ
حُنجَرَتَها من أَثَر البَلْغَم المُتجمِّع في حلقها من التَّعب والعَطَش. قالت:
-أشكُركِ حبيبتي، بالفِعْل إنَّني
أبحثُ عن مأوى؛ لأنامَ، وأستقرَّ فيه، ولو بشكلٍ مُؤقَّتٍ.
-مَرْحبًا بكِ. اسمي "سيرا" من القامشلي.
-وأنا "نورما" من ريف دمشق.
..*..
ما إن اجتازت "نورما" مدخلَ العمارة بأوَّل خُطواتها
الحذِرَة، تتبَعُ "سيرا"
الدَّاخلة قبلَها؛ دليل المكان. صوتُ طَقْطَقة كَعْبِ حذائها تتلاحَقُ بلا توقُّف
حتَّى أثناء صُعود الدَّرَجات، كضَرَبات المطارِق في سُوق النَّحَّاسين.
خُفوتُ النُّور مع أوُلى خطواتِهِما لم
يمنع "نورما"
من مُتابعة تقاطيع ظَهْرها وأردافها المليئة "سيرا"، عريضةُ المنكبيْن. شعرها
الأسود المُنسَدِل على مساحة ظَهْرها وُصولًا إلى منتصف الرَّدِفيْن المُكتَنِزيْن
المُتَرجْرِجيْن بأثر حَركات قدميْها مع صُعودِها أوَّلِ دَرَجة. حَوْضُها العَريض
شَكَّل حاجِزًا حَجَبَ "نورما" من إرسال نظراتها للأعلى لفحص الدَّرَج.
اِنْغرَست عيْناها في جَيْبة بنطلون
الجينز الأزرق الذي ترتديه "سيرا". انتفاخُ الجَيْبة اليُمنى بالمحفظة الجلديَّة
الخاصَّة، وطَرَفُ زاوية الموبايل يُطلُّ برأسِه من أعلى الجَيْبة اليُسرى.
- لا شكَّ أنَّ "سيرا" مُهمَّة
وخبيرة في هذا المكان، وتُقيم فيه مُنذ زَمَن، وكيف وصلت من القامشلي إلى هُنا في
مثل هذه الظُّروف- -نورما تُحدِّثُ نفسها- لا
مجال إلَّا بالتآلُف معها، ولا يُمكِن رفضُ معرفتها وخِبرتها، المهمُّ أنَّ اِمْرأةً
تقفُ بجانبي؛ ذلكَ يُطَمْئِنُ قلبي مَبْدئيًّا، وعلى الأخصِّ عندما عرَّفتني على
أنَّها من القامشلي،
وعندما تابعَتْ:
-"مرحبًا بك في البنسيون –هذه
الكلمة لم أُحْبِبْها، لا أعرفُ سَبَب ذلك- مبدئيًّا أنتِ ضَيْفَتي هذه اللَّيلة
في غُرفتي الخاصَّةِ المُحجوزةِ على حِسابي، خلال الأيَّام القادمة لو اِرْتحنا
لبعضنا، وتفاهَمْنا ربَّما نستمرُّ سويَّة، لو لم يكُن عندكِ مانعٌ يا حبيبتي نورما".
فطنت "نورما" لِردفيْها ظنَّتْ أنَّهما يَتَرَجْرجان، انتقلتْ
يدُهَا بحركةٍ آليَّةٍ؛ لتتأكَّد أنَّ ضعفَهُما خلال الفترة الماضية؛ قد أذابَ شَحْمَهُما،
واتَّسع بِنْطَالَها عليهما، رغْمَ أنَّها في السَّابق كانت تتمنَّى تخسيس وَزْنها،
واتَّبعت "روجيمًا" قاسيًا، لكنَّها لم تفقِدْ سوى كِيلَوَيْن فقط.
-يا إلهي.. كيف لهذه المرأة بهذه
الانطلاقة بلا قُيودٍ، ولم تتأثَّر بِمَا يحدُث في البلد، وهل حقًّا لم تُفكِّر
يومًا ما بإنزال وَزنِها..!!.. يا "سيرا": لقد أكرمكِ الله بِرَدفَيْن دليلا
راحة بالَكِ..؛ ففي الثَّورة قُتِل أهلي جميعًا، يا ليتني كنتُ معهم الآن، ولم أصِلَ
لهذا المكان المُخيف. شكلُه الخارجيُّ بثَّ القلق في قلبي، وحقيقة دواخلي حزينة
على حالي، وقلَقي على الأيَّام القادمة من المجهول، عندي إيمانٌ راسِخٌ: أنَّها لن
تحمِل لي إلَّا المفاجآت غير السَّارَّة، إنَّ
قدَمِي هذه أضعُها على الدَّرجة الأولى صُعودًا خلف "سيرا"، وتلتَصِق
آثار قدمها بقَدَميَّ، أتبَعُها بلا أدْنى تَردُّدٍ. أين..!! لا أعلم.
المجهول مخيفٌ ومخيف جدًّا. وها أنَذَا
كالسَّجينات المُعتقلات يُزْفَفْنَ لجلَّاديهنَّ بلا رَغْبة منهنَّ، بلْ مُجبراتٍ
مُكْرَهاتٍ على برنامج الاغتصاب الدَّوريِّ.
فوضى المَدْخل رسالةٌ مقروءةٌ بوضوح
بلا شكٍّ، استقبلت "نورما"
جُرعةَ كآبَةٍ زائدةٍ عن فائض حُمولة نفسها الواهنة أصْلًا.
الأغراض العتيقة، وبقايا أخشاب، وَكَرَاسٍ
خَشبيَّة وحديديَّة، وأشياء غريبة غير معروفة يصعُب تمييزها بسُهولة؛ شكَّلت لوحة
سِرْياليَّة بتنافرها الغامِض العَصِيِّ على أيِّ تفسيرٍ معقولٍ: للتراكُمات التي
اِحْتلَّت مُعظَم المساحة الجميلة أيَّام زمان.
المُوزِّع فيما بين الشُّقق صار خلف
جدارٍ مُتماوج بَيْن مُيول للدَّاخل والخارج من البُلوك (أحجار البناء الإسمنتيّة)
المبني بطريقة بِدائيَّة، مُعظَمُه من بقايا البُلوك المُكَسَّر؛ صُفَّت بِعَشْوائيَّةٍ
مثيرة للشَّفقة، قام بها شَخْص مُبتَدِئٌ يتَعَلَّم فنّ المعمار، ولا عَلاقةَ له
بأعمال البِنَاء سابقًا.
"سيرا"، تنقُلُ خطواتها بثقة اعتادت
عليها يوميًّا، أَلِفَت المكان؛ فلم تكتَرِثْ لمثل هذه المناظر، ولم يلفت اِنْتباهها
أيَّ شيء.
لا تريد إلَّا أن يكون بداية مدخل الدَّرج
سالكٍ بشكل دائم. عدَّة مرَّات أبلغت نبهان باحتجاجها:
-دخيلَكْ يا نبهان أنقذني..!!.
هلكتُ حتَّى استطعتُ الوُصول، أنتَ عارف.. غالبًا تكون كُندَرَتي ذات الكَعْب
العالي دومًا هي التي ألبسها في قدميَّ، بينما ذات الكعب المتوسِّط أحيانًا أقلّ، ولا
يَروقني من الأحذية إلَّا الأنواع ذات الكعوب العالية.
بينما هذه الكُندرة التي تراها الآن
جلدها من النَّوْع النَّادر، جاءتني هديَّة من القاهرة، من أُختي أثناء ذهابها مع
زوجها المُهندس، عندما أرسلوه بدورة تدريبيَّة في مركز زِراعيٍّ يتبعُ لجامعة
الدُّول العربيَّة.
نبهان بطبيعته الودودة، ولكي يُعطي اهتمامًا
لكلامها، بطريقة مُوحيَةٍ بعفويَّتِها لكنَّها غير بريئة، ولِحُبِّه أن يتقرَّب
منها على الدَّوام، كان يتساءل:
-سيّدة سيرا، فيما مضى اِشتغلتُ في محلِّ لبيع الأحذية، وأمتلكُ من الخبرة في هذا المجال؛
فقد شوّقتني مقولتكِ في كلِّ مرّة أشعرُ بضيقِكِ من الممرِّ، لأسألكِ عن نوعيَّة
جلد كُندرتكِ؟.
سيرا ترفع حاجبيْها للأعلى علامة
الاهتمام، مع شهقَةٍ خفيفةٍ ترتفع معها حمَّالة صدرها للأعلى، الحركة التي ينتظرها
نبهان في كلِّ مرَّة
يُثير معها أيَّ حديث أو نقاش، عادة ما يفتعلُ موقِفًا بحركة مُثيرة لاستفزازها،
لتتوَّقف أكبر مدَّة زمنيَّة يتجاذب معها أطراف الأحاديث، بطبيعته يُرسل نظراتِه
اِسْتراقًا لتضاريسها المُتحرِّكة عُلُوًّا وهُبوطًا.
ترتسم ابتسامة عريضة على وجهها تتآخى
مع حركة واضحة من رأسها، وتردُّ عليه:
-بكلِّ سُرورٍ يا نبهان، كما تعرف أنَّ
خُصوصيَّاتي لا أستطيعُ الإعلان عنها، أو الخَوْض في بعض جُزئيَّاتها إلَّا
للخواصِّ من الأصدقاء من أمثالكَ، تواضُعي يتنافى مع الكلام عن نفسي، بالطَّبع هو
جلدُ أفعى.
تبدو علامات الدَّهشة على وجه نبهان. يخفضُ رأسه للأسفل،
ثمَّ بحركة سريعة يرفعه، ليُحدِّق في السَّقف، وتمتدُّ يده اليُسرى ليهرُشَ فروة
رأسه، بينما اليُمنى يتكِّئُ عليها على طرف الطَّاولة العتيقة، ويقول:
-بالفعل كما
تفضَّلتِ حضرتكِ؛ فإنَّ الأحذية المصنوعة من جلد الأفاعي نادرة في السُّوق
السُّوريَّة، كما أنَّها غالية الثَّمن، ولا يطلبها إلّا الأثرياء من الزَّبائن،
كنساء الضُّبَّاط والوُزراء والفنَّانات، كما أنَّ أغلب هذه الموديلات نستوردها من
مصر وإيطاليا وإسبانيا، وأسعارها فوق.. فوق في العلالي.
شعورٌ داهمٌ بنشوة يجتاح سيرا طربًا لما تسمعُ
من نبهان،
وتُعقِّبُ:
-يُعجبني ذوقكَ الجميل كما أنتَ يا نبهان، قليلون مَنْ
يعرفون كلامكَ، ومنْ يُقدِّرون نوعيَّة الحذاء وماركته؛ لذلك ستبقى تسمع احتجاجي،
لأنَّني أعرفُ أنكَّ حريصٌ على راحة نُزلَاء البنسيون.
-بكلِّ تأكيدٍ سيَّدتي كما تعرفين؛
فإنَّ حِرْصي شديد على راحتكم.
تودُّ لو أنَّها تستطيعُ تسجيل
احتجاجها على ورقة، أو كرتونة تُعلِّقَها على الجِدار المُقابل لطاولة نبهان، لكي لا ينسى،
ويبقى يتذَّكر طلبها المُتكرِّر، وتتابع:
-لو تستطيعُ إبقاء الممرِّ سالِكًا؛ ففي
بعض الأحيان يضيقُ ممَّا يضطَّرُني للمَشْيِ الجانبيِّ بحذَرٍ، خوْفًّا من
التعثُّر والسُّقوط، أو انحشار جِسْمي بين الأغراض التي يكتظُّ بها الدَّرَج من
أوَّل درجة عند المدخل حتَّى هنا، ومن الأوساخ التي ستعلقُ بملابسي، التي يصعُب
تغسيلها وكَوْيَهَا كما تعلَمْ.
في كلِّ مرَّة كان يستجيبُ لها على
طريقته الوحيدة؛ بصبِّ جَامَ غَضَبه على مُساعِدِه أيمن الشابِّ الصَّغير ذي الخمسة عشر
عامًا على أكثر تعديل.
..*..
(3)
(طبيعة
السكان الجدد)
*(نورما+ سيرا): توصلان الصعود على الدرج للطابق الثاني،سيرا
تتكلم بحدث مسموع يسيطر على المكان الهادئ الصّامت بطبيعته، نورما لم تُعلِّق،
تسمع فقط.
*(لارا+ فايا): تسكنان البنسيون منذ فترة، كانتا جالستين أو
إحداهما، عندما وصلت (نورما وسيرا) إلى الصّالة الرَّئيسة للبنسيون، ملتقى الجميع
معظم الأوقات، يتبادلون بعض الأمور الهامّة.
العمارة
الضخمة ذات الطوابق الثلاثة في محيطها تُعتَبر شاهقة، تطالعُ الشَّخص العابر من بداية مدخل الشَّارع
الخلفي لشارع "لوبيا"
الرّئيس كوجهٍ مومياء عتيقة لا أحد يحبُّ النَّظر إليه، مهما كانت الظُّروف.
مظهرٌ كئيبٌ باعثٌ على الإحباط للوهلة
الأولى للقادم إليه للمرَّة الأولى. تنافَرُ الألوانُ بِتَآخٍ بشكلٍ عجيب، الجُدران
المُقشَّرَة من طول مُعاناتها من الاشتباكات المُتبادلة يوميًّا بين المُتحاربين
الأشدَّاء، والقصف المُتكرِّر من الجيش والميلشيات من أماكن بعيدة، المكان تقدَّم
لمقدَّمة الحَدَث عربيًّا وعالميًّا، عندما دخل مقاتلو داعش مُخيّمي "فلسطين" و "اليرموك".
لا يحتاج الخوف لمُبرِّرات لكي يستقرَّ
في ذاكرتكَ، المشهد يبوح بخفاياه بلا كلام.
مع درجة أخرى تعلوها قَدَمُ سيرا ما زالت مُسترسِلةً
في كلامها، بينما لسان نورما
كأنه مربوط ولا تستطيع الكلام:
-نورما. عزيزتي نورما، أرجو أن تتقبَّلي
الوضع هنا، وتأخذي الأمور بكلِّ بساطة لتستطيعي مقاومة صعوبات العيش التي تعيشها
البلد كاملة، ربَّما نكون محظوظين بلقائنا غير المقصود، ومن غير ترتيبات أو تحضير،
وكما يُقال: فإنَّ الصُّدفة خير من ميعاد، أو مئة ميعاد.
الدُّنيا لا تبخلُ علينا بل تجودُ
بالضِّيق على الرَّغم من رحابتها، ففي بعض الأحيان لا نراها إلَّا كُخرم إبرة.
تخلَّينا عن الكثير في سبيل صمودنا في الحياة الصَّعبة أصلًا قبل مرحلة الحرب التي
نحن فيها الآن، فما بالُكِ فيها الآن. وأنتِ لستِ غريبة عمَّا سأقوله؛ فكما أعرفُ..
أيضًا أنتِ تعرفين وأكثر، لا شكَّ أنَّ المُعاناة امتدَّت من أقصى الجنوب إلى أقصى
الشَّمال، ومن أقصى الغرب إلى أقصى الشَّرق.
صمت المقابر المُريب جاثِمٌ بأثقاله
على صَدْر نورما،
لا يعلمُ أحدٌ إلّا الله، أنَّها سمعت كلام سيرا، فلا هو صمتُ التفكُّر في خلق السَّماوات
والأرض كما يُظَنُّ من صَمْت العُبَّاد والزَّاهدين، ولا صمتُ العاجزين عن الردِّ.
ولا هو بالسُّكُوت الذي يُقال عنه
علامة الرِّضا، لا أحدٌ يعلم حقيقة الرِّضا عن أيِّ شيء، عن الخوف والجوع
مثلًا..!؟. فلا هي صامتَةٌ ولا راضية، لكن لم يبدُ عليها السَّخطُ. سيرا تَصْعَدُ درجةً
تِلوَ أخرى، ولسانها لم يتوقَّف عن الكلام المُوجَّه لنورما. استغراقها منعها لم تكترث، ولم
تلتفت للوراء لتتأكَّد من مُتابعة نورما لها.
روائحُ مُختلطَة يصعُب على حاسَّة
الشمِّ فَرزها، كما هي العُطور المُركبَّة من عدَّة أصناف مختلفة، الضعيفُ يغيب في
قوَّة القويٍّ، بينما القويُّ يفقد كثيرًا من قوَّته المُتبدِّدةِ في ضعف محيطه.
المرحلة الأولى من صعود تسع درجات،
تتماثل مع الأعوام التِّسعة من الثَّورة. والتِّسعُ الثَّانية كأنّها حصاد خَيْبات
الحرب. بينما نورما
تباطأت خُطواتها المُتثاقلة عن متابعة الصُّعود.
سيرا تمتدُّ يدها اليسرى لتهرُش ظهرها ثم
تستدير لتهرش أسفل بطنها، وبالأخرى تُبعد خُصَلات شعرها المُتناثرة على وجهها،
لترى الطَّريق بوضوح.
..*..
صالة
البنسيون:
(تدخل سيرا أولًا.. تلقي التحية على الجالسين بعدما انقطع
حديثهم)
-(نبهان
يجلس خلف الطاولة، بيده قلم يكتب أشياء خاصّة به)
-(محمود
يجلس بجانبه، الصبي أيمن يخرج من الجانب الآخر)
-(لارا
و فايا جالستان تتكلمان على انفراد فيما بينهما، بأمر يبدو خاص أيضا بهما فقط).
-(سيرا
تُمهّد لوصول نورما المتأخرة بخطواتها المتكاسلة)
النُّهوض من الرَّماد عملٌ شاقٌّ، وسيبقى الرَّماد
مُحيطًا كالوَحْل عالقًا يصعُب التخلُّص من آثاره بسهولة، لمن وقع في أُتونِه
بِمَحْض إرادته أو كان مُجبَرًا على ذلك.
كراهة المُحيط والتأفُّف ظاهرة
عاديَّة، ما داموا مُتأقلمين بجُزئيَّات حياتهم، إدمان الحالة موحٍ على الأقلِّ
بالرِّضا بِالمُخلَّفات؛ وأيّ شخص مجبَرٌ على التوافق مع معطياتٍ مفروضة عليها
بحكم الواقع. لا يد له فيها.
لا خيارات أمام المغلوبين، المغلوب على
أمرهم لا يستطيعون حيلة، ولا فَتل فتيلة وإن كانت بسماكة شعرة.
جدار نبهان إضافة جديدة على الطَّابق الثَّاني للعمارة،
على غِرَار الجِدَار في الطَّابق الأرضيِّ المُقابل لِبُوَّابة المدخل الرَّئيس،
كِلَا الجِدَاريْن عَزَلا
خلفهما الشُّقَق الأربع المُكوِّنة لكلِّ دَوْر، المُستجدَّات تُعطي أفكارًا
خلَّاقة بإضافات ضروريَّة لطبيعة الاستخدام، وتغيير المعالم القديمة، ليس دائمًا
يكون التَّغْيير للأفضل، إنَّما لتلبية حاجة في نفس صانعها.
مشروع نبهان استثمار في الخراب، ومن يدري..!!
ربَّما يكون مشروعًا ناجحًا. عقليَّة تجاريَّة حملها معه من أيَّام عمله بتجارة
الأحذية على مدار سنوات، كان ذلك قبل الحرب، اقتصاد الحرب قائم على عقليَّة
تستقطبُ مهارات كيفيَّة جمع المال كيفما اتَّفق.. على قاعدة: كلُّ شيء في الحرب
مسموح وبلا حَرَج، والشَّاطر بِشطارته. شهيَّة الثَّراء قابليَّة بشريَّة عُمومًا،
المُحاكمة العقليَّة تختفي عند الأكثريَّة، لاستغلال الظرف الطَّارئ، حتَّى أنّهم
يقولون:
-"حلال على الشَّاطر، أموال
وأرزاق على قارعة الطَّريق، ستذهب لي ولغيْري، فأنا أوْلى بها".
نبهان من غير المُؤكَّد أنَّه سمع بــ"ميكيافيلِّلي"،
ولا معرفة له إطلاقًا باسم من قالها:
-"الغاية تُبرِّر الوسيلة".
والده أخرجه من المدرسة عندما أيقنَ
أنّ ابنه حفظ جدول الضرب، ليستطيع إجراء الحسابات البسيطة اللَّازمة بالجمع والطرح
والضَّرب للأرقام أثناء التعامل مع الزَّبائن، مهارته الآن صقلتها تجربته في صغره،
وكأنَّها منقوشةٌ على صخر إصراره العنيد في أن يُصبح صاحب رأسمال، ويصبح له محلَّه
التَّجاريّ الخاصَّ به.
الحرب فُرصة خاطفة لنبهان وأمثاله لانتهازها،
اختلفت الظُّروف الآن بعد دمار بيتهم وموت أسرته، تركز عقله عند الحاجة للمال غاية
مهما كانت الوسيلة؛ لتكوين ثروة من أجل المستقبل، الحرب لن تدوم مدى الحياة مهما
طال الزَّمن، عند مجيء السِّلم ستدور عجلة الحياة بِرِتْمٍ مُتسارع لِلَّحاق
بِمُتطلَّبات العَرْض والطَّلبِ على كُلِّ شيء.
الحاجة أمُّ الاختراع، عبارة أصَرَّها
نبهان في نفسه،
ولهج بها لسانه مِرارًا في فترات سابقة ولا زال، صباح كلِّ يوم مُبكِّرًا يبدأ
بالعمل بتشليح العمارات المجاورة القريبة والبعيدة لعمارته التي أصبحت مُستقرَّهُ،
يعمل مع أجيره أيمن.
المنطقة فارغة تمامًا من سُكَّانها
الأصليِّين، أصحاب البيوت ومالكيها، والمُستأجرين. جميعهم هُجِّروا عُنوةً، لم
يتبقَّ منهم إلَّا أقلَّ القليل، لم ينتبه لهم أحد من كبار السِنِّ الذين عجزوا عن
الفرار بأرواحهم، أصَّروا على الحياة والتجذُّر
بمكانهم، اختاروا البقاء حتَّى الممات في مكانهم، إصرار عجيب بمواجهة الموت بلا
خوف.
..*..
ابتكار جديد غير مسبوق بفكرته، جديرة تسجيلها بموسوعة
"غينيس" للأشياء الغريبة، تجارة التَّشليح للوهلة الأولى تبدو غريبة لا
يمكن استيعابها، في الحرب تتآلف المُتناقضات وتتقارب؛ فتموت القِيَم وتنتشي شهوة
تحويش الأموال، الحرب فرصة عابرة ربَّما لن تتكرَّر ثانية على المدى القريب.
عندما أحسَّ نبهان بخطوات تقترب من
الدُّخول، وصوت سيرا
يسبقها، بدأ يُخفِّض من صوته لصديقه محمود الجالس قريبًا منه الذي ما زال يستمع
لنبهان، ولم يُعلِّق بكلمة واحدة على مدار ساعة سابقة على هذا الوقت:
-المُسيطرون على المنطقة من عناصر
الأمن والشبِّيحة من قادة الدِّفاع الشَّعبيِّ الشَّبيهة بالميليشيات المُتعاونين
مع القائمين على الحواجز يتحكَّمون بمداخل ومخارج المنطقة، يقومون ببيع العمارات
والبيوت والمحلَّات المهجورة، لتُجَّار الخُردة الذين يدفعون مبالغ مقطوعة، مُقابل
السَّماح لهم بنقل كلِّ المُخلَّفات من الأثاث والأدوات المُتبقيَّة، مثل الأبواب
والشَّبابيك وإكسسوارات الحمَّامات والكهرباء، حتّى الأسلاك الكُهربائيَّة
يسحبونها من أماكنها داخل الجُدران، لبيعها كمادَّة نُحاسيَّة، أيضًا بلاط
السِّيراميك يخلعونه، وبلاط الأرضيَّات ينزعونه أيضًا لأخذ مادَّة الرَّمل التي
تحته لبيعها وإعادة تدويرها في أعمال إنشائيَّة أخرى.
مفهوم التَّشليح ينطبق بما هو متعارف
عليه بالسَّرقة وقُطَّاع الطُّرُق، أو عندما يَشْلَح المرء لباسه ويبقى عاريًا،
وهو مثل حالة البيوت والأبنية تصبح جدرانها عارية من كلِّ شيءٍ.
تجارة الخردة أصبحت سوقًا مُوازيًا له
ثقله كلُّ أغراضه مسروقة ومنهوبة، الأسعار فيه أرخص بكثير من المواد الجديدة بكلِّ
المعايير.
سيرا بطبيعتها بشوشة بِسُطوع شمسها دائمًا،
طبيعة وجهها الواسع المُدَوَّر المليء، الُمتورِّد الوجنَتَيْن. رسالة تسبقها
بالتعريف بها، قبل انطلاق أيَّة كلمة منها.
توجَّهت أعيُنُهما صَوْبها. محمود كما بدا نظره مَشْدوهًا
من صدمة المنظر المُباشر غير المألوف له قبل ذلك عن قُربٍ، وهذه الابتسامة الودودة
بجاذبيَّتها الأخَّاذة.
تسمَّرت عيناه في نفور صدرها
المُتوحِّش المُندفع للأمام؛ يُريد الانقضاض على خصمه. شفته السُّفلى مُتهدِّلة
للأسفل أفسحت المجال بنصف انفراجة من فَمِه، لترى أسنانه المُصْفَرَّة؛ ربَّما
أنَّها قالت لنفسها:
-"مسكينٌ لا يملكُ فرشاة ومعجون
أسنان".
ابتسامة عريضة ارتسمت على وجه نبهان، بادرها قبل أن
تتكلَّم بأيَّ كلمة:
-يسعد لي هالمسا يا رب، صدِّقيني لا
يرتاح قلبي ولا تعود أنفاسي لي إلّا حين عودتكِ كلَّ مساء، لا أدري لماذا هذا
الإحساس يسيطر عليَّ. أعرفكِ على صديقي محمود، التقيتُه صُدفة قُربَ كراجات "باب مصلَّى"، لا
أدري إلى أينَ كان سيذهب، لو لم أمسك بيده. للوهلة الأولى نَظَرنِي بغرابة؛
أشعرتني بالخوف. عُبوسُ وجهه الجامد كَلَوْح ثلج، إلى أن صرختُ بوجهه:
-محمود أينَ أنتَ كلَّ هذه السَّنوات، استعاد وَعْيَه،
وابتسمَ لي، وأخذنا بعضنا بالأحضان والعناق لخمس دقائق، رُدَّت رُوحي إلى صدري،
وأخبرني لحظتها مثل ذلك.
-مرحبًا بكَ محمود، سعيدة بكَ
لمقامكَ عند نبهان،
نحنُ هنا صرنا عائلة واحدة منذ لقائنا لأوَّل مرَّة، وها هي "نورما" قادمة
ورائي مازالت تصعد الدَّرجات ببطء، كأنَّها سُلحفاةٌ هَرِمَةٌ أتعبها الزَّمان.
-من تكون هاي البنت يا سيرا؟. يسألها
نبهان.
-في الحقيقة تعرَّفتُ إليها الآن عند
مدخل البنسيون،
كانت حائرة وهي تتهجَّى كلمة البنسيون المكتوبة كخرابيش الدَّجاج. بإحساسي الذي لا يخيبُ
جاء مُطابقًا لظنِّي بأنَّها تبحثُ عن مكان لتأوي إليه. مع ذلك أجابتني بلهجة
العارف بأصل الكلمة، واستفدت منها المعلومة، لأنَّني لا حاجة لي بمعرفتها:
-"أصل كلمة "بنسيون"
فرنسيَّة تعني النُّزُلْ, عادة ما يكون بيتًا عاديًّا ليس مُصمَّمًا للإيجار،
ويقوم صاحبه بتأجيره، وغالبًا ما يُقيم مع المُستأجرين، حَيْرتي غير المُبرَّرة:
أن لا شيء يدلُ على ما أعرفه عن طبيعة البنسيونات في العادة".
-أهذا كلَّ شيء تعرفينه عنها..!!؟.
-يا نبهان..!! انتظر دقيقة أو اثنتين فقط، وستكون
البنت هنا إلى جانبي، وستفهمُ بنفسك منها بما تُريد سُؤالها عنه.
محمود شارد الذِّهن. نظراتُه سائخة في
تضاريس سيرا،
يسمع كلامهما، ولم تصدُر عنه كلمة واحدة، على الأغلب أنَّه لم يردَّ السَّلام
عليها، عندما ألقت تحيَّة المساء عليهما.
التَّضاريس الصَّعبة تمتصُّ صدمة
النَّظرات، وتُحطِّم الإرادة الضَّعيفة.
سيرا انتبهت لنظرات محمود المغروزة فيها. شعرت بوخزها العميق
بدواخلها. عندما فاجأتهُ؛ خَفَق قلبه بشدَّة، كأنَّما سمعت طقطقة أضلاعه في صدره،
وكان قميصه يهتزُّ بحركات، بِخِبْرتها العريقة دخلت إلى عقله المسلوب، وفسَّرتْ
مشاعره المُتهافتة، وشعرت بقلبه المُرتَجِف، لكنَّها لم تُحدِّد هل من الخوف أو
الحُبِّ من أوَّل نظرة، أم هو شبق الاشتهاء، الاشتهاء الظَّاهرة الفجَّة عند
الرِّجال عُمومًا.
فعلى أيِّ مَحمَل فهِمَتْ نظراته، لم
يمنعها ذلك من توجيه الكلام له؛ تريد أن تسمع نبرة صوته:
-سلام يا محمود. ومدَّت يدها له.
-عليكِ السَّلام. مرحبًا بك. ليلتقطها
بخجل، لكنَّه تلذَّذ بطراوتها، تمنَّى لو يستطيعُ أن يضغط عليها، ويُبقيها لصيقة
يده. لم يستطع إلَّا شرح مشاعره لصديقه نبهان في اليوم الثَّاني أثناء خلوتهما، عندما
تأكَّد من خلوَّ البنسيون، وبصوت خفيض:
- يا رجل شعرتُ بكهربائها سَرَت في
أعصابي، وتَّرتْني، لو بقيتْ ربع دقيقة أخرى لأصابني البَلَلَ.
بُحَّةُ صوته الواهنة. أدركَتْ بأنَّه
لن يزيد على ما قال بكلماته الأربع، ولا رغبة لديْه بالمزيد من الكلام. لا تريدُ
الإثقال عليه، ولا أن تُحرجه بما كانت تنوي من فتح حديث معه، أو ثرثرة للتسلية.
قالت في نفسها:
-"الأيَّام قادمة، سأدعه
الآن". لم تُدرك ارتجافه الدَّاخليِّ، وتوتُّره.
بينما نبهان مشغولٌ بكتابة شيءٍ ما في دفتره
الخاصِّ، الذي لا يسمح لأحد بالاطِّلاع على ما فيه. يده اليُسرى كان يضعها فوق
السَّطر الذي يكتبه.
كأنَّما تذكَّر شيئًا ضروريًّا في هذه
اللَّحظة، وانفصل كُليًّا عنَّا. دُخولي في حديث مع صديقه جاء فرَجًا له، يده اليُمنى
تكتُب الأحرف والكلمات المصحوبة بأرقام بتعجُّل واضحٍ من حركتها السَّريعة.
تركيزه شديد لم ينتبه لي على غير
عادته. استغلال الوقت ضروريٌّ قبل وصول نورما مع أنَّه لا يعلم بقدومها. مؤكَّدٌ. أنّه
لم يسمع سلامي على صديقه الجالس بجانبه، ولا ردَّهُ عليَّ. هكذا قرأَتِ المشهد في
سرِّهَا، ومن وِجْهة نظرها.
..*..
(في هذه
الأثناء تدخل نورما)
الساعة حوالي الخامسة مساء، الشَّمس تميل بطبعها المُتأصِّل فيها إلى جهة
الغروب ببطء نستطيع استيعابه بشكلٍ منطقيٍّ. الاستعداد النفسيّ لأيِّ شيء مُنتظَر
لا يفجعنا فيما لو حصل فجأة.
سَعْلةٌ خجولةٌ. حاولت نورما كتمها في صدرها
بوضع يدها على فَمِها بإحكامٍ، مع ذلك نبَّهت محمود لترقُّب القادم. نبهان مُنشَغِلٌ
مُستغرِقٌ بتوثيقٍ مُهِمٍّ. الحساباتُ لا تحتمل التأجيل قطعًا.
عينا محمود سبقتا عينا نبهان بالتَّرحيب بـ"سيرا" التي
يشاهدها للمرَّة الأولى، لم يزد في رَدِّه عليها، حينما سألته ثانية:
-كيفك يا محمود.
-الحمد لله.
بينما اللَّهفة تنهش قلبها لمعرفة من
يكون هذا الضَّيف الجديد، قدَّرت أنَّه صديق حميم لنبهان.
اتَّكأت بكوعَيْها على مُقدَّمة
الطاولة الحديديُّة ذات الحجم الكبير مثل تلك التي كانت في دوائر الدَّوْلة
المُختلفة، عليها قطعة من السِّجاد الرَّقيق -بدل لَوْح البلَّلور -مثل التي
تُعلَّق على جدران الغُرَف، لأنّها عادة ما تحمل لوحة فنيَّة جميلة لافتة للنظر،
وتُعطي بُعْدًا آخر للجدار.
بينما تدَلَّى صدرُها المليء ليرتاح
على سطح الطَّاولة، وشدَّ فتحة صدْر الكنزة (تي شيرت) القُطنيَّة الواسع، فعندما
تتَّسِع مساحة الرُّؤية تضيق العبارة ذَرْعًا باللِّسان المُتجمِّد بلا نُطق؛
لتسبح نظرات محمود
عميقًا تتحسَّس مساحة مُنبسطة بيضاء بمساحة غوطة دمشق، وقناة بَيْن بَيْن، كزقاق
ضيَّقة في حارات دمشق القديمة. واضحة المعالم من تحت حمَّالة الصَّدر السَّوداء.
تَفَرَّستْهُ بعينيْها الدَّعْجاويْن
بنظراتٍ شَغُوفة تتهيَّأ لأكله بلا مِلْحٍ، كانت مُتأكِّدة بإحساسها الشَّفيف إلى
أين وصل بنظراته.
نبرات صوت نورما واهنة، لم تَكَد تصل إلى سمع من هُم
في الدَّاخل، لذلك لم تلفِتْ انتباه أحد. الاستغراقُ سيِّدُ الموقف في هذه
اللَّحظة التَّاريخيَّة، مجالات ثلاثة أغرقت نظراتَ كُلًّا من ثلاثتهم.
اصطدمت نظرات نورما ثانية بعجيزة سيرا، ووجه نبهان المُنكبّ على دفاتره، ووجه محمود اللّاهي بنظراته
الغارقة في صدر سيرا،
بينما عينا التِّمثال الجِبْسِيِّ المُذهَّب تُحدِّقان بحدَّة في وجه نورما.
كأنَّه حارسٌ واقفٌ مـُتأهِّبٌ على قائِمتَيْه
الأماميَّتيْن في حالة ترقُّب، تبثُّ الرُّعب في قلب القادم للمرَّة الأولى إلى
هذا المكان، وشُعور غامر بهيبة وقوَّة من يجلس خلف الطَّاولة أيًّا كان.
مرآةٌ ذات إطار خشبيٍّ بلونه البُنيِّ
القاتم المحروق، بحجم كبير أخذ مساحة نصف الجدار خلف طاولة المكتب، لا أحد من
سكَّان البنسيون يعلم الحكمة من وضع المرآة في هذا المكان.
نورما دُهشت من شكلها المُهلهل غير المُتَّفق مع
أناقتها المعهودة قبل ذلك، من أسبوع أو أكثر لم تعرف شيئًا عن مظهرها الذي نسيته،
هالها ما رأت، توجَّست من اِزْدراء من ستُقابلهم بعد لحظات.
المرآة شغَلَت نورما عن نفسها؛
فتأمَّلت وجه وصدر سيرا
المُندلق على الطَّاولة، ومؤخِّرتَيْ رأس محمود، ورأس نبهان المُنخفضة للأسفل تتابع ما يشغله.
لُغَة العيون تتَّخذ بلاغتها من
الصَّمت الموحي بفلسفة غُموضٍ مُنتَظَر على أحَرِّ من الجَمْر. لكنَّه مُثير
للقلق.
..*..
نورما وقفت للحظة مَبْهُوتة حائرة. تململت
سيرا بتثاقُل، ورفعت
رأسها بينما يدها اليُمنى؛ لتزيح عن عينيْها ما تناثر من شعرها البُنيِّ المُوشَّى
بخصلات حمراء بلون النُّحاس، ألوان تدرُّجات الغُروب لا تُطيق إلَّا أن تبقى حاضرة
في رأسها على الدَّوام.
ربَّما في هذه اللَّحظة ذهبت سكرة
صدمتها، وجاءت الصحوة، نظرة سوداويَّة، حرَّكت رواسب أفكار قديمة من بقايا قراءات
منسيَّة:
- القهر والخوف يَحْرفان
الرُّؤية باتِّجاهات السُّبات، والمستنقعات الرَّاكدة ربَّما تكون آسِنَةً، على الأغلب لا تصلُح إلَّا للطَّحالب والأشْنِيَّات،
التي تنمو في بيئة مُنغَلِقة غير طبيعيَّة أبدًا.
سيرا لمحت نورما واقفة عند مدخل البنسيون.
لم ينتبه أحد لها، استدارت وبخطوات نشطة تقدَّمت منها، أخذت بيدها، وقادتها؛ لتكسر
حاجز الحَيْرة والخوف أمام طاولة المكتب الحديديَّة.
مع كُلِّ خُطوة من مدخل العمارة، كانت
الدَّرجات تمتصُّ تَعَبَها، وتستنزف ذكرياتها.
تكمُد في نفسها قلقها من فُقدان زوجها
الذي اعتُقِل على الحاجز، عندما أنزلوه، ومالم يكُن في الحسبان، ولو بنسبة ضئيلة
من التوقُّعات، حُدوث هجوم مفاجئ تَبِعَه اشتباك، قبل أن يتحرَّك الباص بلحظة مثل
رمشة عَيْن، فيما بين عناصر الحاجز ومُسلَّحين.
..*..
مبدئيًّا أغلقَ دفتره، وترَكَ القلم بداخله بنفس الصَّفحة
التي كان يكتب فيها؛ فعلى غير عادته، لم يقُم على حَيْله للترحيب بالضَّيْفة
الجديدة.
هل نسيَ ما كان يترتَّب عليه؟.
أم إنّه غير مُكترثٍ؟.
لا أظنُّ أيًّا من الاحتماليْن.
تبدَّدت شُكوكي بقوله:
-عيناي زائغتان ما إن رفعتُ رأسي حتَّى
داهمني دُوارٌ، وخدر في رجلي اليمنى، سامحيني سيرا وأختنا صاحبِتُكِ.
-سلامتك عليك العافية، ما تشوف شَرْ.
قالت سيرَا.
نورما خافضة رأسها لم ترفع عينيْها، قالت:
-سلامات أخي.
-أوَّلًا يجب أن أُعرِّفكَ على صديقتي نورما التي تعرَّفتُ
إليها منذ دقائق عند مدخل العمارة، سبحان الله..!! أحْبَبْتُها من أوَّل لحظة رأيتُها
دخلتْ قلبي.
بعد كلامها توجَّهت بكلامها لي:
-حبيبتي نورما من فضلك أنا تعبانة جدًّا، يومي
كان حافلًا بالعمل منذ الصَّباح وقبل الثّامنة موعد الدَّوام الرَّسميِّ، كما
تعلمي أنَّ يوم الأحد من كلِّ أسبوع؛ تكون المواصلات مُزدحمة جدًّا، تستلزم
الانتظار، فضلًا عن اِنْشغال الموظَّفين المُكثَّف.
ولولا علاقاتي بهم منذ زمن، لن أستطيع
إنجاز توقيع واحد على أيِّ معاملة، فما بالُكِ في هذه السَّفرة؛ فقد جلبتُ معي خمس
وعشرين إضبارة للحصول على جوازات سفر مُستعجلة لعائلات، وشباب ينطُرون بفارغ
الصَّبر للسَّفر أينما كان.
بعد أن حُرِقَت في محافظتنا الحسكة دائرة النُّفوس
والأحوال المدنيَّة، ومقرُّ دائرة الهجرة والجوازات.
أظنُّ أنَّ لدى سيرا المزيد من الكلام
بلا انقطاع، يبدو أنّها مُضطَّرة للدُّخول إلى غرفتها. عندما استدارت بخطواتها
رأيتُها مُتعبة، وبَلَل رطوبة العرق على ظهرها، خاصًّة تحت إبطيْها، قالت:
-نورما، أنتظركِ فور انتهائكِ من نبهان، اِدْخُلي فورًا
الغرفة بلا استئذان. أنتظرُكِ هناك.
-أهلًا بكِ نورما أنتِ أختٌ لنا. مرحبًا بكِ. نحن
هنا بمثابة أسرة واحدة، مصيرنا مشترك، قدر استطاعتنا يجب المُحافظة على بعضنا، ومهما
حدث من مصاعب ومشاكل، سنحاولُ حلحلتها بأقلِّ الخسائر. ولا أن نخسر أحدًا منَّا
يتركنا ويذهب.
نورما ما زالت تخفض رأسها، اعتدالُ الجوِّ
لم يمنعها من مسح جبينها المُتعرِّق على غير عادتها، اِرْتباكٌ. محمود يتابع بِعَيْنيْه
حركات الأيدي وتعابير الوجوه. لم يُشارك ولو بكلمة واحدة، كان وجوده مثيل عَدَمه.
أسئلة نبهان لا غِنَى عنها خاصَّة عند قُدوم
أيِّ شخص جديد يَفِدُ إلى هنا، لا يُمكنه تأجيل ذلك، للتأكُّد من هُويَّة نُزلائه.
ضروريٌّ معرفته بمعلوماتٍ كثيرة عنهم.
وهذا ما رأيتُه سابقًا عندما جاءت لارا، ومن ثمَّ بعدَها بِيَوميْن
بالضَّبط قدمت فايا.
بالطَّبع لمْ أنْسَ السَّاعة الأولى عندما وصلتُ إلى هنا قبل ستَّة أشهُر، أخضعني
لجلسة تحقيق، وقتها تخيَّلتُ نفسي في فرعٍ أمْنيٍّ.
الفرق هُنا لا ضرب، ولا تعذيب لانتزاع
المعلومات، هَلَكَني بأسئلته الذكيَّة، لا أظنُّه إلَّا أنَّه كان قد خَضَع لدورة تدريبيَّة
في التحقيق مع المعتقلين على أيدي مُحقِّقين مُحترفين.
خلال لحظة واحدة اِسْتطاعت سيرا؛ استرجاع شريط
ذكرياتها في هذا المجال، وبسرعة بديهتها تأكَّدَتْ من ملامِحِ البدايات قبل ذلك
بزمَنٍ، بحديثها مع نفسها.
..*..
واهًا يا قلبيَ المحزون.. واهًا....!!
واهًا يا دُموعيَ المكبوتة.. واهًا..!!
واهًا يا زوجي المغدور.. واهًا..!!
واهًا يا زمان الموت.. واهًا..!!
واهًا يا أيُّها الوقت المُتسرِّب من
حياتي.. واها..!!
واهًا يا أنا.. واهًا..!!
حتَّى اللحظة الأخيرة من الوقت
الضَّائع مفقودة لم أحصل عليها، ولم تُتَحْ لي؛ لأبكي زوجي. في زحمة الموت تجفَّ
الدُّموع، ويتوقَّف العقل عن التَّفكير. عندما تأتي وقفة مع الذَّات بعد اِبْتلاع
الصَّدمة، تكون الأعصاب بَرَدَتْ، وتأتي مرحلة التّفكير والتّفسير باستذكار تفاصيل
التفاصيل، باستغراق واعٍ كما أنَّه عميق. وهذا ممَّا لم يحصل حتَّى لحظتي
الرَّاهنة، مؤكَّدٌ أنَّني سأُرتَهَن لها زمانًا طويلًا لاستيعابها.
نبهان يُعاين بطاقتي الشَّخصيَّة (الهويَّة). نظرات
زوجي الأخيرة عندما أنزلوه مُكبَّلًا، يداه خلف ظهره ووضعوا الطُمَّاشة الجلديَّة
السَّوداء على عينيه، اختفى النّور صار كالأعمى، اقتاده العسكريُّ بخشونة وقساوة، كانت
النهاية عند خُطوَته العاشرة باتّجاه مكان الاحتجاز، بُوغِتْنا جميعًا بزخَّات
رصاص. هُجوم مفاجئ لمسحلَّين؛ أرادوا اقتحام الحاجز، للسَّيْطرة عليه. الصِّراع
تنِّينٌ لا يفتأ يطلق النار على كلِّ ما يُصادفه، لا يهدأ إلَّا إذا أحرق كلَّ شيء
وحطَّمه.
جحيم جهنم انفتح لمدَّة نصف ساعة، ونحن
غارقون في نوبة رعب غير مسبوقة في حياتي، ولا أظنُّ إلَّا أنَّ جميع من كانوا في
الباص هم مثلي، قادتهم الصدفة لهذا المأزق الحقيقيِّ.
ما زالت المشهديَّة ماثلة أمام عينيَّ،
جافَّة لم تُبلِّلها دموعي الغافلة بانشغالها بي. ووجهه المُكفهِّر وقد تجمَّدت
نظراته الأخيرة، يُحرِّكُ عينيْه بلا فائدة، لكنني رأيتُ توسُّلاته القائلة:
-"اُعْذُريني حبيبتي نورما.. لم نُكمل
طريقنا لإنجاب طفل يُكمل مسيرتنا، لم تُكتَب لي الحياة؛ لنكون سويًّا أمام طبيب
النسائيَّة الماهر، وبعدما انتظرنا موعدنا معه لمدَّة شهريْن، بسبب سفر الطَّبيب،
ولطبيعة الازدحام الكثير عليه، فمواعيده بعيدة؛ إنَّما هو القَدَر؛ لنكون مع حفلة
الموت نواجهه سَوِيًّا، فأنتِ من بعدي حُرَّة لا فائدة من انتظاري أبدًا، ها أنا
أسير بخطوتي الأولى عُنوة نحو النَّفق المُظلم، أسيرُ إلى حَتْفي الذي أراهُ
يقينًا أمام عَيْنيَّ، النَّفق يبتلع الدَّاخل إليه ليصبح مفقودًا، وإذا حصل أنْ كُتِبَ
لأحد الخُروج منه فإنَّه مولود من جديد.
كم حَلِمْنا بكلمة: ماما.. بابا. تشقَّقت
جُدران صبرنا لسماعها، وعقدنا الأمل في هذه المرَّة، وهي الأولى بعد أن دَلّونَا
عليه، وهُمْ ممَّن رزقهم الله بأطفال على يديْه، ووصفوه بأنَّه شاطر، ومُتفوِّق،
وله من الشُّهرة على مستوى سُوريَّا كاملة، يجيئونه من أماكن ومحافظات بعيدة".
دمعة حرَّى تُعاندني بقوَّة لتنحدر على
وجهي، أمسحُها لتنزل أخرى، بينما نبهان يقلبُ هُويَّتي على الوجه الآخر، ويقرأ المعلومات
بتمعُّن، كأنَّه ينبُش عن شيء مجهول. نظراته واهتمامه بطريقة عجيبة أثارت اِنْتباهي،
ثمَّ أخرج جهاز هاتفه النَّقال، فَتَح الكاميرا؛ ليُصوِّرها على الوجهيْن.
حركاته لم تصرفني عن استذكار هامٍّ،
جاء في لحظة صعبة، الأفكار تأتي وقتما تشاء من غير المُمكن إيقافها، أو تأخيرها
لوقت آخر:
-قبل خمس سنوات كان زواجنا، وعجزنا من
كَثْرة مُراجعاتنا لأطبَّاء النسائيَّة المُختصِّين بعد سنة من زواجنا، عندما
ابتدأت رحلة البحث عن حُلُم الأمومة المفقود بطفل.
زوجي كان أمله بالله قويًّا، وَعَدَني
بأن يسعى لتحقيق حُلُمنا، ولو باع جميع ما يملك، أو اِسْتَدان الأموال لذلك، كان
كلامه بَلْسَمًا لقلبي، وبحر أمانٍ تَسبَح فيه روحي، وحاجز صدَّ عنِّي كلام
الأقارب المُحيطين المؤذي لمشاعري، على الأخَصِّ حَمَاتي وبناتها أخوات زوجي، بعد
كلِّ لقاء معهم، يتعكَّر مزاجي، وأكره نفسي، ودمعتي لا تجفَّ يومي وليلي، إلى صباح
اليوم الثَّاني.
أذهبُ إلى دوامي بالمدرسة بلا نوم
أبدًا، ملامحي تفضح إخفاء دواخلي المُتعبة حدَّ الإنهاك. زميلاتي لا يهدأ ولا
يقرُّ لهنَّ قرار إلَّا إذا استطعن رسم بسمة على ملامحي.
جميعهن يُدركنَ مأساتي الداخليَّة،
حريصاتٌ كلَّ الحرص على إيذاء مشاعري، إذا أرادت أحداهنَّ الكلام عن أولادها. رغم
يقيني الرَّاسخ أنّها حكمة الله، نداء الأمومة يُنازعني يقيني.
..*..
رفع رأسه نحوي بنظرة غير عاديَّة؛ وَخَزَتْ صدري،
وقال: تفضَّلي سيِّدة نورما
بالجلوس. عينا محمود؛
أضافتا نظراتهما الثَّاقبة المغروسة بوجهي، لتتآلفا بمكر مُركَّز مع نظرات صديقه نبهان النَّافذة.
أدفعُ عُمري فداء لمعرفة ما يدور
بذهنهما تجاهي، لا شكَّ بأنَّ نظراتهما فاضحة، وخلفها تدبيرات كمائن لطريدة جديدة
لهم، الغابة لا شريعة لها، ولا قانون تسير الأمور عليه، الأقوى يأكل الضَّعيف، من
الطبيعيِّ جدًّا أنَّني طريدتهم المُستقبليَّة، ولن يعدموا وسيلة لتجريبها.
لاستنزاف صمودي. وإيصالي لمرحلة الاستسلام بلا قيْد ولا شرط، بلا أدنى مُقاومة،
شُكوكي مَبنيَّة على مدى صُمودي غير المُتيقِّنة بمدى فعاليَّة لفترة طويلة، كلُّ
ما حصل لي مُؤشِّر بإعلان انهيار آخر حصوني، وسيكون السَّقوط المُدوِّي في أتون
الهاوية. لا شيء مُشجِّعٌ على التفكير بغير هذا التوجُّه الذي تتبدَّى ملامحه أمام
عينيَّ. كلُّ المُؤشَّرات تأخذ أفكاري في هذه الاتِّجاه، ليس من باب الإحباط،
والحكم المُسبَق على الأشياء.
وتابع:
-كم ستكون إقامتك هنا في البنسيون؟.
-في الحقيقة لا أعرفُ الآن، مبدئيًّا هذا
أوَّل شهر أكيد أنَّني ملتزمةٌ معكم؛ لأنَّ إمكانيَّاتي محدودة، والمبلغ الذي
أملكه محدود؛ لدفع أجور الإقامة والمصاريف اليوميَّة.
-من جهة المصاري لا تحسبي حسابها، أنتِ
ستكونين واحدة منَّا على أيِّ اعتبار، ولن نتخلَّى عنكِ أبدًا مهما حَصَل، الأهمُّ
عندي راحتكِ أوَّلًا.
-أشكركَ أخي نبهان.
-مصيرُنا مُشترَك، إنْ قصَّرتُ عن نفسي
بشيءٍ، تأكَّدي فَلَن أُقصِّر عنكِ أبدًا بأيِّ شيء.
هَدَأت أنفاسي. كلامه مبدئيًّا أشعَرَني
بارتياح مُؤقَّت، تدفَّق الهواء إلى رِئتيَّ بسلاسة، شَرَح صدري. كخطوةٍ أولى على
طريق الاستقرار، لا بدَّ من التحوُّط والتفحُّص لكلِّ كلمةٍ تُقال. كلام البدايات
ناعمٌ كَفَخٍّ شرس مُغطَّى بحشائش يابسة لخداع الفرائس. لا أثقُ كثيرًا بكلامه،
كلُّ صاحب مصلحةٍ يُسوِّق بضاعته على طريقته، لا شيء ورائي فـ"الانتظار
سيِّدُ الموقف".
لا شيء ممَّا أراهُ هُنا حولي في
الصَّالة الواسعة، لا يمتُّ إلى البنسيونات المعروفة، أو الفنادق غير المُصنّفة
بأيَّة صلة تُذكَر. لا شيء يدلُّ أنَّني في المكان الصَّحيح.
اعتبارًا من طاولة مكتب نبهان، أظنُّ أنَّها
من أحد مكاتب الدَّوائر الحكوميَّة. دهانها الرَّماديُّ كَاحتٌ استحال إلى لَوْن
آخر، مع بعض لطخات لون أسود مرشوش عليها من علبة دهان بخَّاخ سريع الجفاف.
المرآة خلفه. ما زلتُ أرى قَفَى رأسه
ورأس صديقه. أجْزِمُ قاطعة الرَّأي: أنّها كانت في صالون حلاقة رجاليَّة فخم من
أيَّام زمان، إطارها الخشبيُّ القديم المدهون بِلَوْن البَيْج، هو دليلي لأن أمِيلَ
إلى هذا المنحى من التفكير.
أمَّا المُجسَّم الحيوانيّ لا أدري من
أين جاء به..!!. أغلبُ ظنِّي أنَّه كان على باب فيلَّلا فخمة، وفي العادة يكون
المُجسَّم مُكرَّر النُّسخة نفسها على جانبَيْ مدخل الفيلَّلا.
يأخذني الظنُّ: أنّه وجد المُجسَّم الآخر
إمَّا مُحطَّمًا بفعل فاعل، أو أنَّ أحدًا أخذه للبَيْع، وكان في نيَّته العودة
لهذا الثَّاني؛ فسبقه نبهان
إليه. الله يلعن الشَّيطان.. يا إلهي..!! إلى أين أوصلتني ظُنوني، سامحني يا ربِّ،
رغم أنَّ أكثر الظنِّ ليس بإثْمٍ.
الكُرسيُّ الذي جلستُ عليه مُريحٌ مع
الكراسي الأخرى من نفس النَّوع، لكنَّها مختلفة عن الأخرى المقابلة لها قُبالتي،
هذه كنبات جلديَّة من النوع الفاخر المفروشة في مكاتب المُدراء العامِّين أو رؤساء
الأقسام في أحد دوائر الدولة، بينما تلك من القماش الفاخر المُشجَّر، بألوانه
المُتداخلة فيما بين البُنِّي والعسلي. إضافة إلى كراسي دوّارة ذات عجلات
مُتحرِّكة منها الفخم بِسنَّادة الظَّهر العالية، ومنها ما كان تستعمله مكاتب
الرسم الهندسي، وأخرى منها ثابتة مُرتفعة بقوائمها الحديدية المبرومة مثل
المُستخدمة في المطاعم الحديثة.
في الوسط يتركَّز أيضًا طَقمَيْن من
الطَّربيزات منها الزُّجاجيُّ، والخشبيُّ الفخم بلونه البُنيِّ المحروق.
يا للمفارقة العجيبة..!!
أتصوَّر اللَّوحة التي كُتِب عليها
كلمة "بنسيون"،
أبدًا غير معقولة..!! لا أريد أن أدْعي بالكسر على اليد التي كتبتها، حرامٌ والله..
نفسي لا تُطاوعني.. الخطُّ السيِّئ بحد ذاته سبَّب لي ضيقًا، وأنا واقفة في
محاولتي بقراءة اللَّوحة، ولكن كلمة "بنسيون" أثارت مكامن
ذكرياتي العتيقة، خاصَّة عندما سمعتُ بالكلمة لأوَّل، أثناء مشاهدتي لأحد الأفلام
المصريَّة بالأسود والأبيض.
كان هذا قبل مطالعتي لرواية "ميرامار"
لـ"نجيب محفوظ"
بسنوات، أثناء دراستي في معهد إعداد المُعلِّمين. استعرتُها من زميلتي "سمراء" بعدما أنهتها،
وسمراء هي من
حبَّبتني بداية الأمر بمطالعة كتب الرِّوايات على وجه الخُصوص العربيَّة
والمُترجمة.
ومنذ أن انقطعت أخبارها عنِّي قبل عشر
سنوات بعد تخرُّجنا من المعهد، ما رأيتُ وجهها ثانية، لا أدري أين اختفت المخلوقة كأنَّها
فُصُّ ملح وذاب مع أوَّل قطرة ماء لامسته ولو بطريق الخطأ، وبين الحين والآخر، وإذا
صَدَفَ، وأن اِلْتقيتُ بأحد زميلات الدِّراسة، أسأل عنها: بإلحاحٍ ولهفةٍ.
مُتعمِّدَةً الحصول، ولو على خبرٍ طائشٍ، ضاعت لهفتي للقائها هباءً وسُدًى.
هناك أشخاص يزدوان رُسوخًا في حياتنا
رغم أنَّنا نجهل عنهم كلَّ شيء، تأثيرهم حفر مساربه عميقًا في دواخلنا، لا
يغادروننا إلى مجاهل النِّسيان، وإن تباعد الزَّمان بيننا.
مُثولها الدَّائم بخيالي لم أجد
التفسير المنطقيَّ له، إلَّا أنَّ حضورها هذا في أغلب ظنِّي حالة روحيَّة متصَّلة
تجمعنا في نفس الوقت. مع أوَّل صفحة في الكتاب الذي يكون بين يديِّ.
من حُسن حظِّي أنَّني ما زلتُ مُثابرة
على القراءة الجادَّة بِنَهمٍ. أحيانًا كانت تصل الأمور بي حدَّ الشَّراهة،
الموحية بهَوَسٍ اكتئابيٍّ فيما لو تتبَّعتُ حالتي النفسيَّة، ووقتي المصروف في
هذا المجال، بلا مُبالاة وتطرُّف بما يجري حوْلي.
ميرامار كانت أوَّل عمل روائيٍّ أقرأه لنجيب محفوظ، قبل
معرفتي بثلاثيَّته الشَّهيرة: "بين القصرين" و"قصر الشوق"
و"السُّكَريَّة". وقد كانت جُزءًا من المقرَّر الدِّراسيِّ في الفرع
الأدبيِّ للثانويَّة العامَّة، لما فيها من التاريخ في مقاومة الاستعمار الإنكليزي
في مصر، والفترة الملكيَّة، وما بعد الاستقلال وصولًا إلى ثورة يوليو.
بنسيون نبهان البائس قرَّفني الكلمة، حينما
افتكرتُ بنسيون ميرامار، حينما يفتح الباب الرَّئيس؛ يُطالِع الدَّاخل إلى صالة
الاستقبال؛ تمثال العذراء وخلفه مجسَّم زجاجة البارفان الكبيرة، والكنبات الثقيلة
ذات الخشب المحفور بأناقة ظاهرة، والترتيب الدَّقيق لوضع كلِّ غرض في مكانه
الصَّحيح الذي يليق به، وكـأن اليد التي رتَّبت هذه الأشياء درست فنَّ العرض
والأتيكيت في أرقى أكاديميَّات الفنِّ الأوربيِّ الشَّهيرة.
رؤية التُّحَف الدَّالَّة على أُرستقراطيَّة
وثراء أصحاب وزبائن البنسيون، تأخذ بألباب من يراها لأوَّل مرَّة؛ ليقف أمامها
متأمِّلًا بعناية مُتفحِّصة لدقائقها بانبهار ترتسم آثاره على ملامح وجهه.
المكان هنا أخذ على عاتقه عدم التناسق،
شهادة امتياز بالتشويه البصريِّ المُتنافِر، كما يُقال: "من كلِّ قطرٍ أغنية".
شُيوع التنافُر ليكون شأنًا عامًّا هذه الأيَّام، ولا شيء في مساره الصَّحيح
المُعتاد.
فلو قُيِّض لهذه الأغراض الكلام
للتعبير عن نفسها ومشاعرها، لم تزد على حُكمي عليها، ولما تردَّدتُ بوصف هذ
الصّالة بقاعة صفٍّ مدرسيٍّ، بضجيجها الهائل قبل دخول المُعلِّمة؛ ليهدأ الضَّجيج
الهائل، وتُغلَق أفواه التلاميذ جميعًا بفعل خوف يسكنهم على الدَّوام، وكأنَّ ما
كان ليس له سابق وجود هنا، الحال تتبدَّل مع سماع ضربات كعب كُندرة المُعلِّمة
مُجرَّد خروجها من غرفة الإدارة، قادمة إليهم، بعد التَّنبيهات غير المسموعة من
كلام عريف الصفِّ.
..*..
(4)
المسار الثاني
(فايا)
سيكون
ظهور (فايا) بعد نورما
نورما مازالت جالسة قبالة نبهان ومحمود بانتظار الانتهاء للدخول إلى غرفة سيرا التي دعتها للمجيء بعد
الانتهاء. فايا تظهر
للمرة الأولى
............................................................................
فندقنا هذا ليس فيه من مزايا الفنادق إلَّا اسمه،
كلُّ ما فيه يبعث على الكآبة. هذا آخر ما قالته نورما لنفسها. بينما خرجت "فايا"
المُتورِّدة الوجه من غُرفتها، ومازال الوَسَن يستولي على جفنها الناعسيْن، تفرُكُ
عينيْها، تفتحهما على اتِّساعهما. خرجت إلينا من مدخل الشُّقَّة التي دخلت إليها
"سيرا"،
تتمايل من تعب أثر النَّوم لساعات طويلة أو تكاسُلٍ على الأغلب، ما زال شعرها
مُشعَّثًا لم يمسَّه المشط من يومين مظهره موحٍ بذلك بل ربَّما ثلاثة، قميص
النَّوم الأسود يشفُّ عن بياض كالشُّعاع اللَّاصِفِ بانعكاسه من على وجه بُحيرة في
مُسطَّح مائيٍّ.
متوسِّطة الطول، يظهر أنَّها رياضيَّة
الجسم بتناسق جميل، فلا اِنْدلاق لبطن للأمام، ولا عجيزة للخلف، تقاطيعها مُختلفة
تمامًا عن تقاطيع سيرا.
-يُسعد مساكِ فايا. قال نبهان.
- يُسعد مساكَ نبهان بيك.
-سأعرِّفكِ على أطيب إنسانة وقعت عينيَّ
عليها اليوم، سأعرُّفُكَ على نورما ضيفتنا الجديدة لهذا اليوم.
مدَّت فايا يدها لمصافحة نورما التي نهضت
بدورها، ثمَّ مالتْ بصدرها ووجها للأمام لإكمال السَّلام بالتقبيل، بينما محمود يُدخِل عينيه
عُنوة فيما بين خدَّيْهما، اِحْمرَّ وجهه عندما حدجته نورما بنظرة أحسَّ، كأنَّها تقول له:
-"اِجْلس مكانك، ولا تتعدَّى
علينا".
على العُموم فإنَّ هذا الفُندق، أو فَلْنُسمِّه
على رأي نبهان "بنسيون"؛ فهو طابع بيتيِّ، وعلى الأخصِّ شُرفاته
المُغلقة بألواح الخشب، وبطبقات من الكرتون العادي والمقوَّى، ولم يبقَ من النوافذ
الزُجاجيَّة إلَّا العدد القليل منها، أغلبُها تحطَّم بفعل القصف، ومن القذائف،
وارتجاجاتها القويَّة المؤثِّرة، وشظاياها المُتطايرة في جميع الاتِّجاهات.
هذه المناظر لا تُعطي انطباعًا
مُستقِّرًّا بعلاقة المُقيم أو العابر مؤقَّتًا بالمكان، سوى أنَّه مكان الضَّرورة
التي لا غِنى عنها، الإيواء في هذه الأيَّام ليس سهلًا إيجاد مكان آمن على هذا النَّحو.
ولا تتعدَّى علاقة من يُقيم فيه أن
تبقى عابرة، فكأنَّكَ هنا لا لتُقيمَ فيه بشكل دائم، ولا لأنْ تمكُثَ ولو للحظة من
الزَّمن لتلقطَ فيه أنفاسَكَ، ولو عبرتَ فيه فلن تتركَ وراءكَ أثراً أو تحمل معكَ
أثرًا منه.
الحياة هنا مختلفة تمامًا؛ فليس هنا من
ميِّزات إلَّا أنَّه شبيه بمركز إيواء مُؤقَّت حسب الظُّروف السَّائدة،
والمُتغيِّرة باستمرار بلا ثبات، ولا ضمانة من أحد مُطمئنةً، الحياة في مهبِّ
الرِّيح، ما إن تهدأ عاصفة القصف، لتبدأ عاصفة الاشتباكات من غير موعد مُنتَظر من
أيَّة ساعة من ليل أو نهار. حتَّى أنَّ الفندق، مهما كان مجهزاً بكلِّ وسائل
الراحة، مُصمَّم على أساس العبور. دائمًا ما ينطوي على شيء يُذكِّركَ بالمغادرة،
حتَّى وأنتَ تحِلُّ فيه.
ولمَّا سُئل الفيلسوف "جان جاك روسو":
-(ما هو الوطن؟. فأجاب: الوطن هو
المكان الذي لا يبلغ فيه مواطِنٌ من الثراء ما يجعله قادرًا على شراء مُواطِنٍ
آخر، ولا يبلغُ فيه مُواطِنٌ من الفقر ما يجعله مُضطرًّا لأن يبيع نفسه أو كرامته).
ومانحنُ هُنا إلَّا في هذا المكان
الحقير؟، فكيف لي أن أُسمِّيه وطنًا، فضلًا إذا كان يحقُّ لي ذلك..!!
لحظة عصف ذهنيٍّ في رأس نورما، بعد انتهائها
من السَّلام على فايا،
التي تابعت طريقها إلى الحمَّام. مازال نبهان يعملُ على إجراءاته قبل أن يُرجِع لها
هُويَّتها.
..*..
نورما وحديث
النفس المثقلة بهمومها
...............................................................
جاء صوت سيرا عندما فتحت باب غرفتها، لتنادي على نورما:
-حبيبتي. عندما تنتهي. أنا بانتظاركِ.
هزَّت نورما برأسها المُثقَل بهمومه علامة
الإيجاب، ظنَّت أنَّ سيرا
سمعتها، أيقنتْ أنَّها ستحلُّ ضيفةً على سيرا في غُرفتها هذا المساء، التي لم تتأكَّد من
موافقة نورما
على دعوتها لها للمجيء، وكيف لها التأكُّد من موافقتها، بينما انخرطت نورما في حوار
داخليِّ. نسيت بأنَّ لسانها بقي جامدًا خلف أسنانها المُطبقة عليه، وما سمحت له
بالحركة ولا بكلمة واحدة، وقالت لنفسها:
-الوطن هو رغيف الخبزُ، والسَّقفُ مُظلَّة
لنا عن الشَّمس والمطر، والباب الذي يُغلق دونَنا، والشُّعور بالانتماء دفء وإحساس
بالكرامة.. وهل من كرامة لإنسان بقِيَت على هذه الأرض؟.
أتمنَّى الإحساس بغير هذا الشُّعور
المُحبِط، حتَّى ولو جُزئيًّا على الأقلِّ؛ لأستعيدَ ذاتي من ضياع لم أتصوَّر للآن
ما الذي حصل..!! ولا كيف كان ذلك..!! هوْل الصَّدمة أنساني حتَّى نفسي.
الوطن وإن تقزَّم بحجم مكان يتمدَّد فيه
الإنسان للنَّوم على فرشة إسفنج عتيقة، أو سرير مُتهالِكٍ من بقايا أسِرَّة
المعسكرات المنهوبة ذات اللَّون الأخضر العتيق، أو على قطعة كرتون مُهملة، هو في
خير.
الآن أنا في خيرٍ أنِّي وجدتُ دفء
المكان بِمَن فيه من النُّزلاء. بنفسي لو أستطيعُ النوم بعمقٍ ملء جفنيَّ؛ لتعويض
ما فاتني في الأيَّام الماضية، ولا أتذكَّر كيف مرََََّت عليََّ.
من بداية البدايات إلى نهاية
النهايات.. الاحتراق أشعل جدائل العمر وسحائب الوقت، واِسْتَهلَكَ الأعصاب
والتفكير، والبداية اختيار، والاختيار حقٌّ إنسانيٌّ. لن أكذب على نفسي:
-لا خيار لي باتِّخاذ أيِّ قرار، وهل
من قرار بلا نتائج ولا تَبِعات؟.
..*..
نورما جالسة
قبالة نبهان، وهي تعاين المشاهد المتناقضة
...............................................................................
نورما وهي جالسة تنتظر، تتأمَّل المتناقضات من خلال
مُعاينتها لأغراض صالة الاسْتقبال (الريسبشن)؛ فتقول لنفسها:
-من لي بذاكرة المرآة الكبيرة، أتشوَّف
للاطِّلاع على الوجوه والأجسام المُختزنة
فيها بتراكماتها على مدار سنوات: رؤوسٌ مختلفة الأشكال والأحجام، وألوان الشعر، والتسريحات، والوجوه الضَّاحكة
والمُكتئِبَة. وهناك أفكار مُختَزنة مُعشعِشَة في كلِّ رأسٍ مرَّ بها.
ومن لي باسترجاع بما رأَتْ عَيْنا التِّمثال
الجِبْسيِّ المُتجمِّد بثباتٍ دائمٍ، مُؤكَّد أنَّه لم يكُن على باب إحدى فِلَلِ
المسؤولين الكبار؛ لأنَّها ما زالت تتمتَّع بحراسة جيِّدة للآن.
من لي بذاكرة طاولة المكتب، وفي أيِّ
دائرة من دوائر الدَّولة كانت، لا شكَّ أنَّها شهدت شهادة حقٍّ على فساد المُوظَّف
أو استقامته.
ومن لي بذاكرة الكَرَاسي والكَنَبات..
وماذا لو
تجرَّأتُ باستنطاق المكان هذا..
والعمارة بطوابقها الثَّلاثة، أين هم أهلها وأصحابها وساكنيها قبل ذلك؟.
ومن لي بذاكرة هذا الحيِّ على أطراف
العاصمة، الذي كان يومًا ما مضرب المثل في الحركة التجاريَّة، شارع لوبية الجديد
على الخارطة التجاريَّة العتيدة لدمشق نسبيًّا، نافس سوق الحميديَّة ومحلَّات شارع
الحمرا في الصالحيَّة. أصبح مقصدًا للتسوُّق لغنى الموديلات في معارضه الأنيقة،
ولأسعارها الأرخص في مثيلاتها في مناطق أخرى أكثر اِزْدحامًا.
..*..
نورما وسيرا في الغرفة تتهيأان للنوم، نورما طلبت حبة وجع راس من سيرا
..............................................................................
اللَّيل يستوي فيه من يلبِسُ نظَّارته ليرى، ومن يرى
ولا يحتاجها أساسًا، ومع الكفيف عند انطفاء الكهرباء، التي أصبحت عادة شبه دائمةٍ
في جميع المدُن السُّوريَّة. التَّقنين بساعاته الطويلة تُغطي ثُلُثَيْ النَّهار،
وفي أحيان كثيرة ثلاثة أرباع اليوم، ومرَّات لا تأتي أبدًا لأَّيام، حسب مزاجهم.
السَّاعة الثّامنة مساء، سيرا تضحك بلا
مُبرِّرٍ بصوتٍ عالٍ، كأنَّها تريد تشجيع نورما على الانفتاح،
لمعرفة قصَّتها بحذافيرها، ولو اِسْتغرَق ذلك فترة طويلة، وتقول:
-صدِّقيني يا نورما أنَّنا اعتدنا
على الانقطاع شبه الدَّائم للكهرباء. ولم نعُد نتأفَّف مثلما كُنا مع بداية
التقنين. تأقلمنا بشكل معقول، شوفي مثلًا قبل عشر سنوات، عندما قطعوا الكهرباء
لفترة أسبوعين دفعة واحدة. تذكُرين هذا.. أليس كذلك؟، وقتها كانت الموبايلات قليلة
مقارنة مع الوقت الحالي بانتشارها على نطاقاتٍ واسعة، أذكُر أنَّ كثيرًا مِنْ
حَمَلَتِها فوجئوا عندما انتهى الشَّحن؛ أصبحت آلات عقيمة لا فائدة منها، مثل أيِّ
شيء تافهٍ، احتاروا بما سيفعلون بها، لا أدري كيف فطنوا لكهرباء المستشفى الحكوميِّ
التي لا تنقطع أبدًا..!!؟.
- تقريبًا رأيت ذلك عندنا، ومثلما ذكرتِ
بالضَبط أثناء زيارتنا لجارتنا، وهي بنفس الوقت ابنة عمَّة المرحوم زوْجي، التي
كانت قد أجرت عمليَّة جراحيَّة في مستشفى "الكِسْوَة".
كانوا يجتمعون عند أفياش (مقابس)
الكهرباء المنتشرة في أماكن مُتفرِّقة من ممَّرات المبنى الواسع، وتتدلَّى أسلاك
شواحن الموبايلات، وينتظرون بفارغ الصَّبر لاكتمال شحنها. تتوافق نورما بقولها مع ما
سمعت، وكأنَّها تُكمِلُ قصَّة بدأتها سيرا.
- تخيَّلي أنّ الثلَّاجات صارت أيضًا بلا فائدة منها، يا إلهي..!! كيف
خسرنا كلَّ أكياس المُونة المُجمَّدة في الفريزرات؛ فقد كنَّا دفعنا الشيء
الفُلانيِّ من أموال اقتطعناها من حاجاتنا الأساسيَّة؛ فحاولنا الحفاظ عليها. عدَّةُ
مرَّات ذاب عنها الثَّلج الجامد، إلى أن اِهْتدت أمِّي بتوزيع الكميَّات الزَّائدة
على جيراننا وبعض أقاربنا، لمَّا يَئِست من الحِفاظ عليها بالشَّكل المطلوب الذي
ترغَبَه، للاِستفادة من الموادِّ المحفوظة حتَّى لا تفسُد، ونخسرها، لكنَّ قرار
القسريِّ بالتخلِّي عنها بصراحة جاء في مكانه، حينها كان النَّاس يبحثون عن الموادِّ
الغذائيَّة في المحلَّات التجاريَّة، وطارت أسعارها في العلالي، ولم يكُن بمقدور
الكثير شرائها أو الحُصول عليها، خاصَّة وأنَّ أصحاب الرَّواتب من الموظَّفين
والمتقاعدين، يقبضون أيديهم ولا يصرفون إلَّا لما هو ضروريٌ ولا يُستغنى عنه.
صدقيني يا نورما ما زال قلبي محروقًا على تعبنا في توضيب هذه الموادِّ، والوقت
الثَّمين الذي استهلكَتهُ بتنقيتها، وتوفير الشُروط اللازمة لحفظها.
- كما يُقال: "لُقمة العيش مُرَّة،
ومُغمَّسة بالتعب"، وكأنَّ ما تتحدَّثين عنه حصل معنا بالضَّبط مثله،
كأنَّنا أصبحنا نُسخًا عن بعضنا، بلا فروقات تُذكَر.
كلام كثير يستجرُّ بعضه بعضًا بما
يُشبه تداعي الأفكار، انتبهت "سيرا" لعينيّ المُسبَلَتيْن أجفانهما كأنَّها في إغفاءة
إجباريَّة، توقَّفت في حديثها لـ"نورما" المُرهقة بشكلٍ غير طبيعيِّ، أشفقت
عليها فسكتت عن المزيد من الكلام.
انتفضت نورما؛ كأنَّما ماسٌّ كهربائي أصابها، واِسْتوَت
جالسة في مكانها، راحت تعتذر:
-لا تُؤاخذيني.. من أجل الله، حدث ذلك
على غير إرادة منَّي غفوْتُ، داهمني الآن وجعٌ في رأسي لا يُطاق، إحساسي بأنَّه
سينفَلِقُ نصفيْن. بالله عليك يا سيرا لو عندكِ حبَّة (باندول أو أسبرين)، أو أيِّ شيء آخر
مُتوفِّر حاليًّا.
ضحكت في سرِّها على الفرصة الذهبيَّة
التي جاءتها على طبق من ذهب من أوَّل ساعة في أوَّل جلسة في أوَّل لقاء بينهما، من
فَوْرها تناولت شنطتها، وأخرجت منها سَحْبَة قِصْدير فِضِيَّة اللَّون، عليها
كتابة بلون أزرق من الخلف عير مفهومة، تتشابه مع مثيلاتها المحتوية على حُبوب الدَّواء،
لا يُمكَن الشكُّ فيها أن تكون غير المُستحضرات الطبيَّة المُسكِّنَةِ المُرخَّصة
على الأقلِّ، ولا علاقة لها بتسكين ألم الرأس، بل بتخدير الأعصاب ومراكز الإحساس
في الجسم.
- تفضَّلي حبيبتي هذا القُرص سيُريحكِ
كثيرًا، هذا الدَّواء تهريب من لبنان وغالي الثَّمن، ولا يُباع في الصَّيدليَّات،
أوصي عليه الأصدقاء الذين يسافرون إلى بيروت، وأنت تعرفي أنَّ الدواء الأجنبيِّ
أفضل من المحلِّي. وهذه قنينة الماء تناوليها بجانب السَّرير. نسيتُ تحذيركِ من
بلعها إلَّا بعد تناول الطَّعام، الدواء سيِّئ على المعدة الفارغة بضَرَرِه
الكبير. إذا كنتِ ترغبين بالذَّهاب إلى الحمَّام قبل النَّوْم، تعاليْ لأعُرِّفكِ
على المكان ربَّما تحاجينه إذا قُمتِ أثناء نومي.
- بكلِّ تأكيد أنا بحاجة لدخول
الحمَّام، للضرورة القُصوى لرغبتي المفاجئة لقضاء حاجتي.
- اِذْهبي أنتِ، حتَّى أكونُ قد اِسْتخرجتُ
لكِ بيجامة للنَّوم من خزانة ملابسي، بإمكانك اِعْتبارها خزانَتكِ، ولا حَرَجَ
عليكِ في اِسْتخدام أيِّ غَرَض تحتاجينه من ملابسي وأغراضي، معاكِ إذنٌ مفتوحٌ
منِّي بلا قيْد ولا شرط، إن كنتُ هنا أو خارج البنسيون. أوَّلًا يتوجَّب تعريفَكِ
بتفاصيل المكان قبل كلِّ شيء. هيَّا اِتْبَعيني، وسأرجعُ لأهيِِّئ لكِ البيجامة.
- أشكُركِ على كلِّ ما تعملينه من
أجلي، ولا أدري كيف سأردُّ لكِ الجميل بمثله أو أكثر إن اِسْتطعتُ.
- لا شُكر على واجب خاصَّة بين
الأخوات، وأنتِ أختٌ لي منذ لحظة اللِّقاء الأوَّل قبل ساعات قليلة، عند بوَّابة
العمارة.
قبل خُروجها أشعلت تطبيق النُّور فأضاء
المكان بقوَّة، خيال سيرا
انعكس بنسخة أخرى تُحاكي تفاصيل جسمها على الحائط المقابل لهما، غطَّى قسمًا لا
بأس به من واجهة الجدار المقابلة لهما، لأنَّها تمشي بخطوات دليل إلى الحمَّام
تتقدَّم صديقتها الجاهلة لتفاصيل المكان.
نورما تسير بخطوات واهنةٍ. قدماها يَحْتكَّان
ببلاط الأرض بقوَّة، كأنّها تجرُّهُما عُنْوَةً. الصَّوتُ الخفيضُ في المكان
الصَّامت كالضَّجيج الهائل يصُمُّ الآذان.
غير أنَّ سيرا لم تَأْبَه لذلك، ولم تستغرب من
صديقتها هذا التصرُّف الذي لا يليق بها، ربَّما تُزعج المُقيمين بالجوار في الغرف
الأخرى. كانت تتقدَّم أمام نورما،
وظلُّها يتضخَّم بِتَعَمْلُقٍ على الجدار، لم تنتبه، وإلّا لقالت شيئًا عن شكلها
الغريب، لا يُمكن لها تخيُّل شكلها المُخيف.
-على كلِّ حالٍ يبدو أنَّها ابنة حلال،
يبدو أنَّها طيِّبة. نورما قالت، وراحت تتفكَّر بأمر سيرا التي عادت للغرفة؛ عندما
وصلت لزاوية أشارت لها بالانعطاف بِممرٍّ بعرض متر يؤدِّي إلى الحمَّام.
..*..
نورما ترجع من
الحمام، سيرا جهزت السندويشات الفلافل
..............................................................................
-زمن الحرب خارج على ثوابت الحياة المُستقرَّة؛
بامتياز يتوهَّج بلهيبٍ لِحَرْق القلوب والأفئدة. الفَقْد بلا حساب مرَّة بعد
مرَّة يتكرَّر، نتائجه مجنونة فوق العادة لا يُمكن توقُّعها أبدًا. نورما تتحدَّثُ إلى سيرا بتلقائيَّة بلا
مُقدِّمات مُبرَّرة للبدء بهذه العبارة، فور عودتها من قضاء حاجتها. انتبهت لنفسها
لتجدَ مُبرِّرًا لكلامها بلا تفكير أو كلام سابق له.
لم تُعلِّق سيرا ما سمعت. بينما كانت مشغولة
باستخراج كيس صغير من حقيبة كتفها المُلقاة على سريرها منذ دخولها، ولكنَّها
العادة التي جرَت عليها حين عودتها للبنسيون أو هُناك في بيت العائلة في القامشلي،
فور دخولها لغُرفتها ترمي بالحقيبة على السَّرير بتلقائيَّة.
تابعت نورما:
-أقدارنا تختارنا إلى رحابها، مهما اجتهدَ أحدنا
بتدبير أمرٍ، يرجو منفعته أو ليدفع عن نفسه ضررًا منه، فلا يستطيع فعل شيء حِيالَ
ذلك إلَّا بمشيئة الله.
ولا كلمة صدرت من سيرا للتعليق لا
سلبًا ولا إيجابًا، كأنَّها لم تسمع صديقتها ما تقول.
-بلا إرادة منِّي قادتني قدماي إلى هذا
المكان، وها أنا أجدُكِ الحضن الدَّافئ الذي طمأنني إلى أنَّ الأمور بخير.
-ها نورما.. هيَّا اُتْرُكي كلَّ ما في
يدك وتعالي، خُذي سندويشات الفلافل أحضرتهم معي من السُّوق، معظم الأيَّام أشتري
قطعتين، كان شعوري اليوم مُختلفًا، أحسستُ بفراغ هائل في بطني كأنَّما لك يدخله
طعامًا من ثلاثة أيَّام؛ فطلبتُ أربعًا، خوف الجوع مُريع؛ دافعٌ للهلع والأكل
بِنَهَمٍ.
-والله يا سيرا أنا على خِلافكِ، رغم
أنَّني من يوم أمس لم أذُق طعم الأكل، لوكنتُ صائمة لما اختلف الأمر كثيرًا، سوى
جرعات من الماء أبقت على رطوبة جسمي، أحسستُ برائحة لم أعهدها تنطلق من فمي
للمرَّة الأولى، قرفٌ من ذاتي، لكن لم باليد حيلة، ولم أتوقَّع أنَّ لديْك شيئًا
آكله، أمَّا وقد سمعتُ حديثَكِ؛ فقد خَطَر لي الاعتذار عن مشاركتكِ طعامكِ.
-لا والله يا نورما، لا تأخُذي كلامي
على غير ما أقصد، لا والله ثانية، صدِّقيني قصدي أن أقول لكِ: (ما في حدا بِيُوكِل
نصيب الثَّاني).
-آه.. إذا هيْك قصدكِ غير ما ظننتُ.
سامحيني على ما فهمتُ.
سيرا تتأمَّل خيالات نورما المُرتسمة على
الجدار الذي خلفها، لأنَّ الشمعة المضاءة على طاولة الطربيزة أمامهما، رأتها
شَبَحًا أسودًا يستحوذ على أكثر مساحة الجدار، بينما وجهها لم تبدُ منه ملامحها
المليئة بالحزن والبُؤس، ولا بالتعب والإرهاق، بل ظهر من خلال حركة قدميْها حينما
قامت للحمَّام تجرُّهما على بلاط الأرض باحتكاك مثير للاشمئزاز.
.......................
*سيرا
تستمع وسيجري حديث بينهما
-بالطبع
سيرا، كانت قد جلبت معها سندويتشات فلافل طعام للعشاء، قامت بقسمتها مع صديقتها
الجديدة نورما. لأنه لا يوجد طعام، حيث لا محلات ولا مطاعم.
..*..
صباح اليوم الثاني بعد
استيقاظهما، قبيل الظهر ستأتي فايا للسلام والتعرف على نورما، ومن فترة أيضًا لم
تجلس مع سيرا، لتشكي لها همومها المتوالدة على اعتبار أنها أكبر منها سنًّا
..............................................................................
قصة فايا:
*على وجه الحقيقة.. ولا أدري لماذا لم
يخطر ببال والدي العودة إلى البيت بعد خروجه الصباحيِّ مع بداية دوامه قبل فترة
تقاعده عند بلوغه السِتِّين. منذ وعيتُ على هذه الدُّنيا لا أذكُر لم يطرُق الباب
بتاتًا، ولا لمرّة واحد ولو عن طريق الخطأ.
تمنَّيْتُ ذلك منه مرارًا، حتَّى حينما
طالبته مرّات عديدة، لكنَّ ذلك لم يكُن ليحدُث أبدًا.. أبدًا..!!
*بعد التقاعد استمرَّ على هذه الحال.
*كنتُ ابنته البكر.
*وعيتُ وجه ذلك الرَّجُل الغريب، الذي
كان يأتي بيتنا بعد خروج والدي، وكأنَّه
ينتظر عند زاوية الزُّقاق المؤدِّي إلى بيتنا، ما إن يلوذ والدي عند أوَّل انعطاف
يغيب في زحمة الشّارع الرَّئيس بالانتظار لمجيء الباص الذي يُقلَّه إلى دائرته
الحكوميَّة.
*سنوات عديدة وأنا أراه يزور والدتي في
معظم أيام الأسبوع، كان وجوده شبه دائم في بيتنا؛ هو البديل لوجود أبي.
*من الصعب على أبي الفهم.. مرَّات عدة كلَّمته
فيما بيني وبينه بشكلٍ سريٍّ عمّا يحدث في غيابه كلَّ يوم، يصدمني سلوك والدي
اللامبالي تجاه قضيَّة مهم في حياة أسرتنا.
*كنتُ أسمع ضحكات أمِّي في غرفتها خلف
الباب المُغلق بإحكام من الدَّاخل..
* في أحد الأيَّام.. تكرار الأمر
اليوميٍّ وبدافع الفُضول، انفصلتُ عن ألعابي البسيطة وتركتها، كنتُ وقتها في
العاشرة من عمري.. ولا أدري ما الذي قادني للنظر من فتحة قفل الباب.. دافع الفضول
الصبياني لاستكشاف أيِّ شيء، حتَّى وإن كان خارج دائرة الاهتمام الخاص، الفتحة
جاءت بارتفاعها على مقاسي، لم أضطرّ لأنحني أو أقف على رؤوس أصابع قدميَّ، كأنَّه
مُفصَّلٌ لمثل هذا اليوم المُفاجئ، يا إلهي..!! يا لهوْل ما رأيتُ، تسمَّرتُ
مكاني. انطبعت المشاهد في مُخيَّلتي، صورة أمي وهي عارية واقفة أمامه. تخلخلت
نفسيَّتي، حاولتُ نسيان ما رأيتُ، الصور تتالى بمشاهدها لم أنم طوال اللَّيل،
بانتظار الصَّباح أن يأتي وذهاب والدي، أنتظر بفارغ الصَّبر أن يقرع الرجل جرس
الباب، بلا تفكير أو وعي على خلاف المرَّات السّابقة اندفعت بلا تلكُّؤ لفتح الباب
على آخره ليدخل بلا استئذان، ولم ينتبه لوجودي، دخل المطبخ رائحة القهوة جذبته إلى
هناك، طبع قبلة على رقبة والدتي، أحسست بضحكتها تصطدم بقفا باب الدار عندما
أغلقته.
ما إن رأت اهتمامي بهما هذا الصباح،
حتَّى صرخت بوجهي:
-فايا هيَّا اذهبي إلى غرفتكم وأغلقي الباب،
والعبي بهدوء، لا أريد سماع أيَّ صوت يأتيني منكم.
-حاضر يا أمِّي. تحرَّك لِساني بصوت
عالٍ لتسمع ردِّي على كلامها، لكنِّي مُتحرِّقة كنتُ لمتابعة ما شاهدتُ بالأمس،
بعد انتهائهم من شرب فنجان قهوتهم، قامت أمّشي لتنظيف أسنانها بالفرشاة والمعجون،
أظنُّ أنَّها أرادت إزالة رائحة الدُّخان من فمها، واستبداله برائحة معجون
(السيجنال) النعناعيَّة الزَّاكية.
* شغفي القويِّ بالمتابعة مرّات عديدة،
كأنِّي أدمنتُ، اكتشفت مناطق الإثارة في جسمي، فبدأت بتحسُّسها على مدار السّاعة،
ذات مرَّة لاحظتني أمِّي من الشُبَّاك المُطلُّ على غرفتنا أثناء استغراقي،
عاقبتني بشدَّة، ضربتني بالحزام الجلديِّ على أنحاء متفرقة من جسدي،
آلمتني.. أوجعتني..
أيقظت حقدي عليها..
كلَّمتُ والدي بعدما رآني منهارة في
ذلك اليوم، بعد جهد جهيد، كنتُ رافضة الكلام بتاتًا، لكنَّه لا يستطيع الصبر على
أن يراني غير راضية.
تهديد أمِّي ما زال صدى صوتها الأجشِّ
يترَّدد بالوعيد بالعقوبة الأقسى إن عُدتُ لهذا الأمر.
ما الذي سأقوله لأبي...!!
هل أحكي له الحقيقة وأعترف.. باقترافي
للخطوط الحمراء في مثل سنِّي؟.
لا.. لا يمكن ذلك.
لجأت للكذب.. على مسمع من أمِّي أثناء
إعدادها لطعام الغداء، الماما عاقبتني لأنّني لم أنفذ بعض الأعمال التي طلبتها
مني، ووقع من يدي صينيَّة فناجين القهوة واندلقت على طرف سجادة غرفة الضيوف.
-بسيطة يا فايا، سأكلِّم الماما
وأرجوها بعدم معاقبتك، فيما لو حدث ذلك
ثانية، فلتحترق تلك السِّجَّادة العتيقة، سأشتري واحدة جديدة غيرها، من سنوات وأنا
أخطِّط، هذا الشَّهر صرفوا لي راتبي مع ما يُعادله من المِنحة السَنويَّة
الموعودين بها منذ بداية العام.
أبي مسكين.. يُصدِّق كلَّ ما تقوله
أمِّي بلا نقاش أو تردُّد، وها هو يُصدَّقني بكلِّ كلمة قلتها له.
*كبرتُ وكبرتُ المشاهد معي. استعادتها
ليس بالشيء الهيِّن.. الوجه القبيح للرجل، ورائحة فمه المحشوَّة بدخان السجائر،
وأسنانه المُصفرَّة، لم أكن أعلم لهذه السّاعة لماذا كانت والدتي تغسل يديها وفمها
بالماء والصابون ، وكأنّها لا تطمئنّ إلَّا باستخدام فرشاة الأسنان بعد أن تضيف على
سطحها معجون (السِّيجنال) بخطوطه الحمراء المُغرية لي بتقليدها، اكتسبت منها عادة
تنظيف الأسنان بشكل دائم بعد كلِّ طعام أو إذا تناولتُ أي شيء، وما زلتُ محافظة
عليها للآن.
..*..
المسار الرابع
ظهور (لار) من حمص
-لارا: هي البنت البكر في العائلة.
-الأب موظَّف في
وظيفة محترمة
-الأمُّ (فكرية) جميلة جدا، ومن عائلة
أرستقراطية.
-الأم متسلطة
بشخصيتها القوية على زوجها الذي رضخ لكل طلباتها حتى استطاعت السيطرة عليها. ومنذ
البداية لإرضائها، أصبحت الآمرة والناهية، حتى فرضة شروطها ونزواتها على الأسرة
التي سارت وفق رؤيتها.
-الأولاد صاروا
يلقبون باسم أمهم أولاد (فكريَّة).
-فكرية كانت
تجبر زوجها على القيام بأعمال البيت من كنس وتنظيف وجلي الصّحون.
-البنت (لارا)
وعت هذه الصورة منذ صغرها, لتكتشف ضعف شخصية الأب أمام الأم. الأمر الذي أدى إلى
تفكك الأسرة.
بعد أن جردت زوجها
أيضًا ملكيته للبيت الذي يسكنونه، وهي الذي ورثه عن أبيه جد (لارا).
*************
((ستحكي لارا ذلك على سبيل التحسُّر، في جلسة ستجمعها
مع فايا وسيرا ونورما\\ وهو ما سيكون سيرة كلَّ واحدة منهن))
أوَّل ضِحكة
ضجَّت بها جَنَباتُ بيتنا بِجُنون؛ كسرت حواجز الرّتابة القائمة الصَّامدة بصمتها
منذ سنوات.. هي ضحكتي. لا شكَّ أنَّ فرحتهم كانت لا توصَف، مقولة أبي الخالدة التي
نضحت على لسانه حُبًّا على وقع نُضوجي، حتَّى غدوْتُ صبيَّة في ربيعها ما بعد
العاشر.
فقدَتِ المقولة
بريقها على لسان أبي المُلجَم بلجام الخوْف من أمِّي المُتسلِّطة عليه. بدوري
فقدتُ صورة أبي ذاكَ الرَّجُل الممتلىء حُبًّا لابنته وبيْته، بَهُتَ بريق صورته
في عينيَّ، وأنا أعي ضعف شخصيَّته شيئًا فشيئًا.. أيُّها المسكين يا أبي. ما الذي
دهاكَ ومنعكَ من أن تقولَ كلمة: "لا" في وجه أمِّي، ولو لمرَّة
واحدة..!! بينما ردَّكَ المُنكسِر الدَّائم: "حاضر".
حاضرٌ بلا
تردُّدٍ.. أنتَ حاضِرٌ بشحمكَ ولحمكَ في البيت أمامنا. غائبٌ تمامًا أو مُغيَّبٌ
بإرادتكَ، أو بضعفكَ الذي أقنع أمِّي بوجه غير قابلٍ للنِّقاش؛ بإلقاء الأوامر
عليكَ. البيْتُ كنتُ لا أراه إلَّا على أنَّه شبيه بالمخفر، وهي تُمارس دور رئيس
المخفر؛ يُصدِر أوامره لتُطاع وتُنفَّذ بحذافيرها.
مسكينٌ أنتَ يا
أبي..!!
كنتُ أظنُّكَ
سعيدًا، بل في غاية سعادتكَ القُصوى صاحبني هذا الاتِّجاه في التَّفكير إلى فترة ما قبل سنوات قليلة من الآن. أرى
ابتسامتكَ.. ولم يخالطني شكٌّ بأنَّها ما كانت إلَّا غلافًا لأحزانكَ المكتومة..
المكبوتة بقهر دواخلكَ.
حاولتَ وحاولتً
أن تكونَ سعيدًا..!! وأن تُسعِد مَنْ هُم حوْلكَ وفي دائرة محيطكَ.
للأسف يا أبي؛
أيقنتُ أنَّهم يستغلُّون طيبتكَ.. يا طيِّبَ القلب.
..*..
**((رؤوس أقلام لأفكار))**
للمعالجة
ومن
التشرد على ارصفة المنفى في وجوه المدن الغريبة التي يغسل الضباب وجهها بينما
الوطن بعيد . لم يعد بينك وبين الابيض ال الغربة، كلاكما يحدق بوجه صاحبه من مووی داخلك كل يوم امرأة ويستيقظ في دمك كل طفل
. يوم تعرفين انه زمن الحرب
الزمن
هو الزمن والحرب هي الحرب يردك الليل الى الواقع المر ، فتحاولين الانتحار بالركض
على ارصفة الوحدة ، تسمعين صوتك يغادر حنجرتك الى الفضاء فيرتد اليك عقيما . لقد
توقف الحبر عن ان يجذبك ، والصفحات البيضاء لم يعد لها البريق الذي كان يسح ويخدر
في داخلك الرغبة بالبوح
الى
ايـن ؟ ان المدينة التي تعودت المرور بها ، وانت تحملين في رأسك الحلم الكبير
بالعودة ، قد أصبحت سجنا كبيرا ، وأشجار الزيزفون البرية تنغرز في صدر فجيعتك ثم
تختفي تحت وطأة الريح
لماذا
لا يقف الليل عن الثرثرة ؟
لماذا
لا ينتحر في ظلمته ويريحك ؟
منذ
متى وأنت تعشقين أرصفة المقاهي.. وجوه الغرباء.. الدم الذي يغسل أرصفة المنفى
الخيبة التي تردك الى اعماقك بقهر هناك تحاولين أن تعودي امرأة
اعرف
أنه زمن الحرب ولكنني أعرف أنه زمن الولادة أيضا ، زمن الشجر الذي التقيته في
البلاد البحرية الحارة ، الشجر الذي يلقي بأغصانه الى جسده فتموت في جسده الوحدة ،
ثم تموت الاغصان عندما تلتقي بأمها
قادمة
من بلاد كل شيء فيها يولد وكل شيء فيها يموت في ولادته ، كل شيء يعيش في موته .
قادمة من أرض تمطر السماء ترابها مئة يوم وتمتص شمس السماء مياه الارض في المئات
الاخرى
من
هناك حيث ما تزال الحرب تزهر على منابع الانهـار اعرف انه زمن الحرب. لكنني اعرف
انه زمن الهزائم والخيبات والتنازلات زمن الاسئلة التي تمزق حنجرتي وترتد الى
العمـق دون اجابات انه زمن الخوف والانتظار
-نورما ستحكي لسيرا قصة سفرها من بلدتها على أطراف دمشق الجنوبية
من القرى المحاورة لمدينة الكسوة.
..*..
.
وقال الشاعر عمر الفرّا
الوطن يبني رقم واحد ... وبعد ميّة (100) يجي
العالم
فأين نحن منه وأين هو منّا هذا الوطن ؟
***
معنى اسم سيرا في اللغة (الخيوط الذهبية) وغزلها كشبكة عنكبوت حول ضحاياها
.. اجتماع الاسم بخيوط وخاصة إذا ذهبية. الخيوط الذهبية، جذابة ولافة للأنظار وتحب
الحياة وراقية.
سيرا:
الفتنة .. فتنتها ستقود محمود إلى ساحتها، وستستغله لمصالحها وتحطيم نبهان.
سيرا أصبحت سر بل أسرارًا. إذا
انقلبت
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق