الجمعة، 29 يناير 2021

الفصل (1+2+3) من رواية خلف الباب

 إلى أين..

(١١/١/٢٠٢١)

(1)

إلى أين يا أبا ذرٍّ؟.

   رجعُ الصّدى ردَّدْتهُ الهضاب والشّعاب من حولي، لم يَأْبَه بي مُطلقًا، ولم يُعِرْني التفاتةً منه لطرد القلق، والخوف من قلبي المُتوجّس حتّى من خيال الأشياء.

إلى أين يا أبا ذرٍّ؟.

   سيّدي الجليل: لا أزالُ أذكرُ يوم قدِمْتَ مكّة باحثًا بسريّة تامّة عن النبيّ، وجلستَ أيّامًا تتلمّسُ مُقابلته، مُتّخذًا الحيطة والحذر، جِئتَ بقدميْك لتجهرَ، وبِمِلْءِ إرادتكَ في وسط مكّة بجرأة غير طبيعيّة.. شجاعة مُنقطعة النّظير.

إلى أين يا أبا ذرٍّ؟.

   للمرّة الثالثة لا ينقطع حماسي لتساؤلات، لا أظنّ أن أسمع جواباتها إلّا منكَ، ولكن أنّى لي ذلك، أدّعي أنّك لم تسمعني.

   أتابعُ خُطواتكَ الثابتة، وأعدُّها واحدة تِلوَ الأخرى، وخيالكَ يبتعدُ رويدًا رُويْدا؛ فيتضاءلُ حجمكَ كلّما زادت المسافة بيننا، الأفق من حَوْلي يُتابعكَ، كُلّما ناست  مِزْوَدتُك من خلفكَ ذاتَ اليمين واليسار يهتزّ قلبي.

   صمتَتِ العصافير عن زقزقتها على الأشجار من حولي تضامُنًا معي، آخر عهدي بطيفكَ الذي صَغُر في الواقع على ظهر التلّة البعيدة، كشبح أسود غائم الملامح، لم تتبيّن تفاصيله مع المغيب الذي اختفى تمامًا.

أخبرني يا أبا ذر:

    ما بالُ الدّروب تُغريني بالرّكض خلفها، أنفاسي تتقطّعُ لُهاثًا على إيقاعات القهر.. عزيمتي لم تَنْثَن ببحثِها الدّائم عنها.. ولِمَ هي مقصدي وأمثالي من السّوريّين.. ألهذه الدرجة من الأهميّة؛ لأنفقَ عُمري، وهو أعزّ ما أملك..!!؟.

   أزعمُ أنّني سمعتُ غمغمةً جاءتني عبر الأثير، لم أتبيّن فَحْوَاها، أهي استنكارٌ أمْ رأفةٌ بحالي، كما لا أعرف.. هل وصله ندائي، كما سمعتُ غمغمته؟.

..*..

 

   انسحبتِ الشَّمسُ من مواقعها هروبًا أمام هجوم الظلام القادم، في أعلى قمّة التلّة انتصبت قامةُ أبي ذرٍّ  بطوله الفارع، وكأنّ رأسه يقرَعُ حافّة السّماء، رغم نحافته أراهُ عظيمًا، وبياض شَعْرِهِ يتلألأ انعكاسًا على بقايا فُلول الضياء، اِسْمِرارُه لم يتآلف مع الظلام، بل كان توهّجًا كالقمر هاديًا في فراغ الكوْن، مُنيرًا أسْرِجَة قلبي ومُحيطي.

   غاب تمامًا بانحداره نحو انبساط من الأرض، لم يمنعه البُعاد عن المُثول في ذهني، وأمام عينيّ، إغراءٌ لحوارٍ مُتكافئ وجهًا لوجه.

..*..

 

   فرصةٌ كأنّها هديّةَ السّماء، مُجدَّدًا اسْتجمعتُ قِوايَ أمام هيبة أبي ذرٍّ، ملامِحُ وجهه السّمراء، وبروز وَجْنَتيْه، وانطواء خدّيْه إلى داخل فَمِه؛ عمّق تقاطيع وجهه كأخاديد حادّة الانحدارات، مليئة بالتفاصيل الكثيرة، فيها تكمن روح الأشياء بأبعادها الفلسفيّة، ولماذا استهوتِ التفاصيلُ الشيطانَ؟.

   تأويلي مَآلٌ لِفَهْمِي. الآن أدركتُ حقيقة مقولة: (الشَّيطان يكمنُ في التفاصيل).

   جلستُ كاسِفَ النّظرات، كَسِير القلب أمام جَيَشَان مشاعري المُضْطربة على حافّة هاويةٍ مجهولةٍ غير منظورة النهاية.

   صدى أسئلتي ما زال عالقًا على شفتيّ، وجُلوسي أمامه لم يمنع توالد الأسئلة مُجدّدًا، والفائرة من دواخلي المُتهيّجة لما يُشفي الغليل لأجوبة مُقنِعَةٍ.

   إشفاقي على كُهُولته بدايةً ألجمتِ الكلام تجمّدًا وراء أسناني، تتردَّد تدافُعًا بين الإقدام والإحجام، إلى أن جاءت كلمته الأولى المُوجّهة لي مُباشرة، بعد أن تأكّدتُ بما لا يدعُ مجالًا للشكّ، أنّني المقصود، ولا أحد غيري أمامه.

-ها يا بُنيّ: ما الذي كنتَ تريده منّي بأسئلتكَ التي سمعتُها، كنتُ أودُّ أن لا أجيبكَ لأيّ منها، إلّا أنّي راجعتُ نفسي، وتراجعتُ نادِمًا، بعدما أدركتُ تَحُرّقكَ الشَّديد للحصول، ولو على جوابٍ واحدٍ، اِسْألْ ما بدا لكَ يا بُنيّ، وكُلّي آذانٌ صاغيةٌ، لعلّي أستطيعُ مُساعدتك.

   في حضرة العُظماء تَجِفّ ينابيعُ الكلام، وتنضُب، يطولُ صمت التفكّر خَشْيَة وتأدُّبًا، حالة ارتباكٍ كَمَتاهةٍ صمَّاء لا خروج من دوّامتها إلّا بمعجزة.

من أين أبدأ؟. الأفكار تتلاطم كأمواج عاتية.

   استجمعتُ بقايا جرأةٍ مَخبوءةٍ لم تظهر للعلن إلّا مرّاتٍ قليلةٍ خلال خمسة عقود ونصف من عُمُري.

   تماسكتُ لكسر حاجز المهابة، التي تحفّ جلستنا غير المُتوقّعة. تنحنحتُ على استحياء، يِدِي اليُمنى بحركة أوتوماتيكيّة حجبت فَمِي:

-يا صاحب رسول الله - تدور على لسانيْنا الصلاة والسّلام عليه، لكي لا نكون من البُخلاء- يا صاحبَ الفضلِ، يا أشجعَ الرّجالَ.. يا سابعَ الأوائلِ من المُسلمين مع جدّي المِقداد.

ضعْفُ المُسلمين، وقلّة عددهم لم تمنعكَ من الجهر بالحقّ، وإعلان إسلامكَ وانتمائكَ، وعرفتُ كما عرف من هُمْ قَبْلي، منذُ أيّامكم في عهدكم الأوّل.

  هزّ رأسه وهو مُطرق بعينيْه في الأرض، شيخوخته لم تُثنِ عزيمتَه تليينًا لمواقفه بالمُهادنة، أو الصّدع بالحق. أشاحَ بوجهه إلى الجِهة الأُخرى المعاكسة؛ فالتفّ للوراء.

حاولتُ تفسير حركته، فما ازددتُ إلّا جهلًا، ما الذي رآهُ..؟ أرسلتُ نظراتي للاتّجاه الذي ينظرُ إليه، فراغٌ كونِيٌّ ظلامٌ حالكٌ، زاغت عينايَ، وارتَدّ إليّ طَرْفي حَسيرًا. وصلتني بداية كلماته، وهو ما زالَ يلتفُّ، تابعَ كلامه مُتزامنًا مع اِلتفافِه لجهتي ثانية، ليتني أدركتُ شيئًا مما كانَ يُعاين:

-سأخبركَ بشيء ربّما يغيب عن ذهنكَ، ولم تعرف عن أبي ذرّ إلّا أنّه صحابيّ من الأوائل. نشأتُ في ديار قبيلتي غِفارْ، كانت مضاربها على طريق القوافل بين اليمن والشَّام، واشتهرتُ بالسَّطْوِ على القوافل وقتذاك. لا أستعينُ بأحدٍ لمؤازرتي؛ فيما أقومُ به من غارات، بمفردي فقط، وفي وَضَح النَّهار أشُدُّ على ظهر فَرَسِي.

   أستمتعُ بكلّ جوارحي بمهابة الجلسة؛ فلم تمنعني من الشُّرود بعيدًا في متاهات الذّاكرة،  مُستعيدًا قصّة قاطع الطّريق الكامِن في مخبئه للانقضاض على ضَحِيَّته، تصادَفَ مُرور نبيّ الله موسى في طريقه لمُناجاة الحقّ، ومعه رفيقه في رحلته هذه.

   قاطعُ الطَّريقِ، وفي لحظة فاصلة من تاريخه الإجراميّ؛ كأنَّ نفحات الإيمان لامست قلبه؛ فقال لنفسه: سأتعقّب نبيّ الله موسى؛ لعلّ أن تنالني من بَرَكاتِه.

   رفيقُ نَبِيِّ الله مُوسى، مُتحفّزُ لا يَقِرّ له قرار، قلبُه مُتوّجّس، فكره مشغول بأمرٍ بعيد عن مَهابَة مُرافقته لنبيٍّ، خرج بعيدًا عن وهج دائرته الرُّوحيّة، روحه غادرت.. مُشدّدًا انتباهه على قاطع الطّريق خوفًا منه، وقال لنفسه: ما بالُ هذا الكلب يتبَعُنا مُتربّصًا بنَا، حتّى إذا ما غَفِلَتْ أعينُنا عنه؛ سَرَقَنا.

   انفصل عنه نبيّ الله مُنقطعًا للمُناجاة، وعند انتهائها تلقّى أمر الحقّ سُبحانه: يا موسى أخبر صديقك: أنّي أحبطّتُ عمل صاحبكَ، وغفرتُ لقاطع الطريق.

   شتّان ما بين قلبٍ يتتبّع من بعيد؛ يرجو نوالًا لم يحلُم به قطٌّ، تاقت نفسه لرفقة صالحة تضعه على دروب التوبة. وقلبٌ فَارٌّ من رياض مُنْوَة أيّ إنسان، تجمُّد مشاعره اللّاهية بمتاعٍ زائل، حضور العقل والقلب مشهديّة سماويّة لا يحصل عليها إلّا نبّي مُرسلٌ أو صدّيق، وصاحب نبّي موسى ليس منهم.

   فيضُ روحانيّتي جعلني آسِفًا لموقف ذاك المحروم، ولا أريدُ لنفسي أن أكونَ في خانتِه، وتحسَّستُ الأمرَ بجديّة في نفسي، وأردتُ الاطمئنان من سيّدي (ابن عطاء الله السّكندريّ)، التَتَلْمُذ على يديْه وليِّ عارف ليس بالأمر السّهل، خاصّة في زمان جفاف الرّوحانيّات، ونَدْرَة اليقين الثّابت في نفوس تهتزُّ على وقعِ الفِتَنِ: هل لكّ يا سيّدي أن ترى معي ما أرى من أمره، وما تقول فيه؟.   

أحييكَ بتحيّة رسول الله. صوته خفيض برخامة هديل الحمام، لا يكاد يصل إلّا على استحياء، وقال: (إذا أردتَ أنْ تعرفَ قَدْرَكَ عنده، فانظُرْ  في مَا يُقيمُك".

   زادكَ الله من فضله يا سيّدي، وممَّا سمعتُ بما يدور على ألسنة العوامِّ: "إذا أردتَ أن تعرفَ مَقَامَكَ؛ فانظر في أيَ شيءٍ أقَامَكَ".

   نحنحةُ أبي ذرّ بعد حشرجة مُفاجئة أصابته -أخرجتني من استرسالي استغراقًا مع ابن عطاء الله، وبما أكّدَ لي من حال الرّجل ذاك المحروم- وكأنّي مُتأثّرٌ من شنيع أفعاله في الجاهليّة. ما بالُ عيني تتغاضى عُنوة بِنُفورٍ عن مآثر أبي ذرٍّ العظيمة، ذاهبةٍ لتجليَةِ الجانب المُظلم من صُورته القديمة التي كنتُ أتجاهلها سابقًا؛ لمكانته في نفسي.

   تورمّت نفسي انتفاخًا بخيالاتها، كقاضٍ نزيه يُصدِر حُكمَه المُبرَم على المُجرم الجالس قُبالته في القفص. ألِأنّي أسمعُ اعترافًا..!!. أمْ أنّي طاهرٌ بنقاء أبي ذرّ؛ لِأُصدِر  حُكمي عليه.

   تنفّستُ بعمق، كأنّ الأوكسجين أعاد لي شيئًا من رُشدي التّائه في ظلامات. لينتشِلَني صوت المسيحُ قادمًا من عوالم الغيب، هاتفًا؛ خَضّ أعماقي بعُنف: (من كان منكم بلا خطيئة؛  فَلْيَرْمِها بِحَجَر).

   أهو طبعُ مُكتَسَب.. أمْ متأصّلٌ في دواخلنا، عندما نُنصّب من أنفسنا قُضاة على خلق الله؟.

   وهل الله كلّفنا بذلك..!!؟.

يا إلهي.. الرّحمة الرّحمة.. التوبة التوبة. وأنا أحتلُّ اختصاص الله خالق الأكوان وما فيها.

-كان ذلك قبل الإسلام يا بُنيّ.

-أكيد يا سيّدي.

   أوّل كلمة صدرت عنّي سمعها أبي ذرّ. كنتُ أودّ أن أضيفَ: "رُبَّ قاطع طريق أحبّ إلى الله من عالمٍ يأكل الدّنيا بالدّين". لكنّي لم أقُلها.

-لكنّ موقفكَ الذي لا يُشابه أيّ موقفٍ في حينه يا صاحب رسول الله. بعد إعلان إسلامكَ.. لم تشأ أن يبقى سريًّا؛ فخرجت مُعلنًا إسلامكَ إلى أهل مكّة وقريش؛ ونِلْتَ ما نِلتَ من الضرب والأذى الجسديّ، وعاودتَ إعلانكَ في اليوم الثاني.

   تدخّل أحد زعماء قُريش العقلاء؛ لفكّ تجمّعهم عنكَ في المرّتيْن، وراح يُذكّرهم بتجاراتهم ومصالحهم العابرة دياركم، ولدرء خطر قبيلتكم.

   شجاعة مُنقطعة النّظير في مرحلة صعبة جدًّا لا تحتمل مُغامرة نتيجتها معلومة سَلَفًا تكون نهايتها حَتميَّة إلى القبر.

-يا بُنيّ يذهبُ الرّجال... وتبقى مواقفهم تحكي عنهم، والتضحية في سبيل المبدأ لا يفعَلُها إلّا الشُّجعان.

-يا سيّدي ما زال قول رسول الله فيكَ عالق في ذهني منذ ثمانيّات القرن الماضي: (رحم الله أبا ذر، يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده.( أيّامها كنتُ في الصفّ العاشر. مُدرّس التربية القوميّة كلّفنا بوظيفة شهريّة، وهي عبارة عن تلخيص لكتيّب. د. عبد العزيز الدّوري (الجذور التاريخيّة للقوميّة العربيّة)، وقد صنّفوك  مع (عُروة بن الورد) أنّكما أوّل الثّائرين الاشتراكيّين. وإمام الاشتراكيّين.

   لعلّ مقولتكَ: (ويلٌ لمن يجِد قوت يومه، ولم يخرُج  إلى السّوق شاهرًا سيفه). منذ ذاك الحين، وتساؤلاتٌ تأكل رأسي، أليس الإسلام مُحقّقًا للعدالة؟. تتبّعتُ دروب القراءة، ووعيتُ قضايا الانتماء واللا انتماء من الاستغراب، وتجلّى كذب التقدميّة والرّجعيّة خلف ستار السياسة ومحازيبها.

-يا بُنيّ لا أعرف شيئًا مما سمعت، وأنا بريء ممّا قالوا، كبراءة الذئب من دم يوسف، وإليكَ ما حدث على أرض الواقع بلا تأويلات مُجَافِية لحقائق الواقع.

   بعد غزوتيْ بدر وأحد، قدمتُ المدينة لأكون قريبًا من رسول الله. وشهدت معه المواقع كلّها، وفي يوم حُنيْنٍ حملت راية قبيلتي غِفار، بعد فترة من الزّمن تجهّز المسلمون وانطلقت الجموع لغزوة تبوك، جرى تفقّد المتخلفين عن الغزوة.

   أخبروا النبيّ: "يا رسول الله، تخلّف فلان"، فيقول: "دَعُوهُ، إن يكن فيه خيرًا؛ فسيلحقكم، وإن يكن غير ذلك فقد أراحكم الله منه".

   حتى قيل: "يا رسول الله، تخلّف أبو ذر". "وكان بعيري قد أبطأ بي، عندما قرّرتُ أخذ الضروريّ من متاعي، ووضعته على ظهره". 

    خرجتُ أتتبّعُ أثر الجيش، رآني أحد النّاس، فقال: "إنّ هذا لرجلٌ يمشي على الطريق"؛ فقال النبيّ: "كُن أبا ذرّ"، فلما تأكّدوا أنّي أنا، قالوا: "هو والله أبو ذرّ". وهنا أؤكّد لك السبب وراء ما سألتني عنه من قول النبيّ فيّ.

   رفع رأسه بعد إطراقة.. عيناه أرسلتا نظرات صقر حادّة انغرست في عينيّ، أغضيتُ مُطرِقًا خجِلًا، مُتصاغِرًا شيئًا فشيئًا أمام وهج أبي ذرٍّ. شعورٌ داهم بتوقّف عجلة الزّمان أمام عظمته إجلالًا واحترامًا، والكون يبكيه بسخيّ الدّموع؛ فلربّما لا تجود يد القدر بمثل أبي ذرٍّ، إلّا نادرًا.

وهل مثلي بحاجة إلى تبرير...!!

ومن هو الذي يُبرّر...!!؟.  

وها أنتَ عُدتَ من قاطع طريق إلى صحابيّ جليل...!!.

   كما عاد موسى من قاتلٍ إلى نبيّ ورسول بعد لقائه مع بنيّ الله شُعيب... يا أنتما...!! نبيّ وصحابي أنرتُما ظلام نفوس البشر؛  فكنتُما غيثًا أحيا مَوَاتها بنور الحقّ.

   يا لي من ظالمٍ لنفسي، قبل أن أُثقِل على صاحب رسول الله. وأنفاسه تتهادي بين وَهْنٍ وقُوّة، كأنّي بها خارجة برضا من أعماق قلبه، غير ساخطة ولا مُتبرّمة بشظف العيش وقساوته.

   العظماء لا يُدافعون عن أنفسهم وأفعالهم يختلف فيهم الناس وعليهم، فريق أنصارهم وأتباعهم ومُعارضيهم يخوضون أفظع المعارك، كلّ منهم مُنتصِرًا لزعيم اختاره، لأسباب خفيّة ومُعلنة.

-يا إمامي في الصبر والزّهد والتقشّف، هل لي استغلال وجودي بين يديْك، وتزيدني شيئًا من حياتك في مدينة رسول الله.

   أثناء إقامتي في المدينة، كنتُ قائمًا على خدمة النبيّ، ورعاية بعضًا من شؤونه، حتى إذا فرغتُ ولم يكن عندي عملًا، أذهبُ إلى المسجد لأستعيد راحتي ولأنام.

   ذات يوم رآني النبيّ، وكنتُ نائمًا في المسجد؛ فلَكزني برجلِه؛ فاستويتُ جالسًا، فقال النبيّ: (ألا أراك نائمًا؟)

-"فأين أنامُ، وهل لي من بيت غيره؟"

فجلس النبيّ إليّ، ثمّ قال: (كيف أنتَ إذا أخرجوكَ منه؟).

-"ألحقُ بالشّام؛ فإنّ الشّام أرض الهجرة، وأرض المحشر، وأرض الأنبياء؛ فأكون رجلاً من أهلها".

 فقال النبيّ: (كيف أنتَ إذا أخرجوك من الشام؟).

-"أرجعُ إليه؛ فيكون بيتي ومنزلي".

قال النبيّ: (فكيف أنت إذا أخرجوك منه الثانية؟).

-"آخذُ إذًا سيفي؛ فأقاتل حتّى أموت".  

فكشّر النبي، وقال: (أدُلّكَ على خيرٍ من ذلكَ؟).

-" بلى، بأبي وأمّي يا رسول الله".

فقال النبي: (تنقادُ لهم حيث قادوكَ، حتّى تلقاني، وأنتَ على ذلك(.

 

.. *..

 

 

   كفَلَق الصّبح جاءت مُداعبة النبيّ لكَ يا سيّدي نبوءة تحقّقت؛ حينما استقرّ بك المُقام في دمشق. قال فطين. يهزّ أبو ذرٍّ رأسه المُثقَل بتعب السّنين. عيناه ساهمتان نحو الأفُق؛ كأنّه مُحدّقٌ في شيء مُحدّد، أحاول استطلاع ما ينظر. لا أرى إلّا فراغًا موحشًا، كوحشة المنفى الذي اختاره لنفسه.

  

ندّت على شفتيْه ابتسامةٌ، أراها خارجة بالغلط عن سياقها العامّ للموقف، وقد أطبق فمه قسرًا على كلام كثير، أظنّ أنّه كان يودّ البوح به جهرًا، لكنّه أحجمَ، صمته وحده هو الذي أسمعني كلام الحُكماء الشّجعان:

-يا بُنيّ ما فائدة الكلام إذا كان بلا جدوى، الثرثرة ضارّة في كلّ شيء، وعلى كلّ شيء، لا تقُل كلمتكَ إلّا إذا كانت ماضيةً كحدّ السيف.

  

-يا سيّدي فإن الفضفضة مُريحة للنفس قليلًا بما تُزيحُ عنها من أثقال.

  

-يا بُنيّ اسمعني بتمّهل ولا تتعجّل استباق الأجوبة والنتائج، ما زالت حرارة دماء الشباب تغلي فيك؛ فلو استطعتَ تبريد فورانكَ الداخليّ، واستبدلته بحكمة الشيوخ، لفعلتُه من فوري، ودون الرّجوع إليك للمشورة أو التخيّير، ولا تكن مُتعجّلًا كنبيّ الله موسى عليه السّلام في صُحبته للخضر، إن كان هو الرّجل الصّالح.

  

-سأحاول جُهدي أن أكون صابرًا ولا أعصي لك أمرًا، أو أن أقاطعكَ بكلمة منّي مهما كلّفني الأمر قهرًا، وكظمًا للغيظ في قلبي، حتّى وإن جاءتني الجلطة، وأنا على ذلك.

  

قلتُ ما قلتُ لطمأنته، لكنّ اهتزاز ثقتي بنفسي تنتابني خوفًا بخرق عهدٍ قطعته على نفسي. وتابع كلامه وأنا بكامل أُهْبَتي للاستماع إلى الآخر.

 -لا أكتمُكَ سِرًّا يا بُنيّ، أنّني بعد الفتح أقمتُ في الشّام أُفتي النّاس وأُعلّمهم أمور دينهم، وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر، ولكن في حِدّة مواقفي كما أُشيعَ عنّي.

    

-يا سيّدي مؤكّدٌ أنّ هناك من صبّ الزّيت على النّار، تزلّفًا لوليّ الأمر، لكسب مصلحة ومنفعة عاجلة..!!.

 

-لا أجزمُ.. ولا أتّهم، الأهمّ من هذا وذاك أنّني على الحقّ، ولم أكذب على الله ورسوله، والذي لا إله إلّا غيره، لن أتراجعَ لولم يبق غيري في الأرض.. ولك يكن عندي سوى حبّة تمرٍ مع شُربة ماء.

 

-كنتُ قد سمعتُ عن سبب فساد علاقتك مع (معاوية بن أبي سفيان) والي الشام؛ حينما اختلفتما فيمن نزلت الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).

 

-نعم... صحيح كما ذكرتَ يا بُنيّ، حين قال معاوية:" "نزلت في أهل الكتاب"، بينما قلتُ أنا: "نزلت فينا وفيهم"

 -يا إلهي..!! وأنتم من أنتم..!! أما كان قُربكم من رسول الله كفيل بموقف مُتسامح بينكما؟".

  

-إنّها شهوة الحكم والتسلّط... فقط.

 

-ولكن يا سيّدي: تأمّلتُ الموقف كثيرًا، لم يعدُ أن يكون اختلاف رأي، وعلى كلمة واحدة فقط (نزلت فينا وفيهم)، ألم يكُن هناك فرصةً للرأي الآخر أبدًا؟.

 

-تقولُ أنّها كلمة واحدة.  يا بنيُّ لم يتوقّف الأمر عند ذلك، بل تعدّاه لأن يكتب معاوية يشكوني إلى الخليفة (عثمان بن عفّان)، بأنّني أفسدتُ عليه الشّام؛ فطلبني عثمان؛ فخرجتُ من توّي إلى المدينة استجابة لطلبه.

 

-ألم يكن هناك مجالًا لمخالفة الأمر؟، ولا نفسَك حدّثتكَ بالتمرّد، أو التشبّث برأيكَ.

 

-لا أبدًا لم يطرأ هكذا تفكير ببالي، وماذا لو فعلتُ كما قلتَ آنفًا، ستنفعني صُحبتي للنبّي، ومعرفتي بكتاب الله، يا بُنيّ امتثال الحق والوقوف عنده، أجدر بي امتثاله على أن أنتصرَ لنفسي وذاتي.

 -مَعينٌ صافٍ يُقتدى به، أنتَ يا سيّدي... دروسٌ لا بدّ لي أن أتعلّمها منكَ، وأنتَ شيخها الرّئيس المُقيم على الحقّ، وإن أوذيَ في سبيله.

 

-الحقّ هو الأعلى، وله الجولة الأخيرة الفاصلة، وهو الأوْلى اتّباعًا وإن كانت طُرُقه صعبة، يا بُنيّ ما دُمنا قد التقينا هنا في اللّا مكان بتوقيت اللّا زمان، وأراكَ مثلي طالب حق: فلا يغرّنك زخرف الباطل، وكثرة أهله؛ فهو المآل الأخير باستحقاقاته لهم.

 

-زِدْني يا سيّدي، فأنا غاية في الشَّوق لسماع المزيد والمزيد منكَ، ربّما لن يتكرّر ثانيةً لقاءنا. تباعَد الزمانَ بنا في متاهات الظلم المُسْتَحوِذِ على دقائق حياتنا، وما أصابكَ... أصابَنا أضعافُ أضعافِه.

 

أبو ذرٍّ صامتٌ بعدما سمع من فطين ما سمع، نظراته مغروزة في الأرض، كأنّها تُعالج ذرّات التُّراب والحصى، تتحرّكُ عصاهُ بحركاتٍ دائريّة، تصنع حلقات غير مُنتظمة، إذا جاءت حركات العصا طوليّة، لتشكيل أنصاف دوائر ومُثلّثات.

  

فطين مُحدّق بانتباه شديد لكل حركة؛ فترتسم بذهنه أحداثًا وأماكن؛ فيذرعها جيئة وذهابًا بعصبيّة، توتّرات تستغرق ملامحه بشدّة؛ فيزداد اسودادًا مُتحوّلًا عن اِسْمِرَار وجهه المعهود بطلاقته على الدّوام.

  

تأزّمت دقيقة الصّمت في مساحة المتر الفاصلة بينهما، لتأتي على مساحات الكون المحيط بهما، لتأجيج صراعات في نفسيْهما كلّ في اتّجاهه ووقته، رغم الفاصل بين زمنيْهما المُتشارك بثيمة المُعارضة لحاكم دمشق.

 

 ينتفضُ جسمه باهتزاز ملحوظ لفطين، وبعد إطلاق: آآآهٍ... من أعماق أبي ذرٍّ؛ أثارت زوبعة أحاطت مجلسهما، أبو ذر يغلق عينيه ويغطّيهما بطرف عمامته، وفطين يعرُك عينيْه بيده اليمنى، وبطرف كُمّ قميصه يمسح بقايا دموع نَزّت منهما، خانه حرصه الدّائم على وجود منديل مطويّ مُخبّئ في أحد جيوبه.  

  

يبدو أنّها الآه غير العاديّة بكلّ المعايير، خرجت من أعماق الأعماق بعمُر تاريخ طويل؛ ثمّ تابع: اسْمعْ يا بُنّي، قدمتُ المدينة للإقامة فيها  أدعو النّاس بنفس المنهج الذي لا يروق للآخرين؛ فوصفوه بالحادّ، خلق نوعًا من الرّيبة، ممّا دعا الخليفة عثمان لمعاملتي مُعاملة خاصةّ يغلب عليها الحذر .

 -حتّى هنا بجوار رسول الله لم يستقرّ الوضع، أرى أنّ دوائر الحُكم على بساطتها وقتذاك؛ أنّها لا تختلف في سلسلتها الطويلة ذات بُعد واحد، مليئة بالدسائس التي تُحاك خُيوطها في الخفاء والعتمة.

  

بدا التَمَلْملُ على أبي ذرٍّ مُتبرّمًا، ممّا سمع من كلام فطين، وأغلب الظنّ أنّه يبتعدُ تنزُّهًا عن الخوض في هذا المضمار، ولا يمكن أن يكون عن خوف وجُبْنٍ.

  

حرصه الأهمّ هو إكمال حكايته مع فطين، لعلّ الوقت أدركه بضيق، وسينصرف لشأنه الخاصّ، ويترك لفطين ساحة واسعة من التأويل، والتفسير والمقارنة.

  

-"ذات يوم كنتُ جالسًا عند باب عثمان ليؤذن لي بالدّخول عليه، إذ مرّ بي رجل من قريش؛ فقال: "يا أبا ذر، ما يُجلسك هاهنا؟".

 -"يأبى هؤلاء أن يأذنوا لنا".

  

فدخل الرّجل مباشرة؛ فقال: "يا أمير المؤمنين، ما بال أبي ذرٍّ على الباب؟".

   لم أفطن لما كنتُ أسمع، غالَبَني استعجالُ الأمر؛ بتساؤل مُتناسيًا تنبيهه قبل قليل؛ لأُقاطعَه، كان يجب عليّ التأدّب في مثل هذا المقام في جلسةٍ، ربّما لن تحصل ثانية في حياتي.  

أخذ أبو ذرٍّ استراحة؛ لاسترداد أنفاسه المُتعبة بلهاثها المُتقطِّع، لم ألْحَظُ تغيُّرًا في ملامحه مُنبئٍ عن استيائه منّي: ومَنْ هو ذاك الرّجل يا سيّدي، أهو على درجة من الأهميّة؛ ليُؤذن له من فور وصوله، وأنتَ جالسٌ منذ زمنٍ قَبْله؟.

  

لم يأْبَه بسؤالي بلهجته الاستفساريّة الغاضبة، إنّه لم يغضب لنفسه، أتوقّع لو كان مثلما أُفَكّر به، ولو كان حدث معي ما حدث؛ لأشبعتُ مُحيطي لومًا وعتابًا، ولكسرتُ كلّ حواجزي أمام تصنّعي وتأنّقي، ولرميتُ برزانتي، وببقايا رجاحة عقلي خلف ظهري؛ انتقامًا وانتصارًا لنفسي. أدركتُ يقينًا أنّ أبا ذرٍّ لا يفعلها.

  

مُتابعًا قوله: "حتّى إذا أُذِن لي، دخلتُ وجلستُ. بعد السّلام على الخليفة والحضور بين يديه. توجّه عثمان يسألُ (كعب الأحبار) في ميراث يُقسّم: "أرأيتَ المالَ إذا أُدّيَ زكاته، هل يخشى على صاحبه فيه تَبِعَةً؟"؛ فقال كعبٌ: "لا".

   عُدتُ إلى رُشدي بعد اطمئناني لدخوله، عندما أذِنُوا له. رفعتُ رأسي بتوجّس، لا أدري ما الذي نبّهني لشيء غير مُتوقّع لم أسمعه أبدًا، كأنّ هاتفًا نَخَزَ قلبي بعصاه لتنبيهي.

  

الكلمات تخرجُ من بين شفتيْه بوضوح تامّ؛ لاستكمال ما بدأ به من حكايات في مُواجهة الحاكم وجهًا لوجه.

  

"فقمتُ إلى (كعب الأحبار) فضربته بعصا، ثم قلتُ: "يا بن اليهوديّة، تزعم أن ليس عليه حقّ في ماله، إذا آتى زكاته، والله يقول:   (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)،  ويقول: و(يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا).

  

على غير المُتوقّع انتفض جسمي بطريقة لافتة أخرجتني من استغراقي بكلامه، مُتابعًا باهتمام بالغ لحفظ كلّ كلمة صغيرة أو كبيرة، ليقيني أنّها تملأ فراغًا في ذهني، وتلبّي نَهَمي في مذهبي بتأويل القصص، لأخذ الفائدة، واستخلاص العبرة، ولي في التاريخ فكرة ومنهاج، أستنيرُ بمقارباته بمزاوجة تطبيق المُتشابه منه واقعي، ولكي لا يبقى معزولًا في بُطون الكتب، وليكون مُعينًا على تجسير الهُوّة بين الحالة المُثلى مما أعتقدُ، وبين واقع قاتم أسود مليء بالمتناقضات؛ تجعلُ الحليم حيرانًا.

  

ما زال أبو ذَرٍّ يستكملُ حديثه، وفي هذه اللّحظة ركّز نظراته في وسط وجهي، شعرتُ بوهَج حارٍّ يطردُ برودة الجوّ في هذه اللّيلة، نزع ما في قلبي من خوف ذاك اليوم، وأنا في بطن أمّي، عندما كانت تجلس مع جاراتها، فقالت إحداهُن: "يا خيتي اسْكُتِي.. للحيطان أذان".

  

لم أشأ إلّا أن أتكوّرَ على نفسي انكماشًا حدّ التلاشي إلى اللّا شيء، لكنّي لم أتلاشى لأصير سِقْطًا إلى قبر، وأذهب دون اسم مُبلّلًا وجهي بدموعُ أمّي، بعد طول رجائها ببكرها المُنتظر طويلًا.

إلّا أنّها أخبرتني: أنّها ولدتني في سنة الصّهاريج أيّام العطش، يا إلهي...!!. استغراقي مع أبي ذرٍّ أنساني عطشي الشّديد، وجفاف ريقي، تناولتُ كأس ماء ومددتُ يدي به لأبي ذرٍّ،؛ فاعتذر بحركة من يده، بينما كلماته تصلني كأنّها من عوالم الغيب البعيد:

-"واستذكرتُ نحو ذلك من آيات القرآن المؤيّدة لوجهة نظري في تفسير دلالاتها؛ عندها فقال عثمان لجليسه القُرشيِّ الذي سبقني بدخوله:

(إنّما نكرُه أن نَأْذَنَ لأبي ذرٍّ من أجل ما ترى).

  

عند هذا الحدّ لم أستطع الصّبر في التأقلُم مع هذا الوضع القائم، عزمتُ أمري استئذان عُثمان؛ للخروج للإقامة في الرّبذة مسقط رأسي، ومسقط الرأس غالٍ كما تعلم؛ فأذن لي؛ فخرجتُ إليها".

 -إلى أين يا أبا ذر؟.

  

تقرّح حلقي من نداءاتي المُتكرّرة، شعرتُ بانفلات أحبالي الصوتيّة من مرابطها، كما انطلقت كلمة حريّة اِنْفلاتًا من أفواه السّوريّين.

  

رجعُ الصّدى ردّد ندائي، وصلني بتردّداته القويّة بداية، ثمّ تناقصت هُبوطًا، لتنتهي.

 

 وتثور من جديد صيحات من بعيد الآفاق، ببصمة صوت أبي ذرٍّ السّماويّ، الذي أستطيع تمييزه من بين مئات الأصوات المُتداخلة، بنبرته القادمة من عوالم الغيب.

 

غادرني منذ ساعات من وراء التلال السوداء، كأشباح ظهرت بغياب النّور عنها، بسُقوط الشّمس بين قرنيْ ثَوْر يرعى خلفَ التلّ الأدْنى، لا يأبه لحلول الظلام، ولم ينتبه لمرور أبي ذرٍّ بجواره، يلتهم خَصابَ الأعشاب التي انتهت دورتها الحياتيّة، غادرها ربيعها؛ فبقيت نهبًا تذروها الرّياح، ومجالًا خصبًا لعود كبريت تلعب به طفل من القرية المُجاورة.

  

-"من قال لا؛ عليه أن يثبُت عند رأيه". أوّل جُملة وَعِيتُها؛ وصلتني عبر الأثير.

  

-"يا بُنيّ إذا كنتَ على حقّ لا تتراجع أبدًا، الموتُ من أجله أسمى من التراجع والتَلكّؤ، طلبًا للرّاحة". مَسحتُ بكلتا يديّ على رأسي مرورًا إلى رقبتي؛ لأتأكّد أنّني ما زلتُ أنا على قيد الحياة.

  

-"أنتَ طالبتَ بشيء عظيم، وثمنه سيكون أعظم". ما زالت يداي على صدري، تجمّدَتا يَباسًا كأنّما شُلّتا، فقدتُ الإحساس بهما، انتهاء الصّدى القادم أيقظني من سُبات أحاسيسي مُطلِقًا العنانَ لقوّة اندفاع داخليّ؛ فكّ تشنّجات عُصابيّة تتحدّى عجزي، تستنفرُ عزيمتي المكبوتة خوفًا منذ ولادتي.

 

.. *..

 

   (اليوم الذي يكون فيه كلّ النّاس عُقلاء في الرأي؛ يكون كلّ النّاس مجانين في الحقيقة). على رأي الرافعي؛ فلربّما يُشارُ سرًّا أو جهرًا إلى العاقل في زمن تعقّل الرأي بإجماعٍ. أهي روح التمرّد المتأصّلة فِيّ منذ ولادتي..!؟. إلى هنا الموقف عاديٌّ في مخالفة جُموع القطيع خُروجًا على قوانين اعتقاداتهم وآرائهم، سيكون ذلك مَجلبةً لكراهتهم.

   لا أستطيعُ التكهُّن أيضًا عندما أصبحُ عاقلًا في زمن جنونهم في الحقيقة. وعيُ الحقيقة خُلاصة حياة خليطة، واِسْطفاء الأنقى الأرقى الأحقّ المُحبّ.

   يعيش الكثيرون ويُغادرون إلى مأواهم الأخير، ولم يُصادفوا، ولو خطأً أيّ نوع من الحقيقة، تتباعد عنهم... وهم يتباعدون نَأْيًا بأنفسهم طلبًا لمُتعةٍ لاهيةٍ راغدة.

   عندما اختفى خيال أبي ذرٍّ من أمامي على صفحة الأُفق؛ بشكلٍ مُفاجئٍ استحال مُحيطي ليلًا افتُقِدَ فيه القمر... مُحاولتي اللّحاق به بين الصحو والنوم.

   والحال بين مَنزلتيْن... كحال النُّسّاكِ بين خوف ورجاء في محاولة تسلُّل لا مقصودة... ثقبُ العالم الأسود لا يُغلَق أبدًا؛ حسبما قال أهل العلم. فرار من الأرض؛ تهيّأتُ مِرارًا، وما زلتُ أنفضُ عن جسدي أوظار تَبِعاتِ وُجودي الأرضيّ.

   اِرْتَجّ الكون مُجدّدًا على وقع صُراخي: (إلى أين يا أبا ذر). أتاني احتجاج الصّدى من جَنَباتٍ بعيدة، لم تكن مُقنعةً بأنّني في مُحاكاة داخليّة... لا أدري تسميتها على وجه الدقّة.

   سألتُ بعد ذلك أحد العارفين الموثوقين عندي: عن حالي الذي كَتَمتُه عن أقرب المُحطين بي... خوف اتّهامي بالجُنون المُحتّم، ومظاهر الهلوسة تتناوبني بين الحين والآخر.

   كما أنّ عُقدة الطبيب النفسيّ ذات الأثر السيّئ لي بشكل مُباشر، ومجلبة للعار لأسرتي وذُريّتي من بعدي.

   العارفُ المكينُ مُغمِض العينيْن... رأسُه ثابت بانحناءةٍ وقورةٍ، تحت عمامته المُتهدّلة على جبينه وُصولًا إلى أنفه، أخفَتْ ملامح وجهه عنّي، لتزيد من قلقي الحائر... جمودُ العِمامة المُتهدّلة على جبينه؛ حجبت ملامحُ انفعالات وجهه التي أحاولُ استطلاعها؛ لتسكنَ روحي، وتتأكّدَ من استماعي لما سيخبرني به.

   مُنصِتٌ لي بكُليّته... لحيتُه مُتدليةٌ كعناقيدِ داليةِ عِنَب في ربيعها السنويّ ناصع، مُشتهاة من ناظرها...، والرّيق يتحلّب عليها لو نال شيئًا من ثمرها.

   علاماتُ العلم مَهابة بمتاهةٍ الجهلاء والعامّة، ولستُ إلّا حائِرًا باحثًا عن الحقيقة، وفي سبيلها أرشدَني بحثي الدّؤوب من جديد إلى شيخي (ابن عطاء الله السكندري)؛ لتهدأ نفسي إلى يقينٍ راسخٍ، فتح آفاق الكون بطمأنينة لسلامة طريقي، عندما قال ذات مرّة: (ما أرادتْ هِمّةُ سالِكٍ أن تقفَ عندما كُشف لها، إلّا ونادتهُ هواتفُ الحقيقة: "الذي تطلبُ أمامكَ". ولا تبرّجتْ له ظواهر المكنونات، إلّا وناجَتْهُ حقائقُها: "إنّما نحنُ فتنةٌ فلا تكفُر).

   سجِّلْها يا فطين في عقلكَ قبل أوراقكَ برقم عشرين. هززتُ رأسي على استحياء. بِصَمتٍ قيّدتُها دون انطلاق لساني بهمسٍ، مُوهِمًا نفسي بفهمي لما سمعتُ، ولو أنّني أعترفُ بجهلي لسَلِمْتُ من وَهْم معرفتي الموهومة أصْلًا؛ ولَخَرَجْتُ من دائرة التناقض المُتضارب.

بين جُلوسي، وكأنّ الطيْر على رأسي؛ واستغراقي عميق في كلام شَيْخي. أخذتني إغفاءة عند آخر كلمةٍ وثَّقتُها، وقبل وضع النُّقطة.

وإذْ أنا في رياض غنّاء تهيّأ لي ذلك، خرير الماء...، أصوات العصافير..، حوريّاتٌ ناصعاتٌ البياض على حافّة الجدول، يتسامرن...، تتعالى أصواتهنّ السّاحرة بنغمات غانجة، تُنافس صَدْح الطيور.

غرقت في سحرهنّ؛ فانزلقت قدمي، فما أحسستُ إلّا عندما فتحتُ عينيّ على سرير وثير مُهفهف. ما إنْ رآني الخادم أصحو، حتّى أسرع بخطواته. مُناديًا: سيّدتي لقد استفاقَ الرَّجل الغريق الغريب.

قدِمَت بكامل بهائها؛ لتقفَ فوق رأسي، حاملة بيدها محفّةً من ريش النّعام، تَنِشُّ بها حول رأسي، ازداد انتعاشي، دبيبُ الحياة عاودني قويًا، وكأنّ ليس بي بأسًا قبل ذلك. رنينُ صدى صوتها العذب ردّد كَلمتها، كأنّني سمعتُها تقول، أزعمُ أنّني سمعتُ: نيرفانا.

   وجهُها مُتهلّل بأنوارٍ ملائكيَّة. وما نيرفانا، لم تَطرُق سمعي هذه الكلمة من قبل؟. لا أدري، ربّما تكونُ شيئًا جميلًا. بمُطابقة ما سمعتُ منها مع علامات الفَرَح والسُّرور المُرتسمة على وجهها الصّبوح؛ استبشرتُ خيرًا بقولها.

   جفِلتُ من صوْت شَيْخي يناديني: "يا فطين، سجّل أيضًا: "ما نَفَعَ القلبَ شيءٌ  مِثْلَ عُزْلةٍ؛ يدخلُ بها مَيْدانَ فِكرة".

-نعم سيّدي لقد فعلت.

وآخرها هي لكَ منّي يا بُنيّ من دون الآخرين محبّة، وحبل تواصُل روحيٍّ يربطنا ما دُمتَ حيًّا.

-هاتِ يا سيّدي.

تنحنحَ. وعيناهُ شاخصتان إلى السّماء؛ كأنّه يقرأ من صفحتها الخالدة: "سوابِقُ الهِمَمِ، لا تخرقُ أسْوارَ الأقدار".

   انتبهتُ إلى صفحة دفتري، وأعيدُ ما كتبتُ. زاغت عيناي بحثًا فيما هو حَوْلي، ما زالَ فُنجان قهوتي مُحتفظًا ببقايا دفءٍ. خامرني إحساسٌ غريبٌ للمرّة الأولى في حياتي، دافقًا بمعاني السَّعادة الشَّديدة، المليئة بالسَّكينة والاطمئنان، كلمة نيرفانا التي سمعتُها؛ فتحت  في نفسي راحة وابتهاجًا.

   عرفتُ مُتأخِّرًا أنّ (نيرفانا) اسمٌ أكثر جمالاً؛ ألا وهو السُّمُوّ والابتعاد عن كلّ ضيق بالنفس. اتّسعت الرُّؤية بصدق العِبارة، وانتشى القلب ببهجة الإصرار لمتابعة المِشوار، يقينًا بالوصول إلى نهايته.

***

 

 

(2)

 

   الذكريات تتجدّد بعد حين، وتأبى إلّا أن تعود لصدارة الاهتمام كلّما سَنَحت لها فرصةٌ للانتقام من فُسْحة الحاضر لها؛ لمنافسته؛ لِتحتلَّ مكانًا يليق بها، والاستحواذ عليه ولو لزمن قصير.

  

   نبرات صوت أبي ذرٍّ لم تشأ مُغادرتي منذ ذلك اللّقاء، تحفرُ مساربها في أعماقي إصرارًا، وتطردُ خوف دواخلي المُستكنّ فِيّ منذ تَشَكُّلي جَنِينًا في بطن أُمّي.

  

   الخوف لا يُنتجُ إلّا مخاوف؛ تتّخذ لها حسابات مُختلفة تمامًا عن الوضع الطبيعيّ في العيش؛ انطلاقًا إلى آفاق الحياة برغبة جامحة، لِنَهْل مشاربها بشغف؛ كالعَطِشِ في مفازة الصحراء، السّراب لا يفتأ تَغْشيشَه حينًا.

 

   أخيرًا وَجَد الماء، عَبّ منه حدّ الارتواء، بعدها ليأخذ نفسًا عميقًا. شعورٌ باعثٌ على الارتياح. عندما تبلّلَت عُروقه؛ اتّسعت رؤيته للحياة بِهِمّة عزيمة قويّة دافعة للمُتابعة في المسير لبلوغ الهدف المُراد.

 

   والأهداف تُراق دونها أَمْواهُ الحياة بسَخاء، وبلا حساب لا لصغير أو كبير، مَهما عَلَا وكبُر من البشر، ولو كان حاكمًا قابضًا على عصاه الغليظة المُخيفة، إذا هَوَتْ على رأسٍ مليءٍ بالعِلْم والأفكار، ثمّ تَسْحَقه بدم باردٍ.

   كان يُقال: (العصا لمن عصى).

 

   فهل إذا طالبتُ بحقّي في العيش بكرامة، أكونُ عاصيًا..!!؟. وإذا أردتُ استرداد حُريّتي في بلدي، بالتعبير عن رأيي؛ أسْتحقُّ التنكيل والتعذيب والموت، وضياع عُمُري خلف الجدران، وعلى أعتاب الزنازين، وظلامها؟.

  

   في زمن العِزّة في عصر الإسلام الأوّل، لم يُقبَل ذلك من صحابيّ جليل، سابعُ سبعةٍ في الإسلام. خاطَرَ بنفسه بالبحث، وتلمّس طريقه بنفسه، بعدما أيقنَ بما لا يدع مجالًا للشكّ، أو فُسحة للتراجُع.

  

   في الاعتقاد لا مجال للحلّ الوسط، كما لا مكان لقول: لا للحاكم مهما كان؛ فكيف بمن تباعَد الزّمان به تاريخًا عن نور وهدي النبُوّة، ورحمة الأديان بطروحاتها ذات البُعد الرّوحيّ، الذي يرتقي بالنّفس إلى مصافّ السُّمُوِّ الإنسانيِّ الأعلى، وتحثُّ على التراحُم، والقول بالتي هي أحسن، والإنسان أخو الإنسان، والاحترام للرأي والرأي الآخر.

  

    هذه النُّقطة الأخيرة، يبدو أنّها نَبْتٌ عَاقٌّ غير مرغوب به في صحراء العرب، ومتاهات قُصور الحُكم فيها على الإطلاق.

  

   تداعي الأفكار يتصبّبُ كالسَّحَاب المُنهَمِلِ بغزارة.. ما زالت البدايات طازجة حاضرة في ذهني، آلامها.. أحزانها.. دموعها.. آهاتها ماثلةً لا تتزحزح قيد أُنملة، ما بارَحَتْ ساحاتي؛ لأستريح من أسبابها يومًا واحدًا منذ عشر سنوات، يبدو أنّ انتظاري للحظة كنتُ أتمنّاها، جميع المُعطيات تقول: أنّ أمَانِيَّ ستُدفنُ معي إذا وُسِّدْتُ في قبري.

  

   مِثلَ صديقي عمّار.. ألْكانِ مُتشبّثًا في بيته الذي بناهُ بكلّ نفس ذائقة صُنوف الحرمان، ومكابدة هموم الاستقرار ليلَ نهار، عَزّ عليه الخُروج منه، جازفَ بالبقاء مُتجذّرًا فيه. كلماتُه كانت تأتيني عبر الموبايل مليئةً خوفًا وهَلَعًا، من مَنظر العساكر والميليشيات المُتحرّكة في محيط منطقته السَكنيَّة.

  

   كلمته الأخيرة: "الأمور على الله". لا أملك جوابًا إلّا تكرار: "والنّعْم بالله". أربع سنوات كان على انتظار وترقّب اللّحظة التاريخيّة، التي فَرِحنا بها بتحرير "بُصرى" من الميليشيات وقُطعانها، لم تكتمل الفَرحَة، التي انطفأت في عَينيْه قبل يوم واحد فقط من الفرحة الجماعيّة.

   مؤكّدٌ أنّ فرحتني ناقصة، لم تُطربني الأهازيج الفارحة على نطاق واسع، عكفتُ على احتساء أدْمُعي، وأنا أُلملم بقايا نبراتِ صوته، وأضُمُّها على صدري مع نبرات أبي ذرٍّ.

   مشروع القراءة عندي مُتواصل بشكلٍ دائمٍ، أذكرُ أنّني مَرَرْتُ بنَصٍّ قَصَصيّ لـ(باولو كويللو) الروائيّ البرازيليّ، يقول فيه:

(كان الأبُ يُحاول أن يقرأَ الجريدة، ولكنّ ابنه الصغير لم يكفّ عن مُضايقته، وحين تَعِب الأبُ من ابنه؛ قام بقطع ورقة في الصحيفة، كانت تحوي خريطة العالم، ومزّقها إلى قطع صغيرة، وقدّمها لابنه، وطلب منه إعادة تجميع الخريطة،  ثمّ عاد لقراءة صحيفته ظانًّا أنّ الطِّفل سيبقى مشغولاً بقيّة اليوم، إلّا أنّه لم تمُرّ خمس عشرة دقيقة، حتّى عاد الابن إليه، وقد أعاد ترتيب الخريطة؛ فتساءل الأبُ مذهولاً: "هل كانت أمُّكَ تُعلِّمكَ الجغرافيا؟".

   ردّ الطفل قائلاً: "لا؛ لكن كانت هناك صورة لإنسان على الوجه الآخر من الورقة، وعندما أعدتُ بناء الإنسان؛ أعدتُ بناء العالم".

   كانت عبارة عفويّة، ولكنّها كانت بقوّة الإنسان، وذات معنىً عميق، عندما أعدتُ بناء الإنسان.. أعدتُ بناء العالم..!!

   العالم  كلّه يبني.. ونحن نهدم ما بَنَيْناهُ، لماذا؟.

   حقيقة الأمر أنّه غير مفهوم أبدًا، ولا أظنّ أنّ أمْهَر المُفكّرين والعُلماء؛ إيجاد الجواب المُقنع. شبعتُ من وهج الشِّعارات حدَّ التُّخمة؛ فتخدَّرت مشاعري، ليس من السّهل تصديق أيّ كلام.. أيّ وَعْدٍ.. لكنّي لا أطيقُ سماع خطاب زعيم، استقرّ في ذهني مفهومُ الدَّجَل، والكذب المفضوح على الملأ، بلا أدني درجات من الحياء.

   أين بلادنا من إنسانها..!!؟.

قُتل عمّار لأنّه ابن هذا التراب..!!..وهو الذي أفنى زهرة شبابه في خدمة هذا التراب، وصيانته من أي عدوٍّ خارجيٍّ، حسب عقيدتنا الجماعيّة: (حبُّ الوطن من الإيمان).

   بعد سنوات كلّما ذكرناه في جلساتنا الافتراضيّة (أنا ومحمد وفاضل) نبكيه بدُموع حرّى. ولسان حالنا جميعًا يُردّد يقينًا: (وطالبُ العَدلِ من مُعْتَادِ مَظْلَمَةٍ، كطالبِ العَطْفِ من ذِئْبٍ على الغَنَم).

.. *..

 

   مزيدٌ من أفكار تتداعى حضورًا، قادمة من مجاهل الأكوام، ليس أكوام الزّبالة من مكبّات النِّفايات، ولا من تَجَمُّعات المسيرات المُؤيّدة، بل من مَقبرة ذكرياتي المليئة بأحلامي الموؤودة، وأحلامي المُنكسرة، وطُموحاتي المقهورة.

   أعتقدُ أنّ هذا الاستغراق في حالة التّداعي، لم يكن ليُخالطني لولا مُعاناتي للفراغ، الخطواتُ البطيئة ستصل لا محالة بأمان، وإن تأخّر بها الوقت على خلاف السّريعة المُتسارعة بلا حساب؛ بحرق المراحل دُفعة واحدة، إنّها مجنونة بنتائجها غير المحسوبة.

   تداعياتٌ تشكُو إحباطاتها على الدّوام، لم تمسَّها ألوان الفرح في تاريخها الحزين.. كما أنا بالضبط.

   على ما أذكر هُناك طائفة من أمثال تقول:

-        (الفاضي بيعمل قاضي).

-        (قِلّةُ الشّغل بتعلِّم التّطريز).

-        (لا شغلة ولا مَشْغَلة، خُذ منهُ كَثْرَة حكي).

   كحدّ السّيف الرّهيف البتّار؛ الوُقوف أمام الذّات لا يرحم، لا مجال للكذب أو المُراوغة، تتصاغر عظمة الرّجال في هذا الموقف، إذا استقرّ في أذهانهم فُقدان فاعليّتهم، وعلى الأخصّ إذا ما تقدّم بهم العمر، الفئة اللّامبالية من بدايات نشأتها، لن تَفْرِقَ الأمور معها لا بكثير ولا بقليل، لن يَعدِموا ابتكار الوسائل لبلوغ غاياتهم، مهما كان الثّمن الذي عليهم تقديمه، الأمر سيّان على مبدأ: (فلأعِشْ، ولَيَفْنَى العالم من بَعْدِي).

   لا أنا من أولئك.. ولا مع هؤلاء، شاءت الظُّروف حُكمها عليّ بالتعطّل عن القيام بأيّ عمل، ساءت ظُروفي النفسيّة أكثر.. اِنْسدَّت جميع منافذ العمل، كان بحثي دؤوب، والنتيجة حُصولي على وعود خُلبيّة؛ بانتظار اتّصال يأتيني ذات يوم.

   اختلّ نظامي المعيشيّ. سَهَرٌ طويلٌ حتّى الفجر.. نومٌ إلى وقت العصر.. هكذا انقلبت حياتي رأسًا على عقب.. إدمانٌ (للفيسبوك) قَتَل كلَّ تفكيري بقيمة الوقت المهدور، تحوّلت إلى كائن آخر، غير أنا تمامًا، انقلبت مفاهيمي لكثير من الأشياء. ضاعت الثّوابتُ في زحمة الرّغبات لإهدار الوقت، كنتُ أدركُ قيمته، وهل ضاعت محفوظاتي القديمة: (الوقت كالسيف، إذا لم تقطعه قطعك)، بالتوقّف هنا: لا أدري صراحة مَنْ الذي قطع مَنْ، فِعلتي كانت حرقًا لإزالة أيّ أثر له، بالقطع ينشطر إلى نصفين أو أكثر، من المُمكن إعادة لململته، وتشكيله من جديد.

حاولتُ مرارًا.. وحاولتُ الخروج من مأزقي؛ فلم أُفلِح في مَسْعاي، استعنتُ مِرارًا بطلب استشارات من أصدقاء فشلتُ في تطبيق شيءٍ منها، مَثلي كمثَل مرضى القلب المُدخّنين، الذين خضعوا إلى عملية القلب المفتوح، إذْ لم تُفلح إرشادات الأطبّاء في ثَنْيِهِم عن التعاطي مع السّجائر.

   بل كانت المفاجأة المُشاهدَة على نطاق واسع: أنّ التَّدخين أصبح بشراهة؛ للانتقام من أيّام انقطاعهم عنه؛ ولتعويض ما نقص عليهم وزيادة، كأنّ لسان حالهم، يقول: (العمر مكتوب، والموت ما منّو مهروب، والسّيجارة ما بِتْمَوِّتْ حدا، إلّا إذا كان عمره  خالص).

   على مدار أشهر اكتسبتُ مهارات تقنيّة جديدة؛ وصلتُ بها مرحلة الأستاذيّة فيها، والاستشارات تنهالُ عليّ عبر الهاتف والواتساب والماسنجر.

   ومن مجال إلى آخر.. ومن مُنزلق إلى آخر، مُقابل تناقص النّجاحات السّابقة في حياتي، إلّا أنّ استحقاقات المرحلة تسارعت، وانتهت إلى وصلتُ إليه.

   جاءتني فكرة العودة إلى الكتابة بعد انقطاع مُدّة ليست بالقصيرة، بحثتُ عن أصدقائي القُدامى ذوي الباع الطويل في القراءة والكتابة؛ التي كانت المُستغرقة لجُلّ أوقاتهم كما أعرف سابقًا، ولا فراغ لديهم.

.. *..

 

 

 

 

 

 

 

(3)

   مقاييس الفشل أكبر من نجاحات كثيرة.. أمرّغ وجهي بما استقرّ في حنايا ذاكرتي من ملامح أبي ذرّ؛ فَتُبَلّلها دُموعي؛ فَتُندّيها؛ لِتَدبَّ فيها الحياة من جديد؛ دافعة لمُتابعة المشوار الذي أتعب وطني، وعن التنازل عن موقفي.

   لم يكن استقراري مبدئيًا - أنا (فطين) - إلّا في المكان اللَّا مكان، المُفتَقِد لزمان. كنتُ أفترض وجودي به تِلقائيًّا، وهو الفضاء الوَهْميّ  كما تواصلي الافتراضيّ الآن عن بُعد، فضاءٌ أزرق لم يُغيّر من ذاتي وجوهري، ببساطة شديدة: لأنّه لا يمكن أن يَتجسَّد في إطار مكانيٍّ مُعيَّن بالنسبة لي.

   فالمكان لا يتشكّل إلّا باختراق الأبطال له، ولا يُمكن تحديده مُسبَقًا، وفي ذهني لا تتشّكل الأمكنة إلّا من خلال الأحداث بفعل الأبطال، من هنا يكون فَضَائي الروائيّ، هو الذي كتبَ القصّة قبل أن تكتبَها يدايَ.

 

    بلا تنافس مثل الذكريات، عندما تتباعد بها مسافات الزّمن؛ تُصبِح حنينًا وشوقًا حارقًا للماضي.

 

   ولن أدّعي أنّني لستُ ماضَوِيًّا، حتّى لا أكون كاذبًا. جلساتُ التأمّل للماضي تستغرق ساعات طويلة من أيّامي؛ للإجابة على تساؤلات مقطوعة الرَّأس بلا إجابات، تركض لاهثة مُتخبّطة؛ لاستعادة الحياة من جديد.

 

 كان عليّ أن أُعيد توجيه حياتي؛ لتسلكَ حركة دائريّة؛ تُعيدني إلى نُقطة البداية، وعلى قدَر مُحاولتي التّعبير عن فكرتي هنا؛ لأنّها السَّبب الوحيد الذي مكّنني من خوض غِمار هذا العمل الروائيّ خلف الباب.

 

   المُتوافق مع ما أذكره بعد سنوات من مروره على ذاكرتي، عندما انجلت الغمامة، واتّضحت الصُّورة بجلاء نقيّة لا غُبار عليها.

 

   وكلّما أوغلتُ في ذلك المضمار ازددتُ قناعة، بأنّني أسعى إلى تسطير  فكرة حقيقيّة، عايَنْتُها وعِشتُها مع أبطالي، كما أنّه لم يعُد في حياتي التالية دعمٌ للفكرة القائلة: بأنّه مُؤَكَّدٌ انتمائي لقضيّتي، ولن أحيد عنها، بحكم العادة والتباعد عن الوطن، ولا يمكن إقامة علاقة مُتنافرة متناقضة مع مُقتضيات ما أفكّر به.

  

   إنّ المُركّب القصصيّ من خلال هذه الصّفحات: هو جزء لا يتجزّأ من لُبّ مُفرزات الثَورة السوريّة، وهل من سُخرية الأمر العودة إليها بعد هذه المُدّة، التي ناهزت العشر سنوات؟.

  

   إنّما التوكيد على إكمال ما كتبتُ سابقًا في (دوامة الأوغاد) و(الطريق إلى الزعتري) و(فوق الأرض)، وما كنتُ أظنّه نقصًا في دائرتي الثُلاثيّة، ونقلها إلى عام الرُّباعيّة انطلاقًا من خلف الباب، لتكتمل الرّؤية بشكلٍ جليٍّ واضح تمامًا.

      من مركز الدَّائرة انطلقتُ مُحاولًا تعديل وضع المُثلَّث؛ بإيصاله إلى المُربّع المنشود في ذهني. نقلةٌ نوعيَّةٌ تستلزمُ طاقةً، وجُهدًا مُساويًا لمساحة ضِعفَيْ المُثلَّث؛ ليستويَ مُربَّعًا بأركانه الأربعة.

..*..

   وصلتني رسالة عبر الإيميل من صديقي أبي فندي، تزامنت مع الكتابة، وكأنّ يدَ الغيبِ أخبرته: بأمسِّ الحاجة لها، ما أروع الظّروف إذ تآلفت من غير إرادة منّي على تكميل أدوارها.

 

   أظنّ أنّ خبرَ عودتي للكتابة أبهجه. افتراقُنا ربّما سيطول إلى نهاية العمر، و ليقينه، بأنّني لم أعرف شيئًا عنه؛ بعد افتراقنا هناك في البلد قبل سنوات، أحبّ إخباري بتفاصيل لم أكُن أعلمها من قبل.

 

   سأجيء يا فطين، ومعي صفحتي الأخيرة التي دَوّنتُ فيها موقفي، واللّحظات الأخيرة لاستنشاقي هواء الطّمأنينة، واستقرار خفقان قلبي.

 

   وأينكَ يا صديقي..!!.. من حقيقة ظنَنْتُها وإلى الآن، أنّني كنتُ في المكان اللّا مكان، أذكُر تمامًا ما حَكَيْتَه لي مِرارًا عنه، وأضيفُ أيضًا: أنّه الزّمان اللّا زمان.

  

   تناقضت أوضاعنا معه، وتناقض معها الزّمان تمامًا، كما أراكَ أمامي الآن خيالًا، وأنتَ تفتحُ حاسوبك، لقراءة رسالتي، مُتأكّدٌ من أنّك ستقرأها، وتُعيدها لمرّات عديدة قبل توثيقها خلف الباب:

 

   من غير المُتوقّع أبدًا أن يكون أمام بوابة المخيم، وها أنا أستعيد حرارة مشاعري المُتوهّجة بعد سنوات، لم تُغادرني إلى ساحات النّسيان، كما حدث للعديد من فاقدي الذّاكرة.

 

   كنتُ أخاطِبُ (أبو فندي) نفسي، وقْتَها، وعلامات التعّب والإرهاق تبدو على وجهي آثارًا عتيقة علاها غُبار السِّنين:

 

   *[أخيراً ها أنا أقف أمام بوابة الزعتريّ وجهًا لوجه.. لحظات مليئة بالغيظ والكمد، استوقفني شيء ما غامض؛ ليكون لي حديثُ مُطوّلٌ مع نفسي، مُستدركًا على موقفي هناك.

 

   لتثبيت ما حدث معي بدقّة في سجلّ ذاكرتي، ولا يضيع في زحمة النسيان القسريّ، حينما وقفتُ أمام صورة والدي، قُبيل مغادرتي البيت، وها أنا أقف الآن أمام بُوّابة مخيّم الزعتريّ.

  

هاتان وقفتان مختلفتان، مليئتان حسرة وندامة، أيقظتا في ذهني الكثير والكثير.

  

أين قطراتُ دمك يا أبي، وأنتَ تُقاتِل العدوّ الصهيونيّ؟.

ومن أجل أيّ شيء قدّمتَها، وبذَلتَها رخيصةً يا أبي؟.

 

   وهل هذا الشيء الذي ضحيتَ من أجله يَستحّقُ ذلك؟.

وأنتَ يا جدّي، ما الذي بقي لنا من تُراب قبركَ؟.

 

   بقِيَتْ ذكراكَ ماثلةً في عقولنا، وأنتَ تُقارع فرنسا، وها نحن أحفادك تركنا الوطن، الذي من أجله أرخصتَ الغالي والنَّفيس، وصرنا مُهَجّرين مُرْغمين، لا خيار لنا غيره.

  

ها أنا أنيخ رحالي أمام بوابة مخيّم الزعتريّ مُنكَسِر الخاطر، فما كان في السَّابق مُستحيلاً أن تتطرّق له نفسي بِمُجرّد التفكير، ها هو أصبح واقعاً، دوّامة جديدة دخلتُ فيها.

  

صارتْ حياتي جزءاً كئيباً منها، ومَسْخاً من مُسُوخ الذُّلِّ والهوان، هروبٌ من الموت يُسمّى لُجُوءاً.

  

   خاصّة في هذا المكان سيّء السمعة؛ لعدم موافقته لمواصفات العيش والكرامة الإنسانيّة. فهو قطعة من الصحراء، الغبار جزء أساسيٌّ من الحياة اليوميّة.

  

الخيام بائسة كبؤس ساكنيها المُتطاول إلى حافّة القمر، رغم تعاطفي الكبير مع إخوتنا الفِلسطينيّين، نُكِبُوا، ونَزَحُوا، وشُرِّدوا، وانتفضوا، وما زالوا يُقاومون عدوّاً شرساً لئيماً بإصرار، وصمود مُذهل لكلّ بني البشر، بحثتُ طويلاً مُتعمّقاً مُحاولاً الوصول إلى حقيقة مشاعرهم، نظرتهم للحياة، والكون من حولهم، فلم أستطع النّفاذ للبّ وجوهر ذلك، بل لم أزدَد إلاّ بلادةً جامدة باردة جليديّة، إلى أن انقلب الزّمنُ علينا.

  

وانقلب وجه الوطن صقيعًا قُطبيًّا، لفّ حياتنا من أقصاها إلى أدناها، كما (الأسكيمو).

  

نُكِبْنا بالوطن الذي أحبَبْناه، وهو نُكِبَ بنا، عندما تنَكّبْنا لثوابته، ورميْنا بها خلف ظهورنا؛ فجعلناها (شَرْقَ الذَرّايات)، وطنٌ أسَّسْتُموهُ على المحبّة.

  

   فقوّضته ثقافة الكراهيَّة الحاقدة؛ الخارجة طازجة من بُطون الكُتُب، تَفِحُّ بِكِيِرِ الطائفيَّة المقيتة..، ستحرق الأخضر واليابس.

 

   وطنٌ ديست كرامته ببسطارٍ جُنْدِيّه، الذي كان من المُفترَض أن يَحمِيَه من عاديات الدَّهر، وتغوّل البشر.

 

   السيّد البسطار يَدوسُ كرامة النّاس، يسحقُهم بحقد مجوسيّ مَنبوشٍ من تاريخٍ مُشوّهٍ. ربّما تأتيني لحظة أقترفُ فيها جريمة الكفر بالوطن.

  

فما هو الوطن؟. 

 

وما الوطنُ فِيَّ وأمثالي؟.

 

   أعتقد يقيناً أنّني أستطيع أن أشير لِخَوَنَةِ هذا الوطن..!!، الأمر انفضح، لم يَعُد ذلك خافيًا على كلِّ ذي لُبٍّ فَهيم، عندما يقرأ ما خلف السّطور.

 

   فالأزمنة والأمكنة هي أغلفة أجسادنا الفعليّة، فيها تضجُّ حياتنا بأحلامها، وأشيائها الجميلة.

 

   فالوطن هو الزّمان والمكان.

  

   فلماذا تتواضع أحلامنا، وينخفض سقفها إلى لقمة خُبز، وازدادت حالنا بؤسًا؟.

 

   الوطن يستمدّ حريَّته من حُريّة أبنائه، وعندما يُسادُ ببُسطارٍ فوق بُسطار؛ يُحِيلُ حياة أبنائه ليلَ عبيدٍ، ويجعل الذُلَّ أكاليلَ استعْبادٍ واسْتِبْعادٍ.

 

   والمراوغ المُتَلَوِّن - البَيْنَ بَينْ - هادئ مُنَاور بمهارة في ملكوت البساطير. يُقَبِّل هذا ويمسح غُبار هذا. يُلَمِّع هذا وذاك، تغمره السعادة من مفرق رأسه إلى أخمص قدميْه. مُقيم في المنطقة الرماديّة، لا يُكلِّفُ نفسه مَشَاقَّ البحث عن طريق قريبة من الحقّ بعيدة عن الباطل، يجدُ فيها نفسه وهويَّته؛ لأنّه فاقد لها، ويبتعد بأشواط طويلة عن الانتماء الحقيقيِّ لإنسانيَّته؛ ليجدُ نفسه مُلتصقة في لجّة الباطل؛ فيصير وقت ذاك قائدًا، ومُنظّرًا.

  

   مسافات كبيرة تبتعد به عن الحقّ، بعيدًا عن صراعات القِوَى على افتراس إنسانيتّه، المسحوقة تحت سنابك آلتها الهمجيّة؛ فأخَذَ عهدًا: أن يُكوِّن جهة مُغايرة، مُتناقضة مع بُناة خيمة الحُريَّة, فضلًا عن تعزيز ثوابتها، بل راح يتأمّل بخشوع أرضيّة البُسْطار، يحسبُها أنّها السّماء، بل ذهب به الأمر إلى أن تَعَبَّدَهَا بطاعة عمياء، مُتَبَتِّلاً في محراب جُبنِه وخوفه. راجيًا دوام العَلَف، والعزّ في ظلال آلهته.

 

   الأكثريّة الصَّامتة، تُغري السيَّد البُسطار بالمزيد من نهب مُقوّماتها، ظنًّا منه أنّ جُموع المُتجمهرين المدّاحين الردّاحين السَّدَّاحين المُصفّقين، هي جماهيره المؤيّدة الطائعة، باستطاعته أن يأمرها، فَتُطيع وتُجِيب: "سمعاً وطاعة".

 

   تداعي الأفكار قادني؛ لأتذكّر مقولةً من قديم قراءاتي، لـ(ميخائيل شولوخوف)، في  رائعته رواية (الدُّونُ الهادئ):

  

[في كلّ ثورة، في كلّ عاصفة اجتماعيّة؛ يوجد دائماً أُناسٌ يُحاولون خِداع أنفسهم بهذه الفكرة البريئة من الوهلة الأولى..، فكرةِ الحِيادِ السِّياسيِّ، ولكنْ كَمْ من النّاس قادته إلى حافَّة الهاوية؟، وكم من النَّاس دفعتْ به إلى دوّامة مصائب، وعذابات لا حصر  لها ؟.].

   

يا للغرابة ..!!. كيف استطاعت ذاكرتي أن تستعيد ما قرأتُه من سنين بعيدة؟، في هذا الموقف العصيب، وخُصوصيَّة الظرف.

 

   المزيد من تداعيات أفكاري انهالتْ عليّ، وأنا أقفُ مشدوهًا أمام البُوّابة الكبيرة المُحاطة بالأسلاك والحُرَّاس. عيناي مُركِّزتان على لوحة كبيرة جميلة مكتوب عليها بخطٍّ أنيق:

(أهلا بكم في مخيّم الزعتريّ).

  

   عصفتْ بارقةٌ بشريط ذكرياتي؛ فأضاءت غَيْهَبَ الظُّلَمِ في نفسي، لأستمع إلى شاعر المقاومة الفلسطينيّة (سميح القاسم):

"تقدّموا.. تقدّموا، كلُّ سماء فوقكم جهنَّمُ، وكلّ أرضٍ تحتَكُم جهنّم، لن تكسِروا أعماقَنا، لن تهزموا أشواقَنا، نحنُ القَضَاءُ المُبرَمُ".

 

   كما أنّ صديقي الشاعر (سليمان الشيخ حسين) من مدينة (مِصْيَاف)، كتبَ لي ذات يوم تحيّة صباحيّة على صفحتي على (الفيسبوك):

 

   [صدري يُشبهُ واحات حُلُمٍ، وركضُ خُيولكَ الجامحةَ لا يتوقّف، وكان عليّ أن أزرع موْجَ شوق على وِسَادتكَ، وكان على المرايا أن تُريَني وجهي.. كما تعرفَه].

  

   جاءت هذه الكلمات كشحنة عظيمة مملوءة أملًا وتفاؤلًا، وبَلْسَماً شافياً، في توقيتها الصحيح.

  

   وها أنا اللّاجئ أتخشّبُ وحيدًا كَصَنَمٍ منبوذٍ، على بُوَّابة المُخيّم. الحُرَّاس من أمامي، والحدود من خلفي. اِلتَفَتُّ إلى الخلف، وتَفَفْتُ ثلاث مرّات على حالتي الذَّليلة.

  

ولأنّ الظلام يلفّ غفلتي، لم ينتبه أحدًا لفِعلتي. صوتُ الحرّاس يقرعُ سمعي؛ فيُخْرجني من عُزلة غَفلتي؛ لِحثّي، وممن هُم حَوْلي على التحرّك، والدخول؛ فحملتُ حقيبتي، وتفقّدتُ أولادي، بخُطوات قليلة بطيئة؛ وطئت قدماي عتبةَ المخيّم، وأنا أردّد عبارتي الشهيرة:

"لا عتب لي إلاّ على من باع". و"كلُّ أرضٍ تُنبتُ الحبَّ وطن"* ]

ـــــــــــــــــــــــــــ

*مقولة للشاعر محمود درويش.

***

 

 

 

 

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق