إضاءة على المجموعة القصصيَّة
"على قيد اللُّجوء" للأديب والقاص "أحمد أبو حليوه"
بقلم. محمد فتحي المقداد. سوريا
مقدمة:
هو الأدب
الوهَّاج المُتوهِّج سيبقى نافذة نُطِلُّ منها على ذواتنا، وهو المرآة العاكسة
لأحوالنا، وفيما يُكتَبْ من نصوص شعريَّة ونثرية ومقالات وخواطر، جميعها تتوخَّى
المصداقيَّة بمُقاربات، تقترب أو تبتعد عن الهدف.
الأمر الذي
يدفعنا كقُرَّاء للتساؤل حول جدوى الكتابة، أمام آلة الموت القاسية التي لا ترحم،
ولا تُفرِّق بين أجناس البشر، وأعمارهم وأماكنهم. وستبقى القضيَّة الفلسطينية
قبلتنا كعرب ومُسلمين، هو البوصلة الحقيقيَّة لنا، ويكفينا جميعًا أن تكون جذور
بلاد الشَّام ما تجمعنا وتؤلف بيننا، وجميعنا معنيُّون بلا اِسْتثناء للوقوف بكلِّ
إمكانياتنا المُتاحة إلى جانب القضيَّة بلا تردُّدٍ، لدعم صمود الأهل في الدَّاخل
على الأخصَّ أمام الغول الصُّهيونيِّ المُجرم
وبكلِّ تأكيد
فالكاتب "أحمد أبو حليوه" سلاحه الكلمة والقلم، فهو بطبيعته
مُقاوم كونه ابن القضيَّة التي استُشهد والده من أجلها، وفقد معظم أفراد أسرته
هُناك في فلسطين. ولكي لا نفقد الذَّاكرة في مرحلة العولمة التي اِجْتاحت كلَّ شيء
في حياة البشر، ونحن منهم، فلا بُدَّ من التسجيل والتوثيق، للتوعية ولحفظ حوزة
القضيَّة كجذوة مُتوقِّدة في قلوب أبنائها، ولتنشيط ذاكرة الأجيال وربطها بقضيَّهم
الأساسيَّة.
مقاربة لدلالة
العنوان:
العنوان بحدِّ
ذاته قضيَّة ابتدأت ولم تنته، وهو ما يذهب الذِهنُ إليه: "على قيد"،
وهناك كلام محذوف قبل ذلك يجوز للقارئ أن يضع المُناسب المُتوافق مع سرديَّته،
سواء إن كان لاجئًا أو باحثًا. وعلى قيد عبارة تشي بأنَّ الأمر ما زال قائمًا
مفتوحًا على احتمالات معقولة وغير معقولة. "على قيد اللجوء" تعني أن الشخص في وضعية طلب اللجوء، أي أنه ترك بلده.
الأصلي بسبب خوف مبرر من الاضطهاد أو الأذى، ويسعى للحصول على حماية في بلد آخر.
هذا المصطلح يشير إلى أن الشخص لم يُمنح
بعد وضع اللجوء بشكل رسمي، ولكنه في مرحلة عملية طلب الحماية، وقيد المعالجة أو
التأخير، ولكنه لم يُرفض أو يُلغَ بعد، وسيتم التعامل معه في وقت لاحق. يمكن أن تشير أيضًا إلى أن شخصًا ما ينتظر شيئًا
ما بفارغ الصبر.
ظاهرة اللُّجوء
قديمة منذ الأزل، وهي المُنتَج القاتم للحروب والغزو. وبذلك استتبع ذلك ظاهرة
أدبية أسَّست لفكرة أدب اللُّجوء، وقد كُتبت الأبحاث والدِّراسات في هذا المجال.
وفي تتبع دلالة العنوان في الكتاب:
وفي النصِّ الأوَّل من المجموعة (الحجة
فاطمة)
*(بعد النَّكبة تساوى الجميع من بيض
وسود، وأغنياء وفقراء في ظلِّ برد الخيام، وأمام طابور وكالة الغوث)ص13.
وكنتيجة حتميَّة بشريَّة الموت عند
نهاية الأجل:
*(تجمَّع أفراد عائلتنا المنكوبة عن
بكرة أبيها؛ لتشهد هذا الحدث الجلل، وتُشارك في جثمان الحجة فاطمة، آخر من بقي من
أفراد عائلتنا من أيَّام البلاد) ص17.
لتحصل المًفارقة الانزياحيَّة في خاتمة
النصِّ:
*(انتهت طقوس الجنازة الحزينة للحجة
فاطمة بعد صلاة الجمعة، وعاد عدد كبير من الجمع الغفير إلى بين الأجر. غير أنَّ
الجميع فوجئوا عند ذلك المساء، بقدومها؛ لتُقدِّم واجب العزاء للأحياء هناك، ممَّن
بقوا على قيد اللُّجوء)ص18. بهذه الخاتمة غير المُتوقَّعة التي سبَّبت صدمة
للقارئ، لتفتح نافذة التساؤلات المُثيرة للجرح من جديد. ولماذا جاءت تُقدِّم لهم
واجب العزاء؟ ليقينها أنَّهم أموات ما داموا لاجئين، ولا حياة لهم إلَّا بالعودة
إلى ديارهم التي تركوها.
وفي النص الثاني (الموت في غزة)،
وفي العنوان الذي تلاه في النص الذي بعده (الحرب)، وكأن الموت هو نتيجة
حتميَّة للحرب، وسبب وجيه لحدوث الموت بأي شكل مع تعدُّد الوسائل.
*(وحده القصف والدُّخّان يُنثَر
بغزارة على المكان، والموت مُتوفِّر بشدَّة، أينما ذهبت)ص19.
*(فكيف بطفلي بأعوامه الثلاثة، الذي
تفقَّدته في منتصَف هذه اللَّيلة الباردة الماطرة قبل قليل، فوجدته قد فارق الحياة)
ص20.
*(ولكنَّهم جميعًا تطايروا أشلاء إثر
قذيفة سقطت على خيمتهم، أنهت ساعة الفجر دهرًا مُؤلمًا من الانتظار الطَّويل
المُرِّ) ص23.
*(ومع بُزوغ خيوط أشعَّة الشَّمس بُعيْد
الفجر، استيْقظ المكان المنكوب، ومَنْ تبقَّى فيه على مقبرة، وعجوز يغطُّ في الحزن
والدَّمع أمام قبر زوجته التي غادرته قبل سنين، وتركته كالعصف المأكول نهبًا للشوق
والحنين، ولكلِّ هذه الوحدة والخراب والحرب)ص27.
وعندما يغيب الشُّروق عن وجه النَّهار،
وماذا لو غاب بالفعل الشُّروق آية الله العُظمى بكل يقين سيطول اللَّيل ويستطيل
الظَّلام، وهو العنوان الذي عبَّر عن الأم والأب الذين طال انتظارهما لطفل يملأ
حياتهما، لتأتي النتيجة أنه جاء ميِّتًا، ومات معه قلب الأمِّ ودُفنت أحلامها،
التي بقيت متشبِّثة بجثة طفلها الوليد لساعات على غير عادة من يمُتْ، أمَّا والده:
(وسط سيْل من الدُّموع التي غطَّت وجهه عُنوَةً بُعيْد الدَّفن، عندما خرَّ
ساجدًا مُعفَّرًا بالتُّراب في محراب الحزن على قبر وليده) ص31.
وفي نصِّ (ميسان) ذي التوجُّه
الميكافيلِّلي (الغاية تُبرِّر الوسيلة)، ففي خاتمة النص عبارة:
*(المدير يسترق النَّظر إلى إلى فخذي
الأبيض، الظَّاهر كموزة مُقشَّرة من تحت تنُّورتي القصيرة الصَّفراء، في الوقت
الذي كنتُ أنظر فيه بعمق إلى كُرسيه الجلديِّ الفاخر)ص38.
وفي نص (طلقة) والطلقة دليل
الاشتباكات المُتبادلة مع العدوِّ الصُّهيونيِّ، والطَّلقة سبيل من سُبُل الموت
الفرديِّ والجماعيِّ:
*(في زمن الموت والخُذلان والقهر، لم
تُمهله الطَّلقة التي استقرَّت في مُنتَصف رأسه وقتًا أطول للتفكير أكثر في الحياة)ص55.
وفي نص (مفتاح عتيق), والمفاتيح
بقيت في أيديهم ومعلَّقة على صُدورهم قريبة من القلب، رجاء العودة، ليفتحوا بيوتهم
من جديد. يقول:
*(لم يعلم أنَّ الصَّاروخ الذي سقط
للتوِّ، قد أتى على كلِّ أجزاء البيت، ولم يبق منه إلَّا مفتاح عتيق، بقرب عجوز
مُلقى على الأرض يلفت أنفاسه الأخيرة، قبل أن يُشير بيده إلى المفتاح ويموت)ص57.
النصَّان (مفتاح عتيق) و(الموت
الأبيض) هما في خانة اللَّجوء الذي يمثل خطًّا ينحدر من أول الكتاب إلى نهايته،
وهو ما ينطبق على معظم نصوص المجموعة.
الخاتمة:
خِتامًا. ضيق الوقت سيفٌ مُسلَّطٌ على
أمسيتنا، ونذير بانتهاء الفُسحة الذي أتيحت للقائي بكم. سيبقى أن أقول: إن المجموعة
القصصية "على قيد اللجوء" بصميمها منبثقة عن المجتمع مُتخَم بالجُّروح
والنُّدوب الناتئة، والأحلام الموءودة، والآمال المقهورة. وجميع النُّصوص من
المدرسة الواقعيَّة. على محمل لغة سليمة وواضحة دون لَبْس أو تزييف، ومن له أن
يحكي عن صدق عاطفة النُّصوص، وعلى الأخصِّ إذا كان كاتبها ابن القضيَّة.
الكتاب "على قيد اللُّجوء"
بطبيعته مجموعة قصصيَّة، ولوحظ أن نصوصه تراوحت بين الطُّول لتكون قصة قصيرة،
وهناك بعض النُّصوص جاءت أقلَّ بعدد الصَّفحات والكلمات وهو ما يُمكن أن نُطلق
عليه مجازًا أُقصوصة، وهناك أيضًا النُّصوص القصيرة جدًا، وهي ما يُرمَز لها بــ
(ق.ق.ج). وبذلك لم تخرُج المجموعة بأكملها عن موضوع التجنيس الأدبيِّ، على الرّغم
من ثراء واكتنزاتها.
ــــــا12\
7\ 2025
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق