(6)
الرسالة الثانية من فاضل السلمان (السّويد)
** خلف الباب أبواب..
(مقالة فاضل على
صفحته الجديدة)
"انفتح الباب
الكبير على بوابات وهميّة لا تُعدّ ولا تُحصى، لطوابير الخِيَم المُصطَّفة بانتظام
بخطوط مستقيمة طولًا وعرضًا، وخلف الأبواب ينكشف المستور، وتُنثَر العطور، وتُقام
المذابح، وتُبنى المسالخ، ويُهان المشايخ.
وخلف
الأبواب تُكتَم الأسرار، وتُنتهَك الحُرمات، وتُجتَرَع الغُصّات، وتُسكبُ الدّموع
على وَقْع العذابات.
المُتضايق
من شيء ما؛ يُطلّ من النّافذة، والخائف يُغلق الباب ويجلس خلفه. ومن
قائل يقول: (الباب إلّلي يجي منه الرّيح سِدّه، واِسْتريح).
خلف
الأبواب تنحني القامات.. تتمدّد صحارى العَثَرات.. تستطيل الإحباطات في النّفوس
الخائفات اليائسات.
خلف
الأبواب تُسْدَل الرّحمات.. تتنزّل المَغْفِرات.. تطمئنّ القلوب المؤمنة في كَنَف
خالقها، هنا تُسكَب العبرات لتطهير القلوب، وتنقية الدُّروب من أشواك الذّنوب.
وخلف
الأبواب يَحتجِبُ المتآمرون، والمنافقون، والسَرّاقون، جميعهم ذوي الأيادي
السّوداء المُستحوذة على البَيَاض؛ فلوّثته بِدانستها" .
الكلام هنا (فطين)
تنازعتني الأفكار شرقًا وغربًا، وطافت بي
مُحيطَ الكُرةِ الأرضيَّة مرّات ومرّات؛ قبل انتهائي من قراءة مقالة صديقي (فاضل السلمان) بعد أن عثرتُ على صفحته على
الفيسبوك، قبل وصولِ أوّل رسالةِ إلكترونيّة منه على الإيميل.
أضناني البحثُ عنه لفترة طويلة، انقطعت
أخباره عنّي، وتطابق ذلك تزامنًا مع تهكير صفحته المعروفة، وجاءت هجرته إلى أوربّا
عبر البحر؛ لتُؤكّد التباعد القسريّ بيننا. والدُّنيا في عصر وسائل التواصل؛ جعلت
من عالمنا قرية كونيّة صغيرة.
كانت مفاجأة سارّة فتحت شهيّة الحياة عندي مُجدّدًا،
وآمالي لم تَمُت، ازداد نبض قلبي من فرحة طويلة، بعدما انقطعت أخباره تمامًا ليس
عنّي فقط، بل على جميع الأصدقاء.
..*..
خلف الباب فلسفة كبيرة لم يتطرّق ذهني
لهذه المعاني التي قرأتُها في مقالة صديقي فاضل، فتحَتْ عَيْنيّ على أشياء جديدة، ومعانٍ غارقة
في العمق، وكلّما "ضاقت العبارة اتّسع المعنى.
أخذتني بعيدًا إلى عوالم لم أتصوّرها، هناك كلمة تكون مفتاحًا(ماستر كيْه)
تفتح جميع الأبواب الموصدة بلا استثناء؛ هذا ما استدعاني لاستذكار آخر كلمة في
رسالة أبي فندي، وهو ينظر إلى اللّوحة: (أهلا بكم في مخيّم الزعتري).
أدخلوه، وأغلقوا البُوابة؛ فصار هو وعائلته،
ومن معهم جميعًا من اللّاجئين خلف الباب، كأمواتٍ بلا قُبور.. اللّجوءُ موتٌ بطيءٌ،
بمرور الوقت تَتَهرّأ الأجساد هُزالًا هَرِما، وتذبُل على أعتاب المنافي مقهورة،
كانت مُتلهّفةً لرؤية ذكرياتها، أمنياتٌ ماتت على أعتاب أحلام العودة، غصّةُ
البُعاد والموت تآخَيَتا؛ لإخماد أنفاس الحياة.
أبو فندي:
داخل الخيمة.. خلف بابها نام هو وأولاده، التي
أخبرني عنها سابقًا بمقولة، كأنّها السّكين الماضية غُرست بقلبي، وما زالت تنخزني
برأسها الحادّ، ودمي ينزّ منذ عشر سنوات، ومازال:
"إنّها خيمةٌ يا فطين..!! وما أدراكَ
ما الخيمة..!!.. أبدًا ليست كخيمة جيراننا في كَرْم العِنَب أيّام موسم الصَّيْف،
ولا مثل التي سَكَنْتُها أثناء خدمتي العسكريَّة، كَرَاهتي لها..!!، مثلما كرهتُ
تلكَ التي كانت تنتصبُ على الحاجز في وسط بلدتنا.. ألَا تذكرها؟".
فطين:
محطّاتٌ التوقّف فيها إجباريٌّ لا مناص منه؛
هدأت أعصابي قليلًا، وخَفَّ توتُّري، استعدتُ صوابي، استغرقتُ بتفكير عميق، أطْلَلْتُ
من نافذة ضيّقة على فضاء واسع، استنشقتُ هواء نقيًّا، نبَضَتْ رئتاي بقوّة،
وتباطأت دقّاتُ قلبي بعد التسارع المديد، وأنا أعيشُ على أعصابي التَّالفة.
استقرّ الرّأي على نُقاطٍ ارتكز عليها هذا
العمل الروائيّ، خلف الباب.. والخيمة، نُقطتان بارزتان، نبّهني إليهما أبي فندي؛
فالخيمة خلف باب المُخيّم.. الخيمة وطن صغير، فقط من أجل مُمارسة الحياة بحدودها
الدّنيا، وخلف بابها أسرة وحياة خاصّة، وهي لا تسترُ أدنى الخُصوصيّة أبدًا.
ومن خلف باب المُخيم.. انهالت الخيالات
بالمعقول واللّامعقول، وما لم يخطر على البال، ما أروع انفتاح الأفق برؤاه، لكنّ
المشكلة إذا استدعى الأحزان والآلام لتجديد مواسمها.
وتتالت الرّسائل من محمد أبي فندي، وفاضل أبي
المجد بحماس، بعدما كنتُ أودّ إخبارهَما: بِنِيّتي جمع رسائلهما في عمل روائيّ؛ أطلقتُ
عليه (خلف الباب)، إكرامًا وإجلالًا لذكراهم.
ولم يكُن أمامي إلّا احترام رغبة صديقَيّ (محمد
وفاضل) باجتهاد فيما أسعى إليه؛ لأنّهما شَهِدَا بأمّ أعيُنِهِما، و(من رأى
ليس كم سمع)، وشاهدُ العيانِ وثيقُ الصّلة بالحدث المُنحفِر في دواخله، لا
يمكن اِنْمحاء آثاره حتّى الموت، وإن اِخْتَفَت مُؤقّتًا في مجاهيل غابات
النّسيان.
أنا
من شهدتُ ولادة فكرة وخاتمة الرواية، ومن خلال ما أرسلوا لي أصبحتُ بمنزلتهم،
لأنّهم مصدرٌ موثوق عندي، آخُذُ عنهم باطمئنان، وأروي عنهم بثقة؛ وكأنّني رأيتُ
بأمِّ عينيَّ، لا بدّ لي من إكمال مِشوار مُشاهداتي.. والإدلاء بشهادتي.. بصدق
وأمانة لله والتاريخ، والمستقبلُ الذي سيكون لأبناء سوريّة.
لم
أشأ إخبارهما بقراري الأخير هذا. بل أبقيْتُه طيّ الصّفحات؛ لأفاجئهم به فيما بعد،
لأنّني شهدتُ ما شهدوه، في كلّ ما ناقشناه ثلاثتنا، كنتُ واثقًا بحقيقة وقوعه،
مُتيقّنًا من صحّته، أعرف أبطاله، واعٍ تمامًا ما حصل بدقّة، وإن باعدتني عوامل
الزْمان عنها، أظنّ أنّني كنتُ خائفًا من خيانة ذاكرتي الهَرِمة.
المتعةُ لا تكتمل؛ لأنّها كانت افتراضيّة.
تداعي الأفكار كثيرًا ما يُنقذ السّقوط في متاهات اليأس والإحباط".
..*..
فاضل
*المشاعر لكل فرد من
الأسرة بعد جلوسه داخل الخيمة..
*التشابه
الكبير بين الخيم.. كأسرب القطا يصعب
التفريق بينها من الصياد الماهر الخبير..
ضاع
الولد.. ارتباك في الاسرة واستنفار.. وحالة خوف..
*الخوف
على الولد من الخطف. او التعرض للتحرش.. الذهاب للمسجد والاعلان من مايكروفون
المسجد عن ضياع الصبي وإعطاء مواصفات ولباسه بالألوان.
*الليلة
الأولى في الخيمة الخاصة
******
رسالة فاضل:
المطرقة تهوي بقوّة ضرباتِها
السّاحقة على رأس الوَتَد الحديديّ. أشعرُ بأنينِه يكوي قلبي. ماذا لو كانت ضربة
واحدة منها انحرفت عن هدفها إلى اُصْبعي؟، لا شكّ أن صُراخي سيشُقُّ تجمّع الأولاد
من حولنا؛ وسيُغطّي على صُراخهم المُتَماوِج مع حركاتهم السّريعة غير المُنضبطة،
اِنْتباهي مركّزٌ على المكان الصحيح لضربات المِطرقة التي لا ترحم.
لا أذكر أهي ثمانية أم
عشرة أوتاد، التي كانتُ مُعدّة لتثبيت حبال الخيمة، عندما تنتصبُ بكامل أرْكانها،
قويّة بوجه الرّياح العاتيات، كما لا أنسى أنّني سأنام في باطنها، كيف لو نمتُ،
وأنا خائف غير مطمئن، ونبضات قلبي تتسارع عندما كنّا هُناك؛ بمُجرّد سماع هدير
الطّائرة المروحيّة، لستُ وحدي ممّن لم يتمالك نفسه، جميع أهل الحارة يُسارعون بالخروج
هائمين على رؤوسنا إلى الأرض الخلاء، نتراكضُ في اتّجاهات شتّى طالبين النّجاة، لننتشرَ
مُنبَطحين بين أشجار الزَّيْتون المُتقاربة بصفوفها المُنتظمة طولًا وعَرْضًا بخطوطٍ
مُستقيمةٍ، مُتشابهة مع ترتيبات مُخَطِّطْ المُخيّم كما أراد له المُهندس، الذي
رسم الخطوط على الورق، لو لا بعض الخيام انحرفت عن أماكنها المُقرّرة من؛ فَشوّهت
التناسق المرسوم مُسبقًا.
ما إن بدأ الدّوام حوالي التّاسعة في يومنا
الأوّل، كُنّا قد تناولنا إفطارنا، استعدادي المفعم بأمل الاستقرار منذ ساعات النّهار الأولى، توجّهتُ مع القادمين
المُستجدّين حسب إرشادات المسؤول عن النُّزل الجماعيّ، بالتوجّه إلى الجانب الآخر
إلى المُستودع لاستلام الخيمة وأدواتها.
مشوارنا ذو هدفٍ واحد، آراؤنا مُختلفة. نظراتي
حائرة.. عينياي تُوصْوِصان بلا ثبات على شيء مُعيّن، أُذُنياي أظنّ أنّهما تسمعان،
كأنّي لم أُدركْ أنّ أحدهم، يشكو لمن في جانبه موت ابنه في المُعتقل، وآخر يهمسُ
بصوت مَبْحوحٍ، لا يكادُ يُفصح عن كلامه: "من يوميْن جاءت الحوّامة، ورَمَت بِرميلًا
على بيت أختي، وما خَرَج من البيت المُخبِّر عما حصل، لأنّهم كانوا مُجتمعين على
طعام الغداء". ثالثٌ: "حملة أمنيّة مُشتركة كبيرة مُدجّجة بالعتاد
الثقيل؛ داهمت بيوتنا في القرية".
سأله آخر: "سمعتُ أنّهم يملؤون جيوبهم
ممّا يجدون من الموبايلات والمصاري". بوتيرة أعلى أجابه: "بل حتّى
المصوغات الذهبيّة، والله أخبرني صديق لي من حارة أخرى، أنّهم أثناء التفتيش في
أحد بيوت المُغتربين الأثرياء، أخذوا منه خمسة كيلو غرامات من الذهب، جرّدوه من
ثروته التي أفنى عمره يجمعها، ضاعت في لحظة".
ما زلتُ أسمعُ، أحمدُ الله أنّ أحدًا لم يسألني.
خُطواتي مُتسارعة قليلًا عنهم؛ فأتقدّم قليلًا عنهم، كأنّي لم أكُن معهم. طليعة
القوم من المتوقّع تلقّي الصّدمة الأولى، على مدخل المُستودع أوّل وجه رأيتُه
خارجًا منه، يُرسل بكلماته: "إذا كنتم تريدون استلام الخِيَم، مَن هُم في
الدّاخل؛ أرشدوني إلى الجهة الجُنوبيّة، هناك.. الخِيَم منصوبة جاهزة لاستقبالكم".
أتلفّتُ حوْلي، لعلّه يقصدُ أحدًا، لكنّ عيناه
مُصوّبتان نحوي تفترسان ملامح وجهي بنهم. تلمّستُ وجهي بِنَيّة حمايته، خوفًا من
إصابته بسوء من أثر نظراته الغاضبة، أوّل ما تَبَادر إلى ذهني صفعة قويّة؛ كتلك
التاريخيّة من يد ذاكَ السَجّان اللّئيم.. يا إلهي..!! ما زلتُ أحسبها بمساحة سهل
حوران.
كأنّ لَسْعةَ الألم المُخدّر تحرّكت الآن،
تشنّجت عضلات وجهي، امتدّت يدي لتليين
ومحو آثار الصّفعة. أذكرُ أنّني صرختُ بصوتٍ مُفاجئ أخرج من حوْلي من حكاويهم
الطويلة، انتبهوا لي..!!.
مؤكّدٌ أنّهم ظنّوا بي جُنونًا، هكذا كأنّني
سمعتُ مقولاتهم المُتولدّة في قلوبهم، وما هَمَسُوا به لبعضهم بعضًا، رَغْمًا عنّي
حفظتُ ما تناهي إلى مسمعي.
أُذُناي أخبرتاني أنّهما لم تسمعا شيئًا؛ إحداهُما
مُعَطّلة عن مُهمّتها من أثر صَفعة السجّان منذ أشهر، وطنينُ الأخرى منذ
انفجار البرميل قربَ بيتي، يمنعني من سماع
أصواتٍ قريبة، لأيّ كلام، ولو من مسافة
وما يزيد.
استدرنا عكس الاتّجاه من تلقاء أنفسنا، دون
تلقّي أمْرِ آمِرٍ، وكيف أستطيعُ تفسير حركات شِفاهم؟. كلامهم مُجدّدًا. تأفَّفَ
أحدهم: تكسّرت رجلاي، لولا ضيق الوقت لجلستُ في مكاني. أنفاسٌ تصعد وتهبط من آخر.
حاولتُ استجلاء وجهه المُتعب، هيأته؛ كأنّها
تقول: "إنّه سِتينيّ على طريق
الكُهولة، خلفيّته رأسه بشعره المُشعّث، ولباسه المهلهل يحكي فقره". موقعي
تحوّل إلى مؤخّرة المجموعة، بعدما كنتُ في المُقدّمة. آخر: "هل المكان بعيدٌ
من هنا؟". لا إجابة تلقّاها. تباطأت خُطواتي لإبقائي في موقعي المتأخّر بقصد.
"لم يعرف أحدًا ذلك، إلّا أنتَ يا فطين..
والآن فقط أقولها للمرّة الأولى: "تمنيّتُ لو أنّني اِسْتطعتُ التقاط صورة
لأقفيتهم، لحظة ذهنيّة كنتُ أتمنّاها، كأنّ هناك من دغدغ دواخلي؛ فأيقظها لو أنّ
اللّوحة أمامي لتشكيل ربّما أنال عليها جائزة دوليّة، فيما لو أرسلتُها لمسابقة، وأحقّق
حُلُمي بالشّهرة كما بيكاسو".
.. *..
مئة خطوة أو يزيد بقليل؛
وضعتنا قُبالة الشّارع الرّئيس الوحيد المُعبّد في المّخيّم؛ كان فاصلًا ما بين قِسميْه
الشّرقيّ والغربيّ، حسبما عرفتُ، أنّهما تشكّلا قبل سنة.
من
غير المُتوقّع الذي لم يكُن يخطر على بالي أبًدا، ولم أعرف مُسبقًا بوجود مساكن الكرفان الجاهزة. صُدِمتُ للمنظر.
بصوت عالٍ من أحدهم، هذه المرّة أسمع: "هاه..!!، لماذا لا يُسلّموا
الكرفانات للجميع؟".
آخر:
"ليس عدْلًا".
صوت
غاضب: "يا عمّي هناك خيار وفَقُّوس".
كأنّي بملامح وجه الأخير، وهو يتفوّه بكلماته
المُقتضبة الشّائعة: "عُوجَة من يوم يومها يا خال، ما رَحْ تَتعدّل
الآن..!!".
بنظرة ماسحة لأقفيَتِهم، شَعْر رؤوسهم الأشيَبِ المُشعّث، كمكنسة البُلّان.
مرآةُ مُخيّلتي عكست لوحاتَ وجوهِهِمُ الباهتة. غُبار الحرب يكسوها بُؤسًا بلمسات
الموت. قراءتُها وتفسيرها لا تحتاج لمهارات فنيّة مُتخصّصة.
هالةُ
غُبارٍ مُتولّدةٍ ليس بفعل رياح. خُطواتُهم تضربُ الأرض بعُنف ظاهر. يا إلهي..!!
هل هم يقصدون ذلك؟؛ انصرف تفكيري بحثًا عن الرّابط بين طبقَتيْ الغُبار. تَزاوُج
حالتَيْ الاغبرار بِعُرسٍ غير مُعْلَنٍ عنه؛ سأنتظر وليدهما بصبر طويل. تصوّراتي
مُشوّهة عنه.
خُطواتنا على الإسفلت هَدَأت حدّة ضغطها على الأرض، لم أعُد أسمعُ وَقْعَها،
وغُبارها اختفى خلفنا؛ انفتح الأفُق أمامنا، وانقشعت الرُّؤية بشكل جيّد عكس ألوان
الكرفانات الباهتة أيضًا بغبار صحراويّ مائلٍ للاحمرار، وكأنّها باقية هنا من عهد
الأنباط، مُرابطة بجوار قصور عَمْره والحرّانه والحلّابات، تستمتعُ بغبار حوافر
خُيول عبد الملك بن مروان.
وعند
نهاية وادي الزّعتري المُنحدِر من هُناك، كأنّ أحدهم مُستفسرًا: "من أين..؟".
رفعتُ نبرة صوتي: "من جبل حَوْران"
وأشرتُ باُصْبُعي إلى الجهة المقابلة.
انتبهتُ: "لا أحد سمع جَوابي".
تذكّرتُ أنّني من سألتُ نفسي بنفسي.
ربوعٌ
تنتظر بداية الرّبيع بفارغ الصّبر، صراعُها العنيد، وإصرارها المُتجذّر في مُقاومة
غضب الصحراء، مَلْءُ الآبار والبِرَكُ في قرية الزَّعتريّ فرضُ عيْنٍ، له طقوسه
وتراتيله من كلّ عام، تُقام في محرابها، وجِوَارها الغافي على مَجدٍ أثِيلٍ تحتفظ
به من أجلنا، والزّعتر فيها؛ يُعبّق الوجود برسائل السّلام .
الصحراء
ما زالت بنتًا بِكْرًا من رَبّات الخُدور، عتّقها الزّمان؛ فنامت قريرة العين على
صخب التّاريخ، وعَبَق الحضارة؛ لتستفيق على دموعٍ وأحزانٍ، لم تكُن مُنتظرةً أبدًا
بهذا الحجم، الغارق في مُستنقعات الدّماء والدّموع، التي لا تروي عطش المُتعطّشين
لها.
الشارع
الوحيد.. السّوق الوحيد هنا، اختلف الوضع قليلًا عن نغمة مجموعتي الاحتجاجيّة
غضبًا وتنفيسًا عن أوجاعها، أصوات الباعة بدّدت اهتمامنا وأنا معهم.
"يا
إلهي.. ماذا أرى.. محلّات تجاريّة على الجانبيْن، اكتظاظ مُكثّف.. ازدحام العابرين
في الاتّجاهين، هدير مُحرّكات السيّارات القليلة المُصرح لها بالدّخول هُنا لخدمة
النّاس في نقل أمتعتهم، أو السيّارات الرسميّة الحاملة لشعارات زرقاء بلغة أجنبيّة،
أظنّ أنّها تابعة للـUN)).
صراع
بالكلام بين مُتناقشين، يقفون أمام إحدى المحلّات على شيء غير مفهوم لي. أولادٌ
يتراكضون؛ يشُقُّون طريقهم بصعوبة بين الجُموع، كأنّهم يُطاردون شيئًا. شبابٌ
آخرون خطواتُهم مديدةٌ مُتعجّلة. "أهم على موعد..!!؟" أظنّ ذلك.
بعض
العابرين فرّق شمل جماعتي، "لا تغفل عنهم" تنبيه لي مجهول المصدر، تلفّتُ
حولي؛ مُستفسرًا من وجوه لا أعرفها، ولا تعرفني. باهتمام تابعتُ من هو أمامي
مُباشرة على مسافة متر واحد، بحركة روتينيّة كانت خُطواتي التي تنقلني للأمام؛ تقع
مكان خُطواته، كلّما تقدمّت إحدى قدميْه، حلّت محلّها قدمي، مُشكلة إذا فقدتُ أثر
خُطواتهم في هذا الخِضَمّ الهائل.
..*..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق