الجمعة، 27 يونيو 2025

التاريخ مادة روائية (رواية بستان المحبة)

 

 

التاريخ مادة روائية

(رواية بستان المحبة. ثريا السيد. مصر)

بقلم. محمد فتحي المقداد. سوريا

 

عندما تصبح المادة التاريخية سُدًى ولُحمةً لعمل مقروء في رواية، يعني ذلك أنَّ السرديَّة الروائيَّة تحتمل إدخال أشكال التعبير اعتبارًا من الكلام الشَّفاهيِّ والمنقول، والموثَّق والمكتوب بجميع ألوانه وأشكاله، فالتاريخ والجغرافيا والمجتمع والسياسة، والعلوم كافَّة؛ مناجم أفكار للكُتَّاب الروائيِّين ينهلون منها، المادَّة الخام، ويشتغلون على تحويلها إلى مادَّة مقروءة.

وعلى اعتبار أنَّ مساحة المقال سُلِّطت على المادَّة التاريخيَّة، أيًّا كان مكانها وزمانها وأبطالها، وفي الذَّهاب مع العمل الروائيِّ، تخضع هذه المعلومات التي قام الكاتب الروائيُّ بتوظيفها، وذلك من أجل خدمة فكرته، ضمن المسار العام لخطِّ الرِّواية، بلا شكٍّ سيخضع هذا التوظيف والاقتباس، لرؤية الكاتب فيمكن الذَّهاب للتدليل الأيديولوجي، إذا كان مؤدلجًا في أي اتجاه، فهنا لا يكون الكاتب مُحايدًا أو بريئًا، إذا ليس هُناك نص بريء على الإطلاق.

وهناك من استوحى من التاريخ العبرة والعظة للتدليل على النَّهج التوعوي الوعظيِّ، من خلال مُقارنة الشيء بالشيء، واستخلاص فكرة جديدة ذات رسالة في اتجاه إصلاحيٍّ. وفي هذا الاتِّجاه كان للرواية التاريخيَّة نصيبًا من الأعمال الروائيَّة، اعتبارًا من روايات "جورجي زيدان"، إلى روايات "علي أحمد باكثير"، إلى روايات "عبد الحميد جودة السحَّار"، وغيرها الكثير والكثير والمساحة تضيق بذكر جميع الأعمال في هذا السِّياق.

بعد هذا المدخل نصل إلى موضوع العنوان. رواية "بُستان المحبَّة" للكاتبة "ثريا السيِّد"، وفي الوقُّف عند ثيمة العنوان، فكلمة "بُستان"  لها دلالة الأشجار والزَّهور وزقزقة العصافير وطيور البطِّ والإوزِّ، والأراجيح والمقاعد والممرات وأحواض النباتات المختلفة، فالبُستان يضمُّ العديد من الأشياء حتَّى سُمِّي بُستانًا. ويحمي هذا الكمِّ من الأشياء سياج يحميه، وبوابة، وحارس.

وفي معين اللغة والمعاجم، تأتي كلمة بُستان: (الحائط الذي زُرِعت فيه أشجار مُتفَرِّقة تُمكِّن من الزِّراعة بينها ، فإن لم تُمَكِّن من الزِّراعة بينها فهي حديقة. وقد عَرفت العربُ قديمًا: البُسْتانُ : جُنَيْنة فيها نخيل متفرِّقة يمكن الزِّراعة بينها، وإِلا كانت حديقة والجمع).

من هنا نتأكَّد من سبب اختيار الكاتبة "ثُريَّا" كلمة بُستان، لدلالة الكلمة الأوسع، لتكون الكلمة الأولى في عنوان روايتها، ولمَّا نتوقَّف في رحاب كلمة "المحبَّة" تتَّضح رؤيتها، وسلامة اختيارها، كلمة بستان على سعة مساحة البُستان ولتعدُّد ما يُزرع وما يُستَنبَت فيه، وهذا يتساوق بطبيعة الحال مع لفظة الحُبِّ والمحبَّة، وبغير المحبَّة تغدو الحياة غابة مليئة بالتوحُّش ولا تُطاق.

هكذا وبعد هذا التطواف، فمنذ الصَّفحات الأولى لرواية "بستان المحبة"، أوحت بأنَّ قضيَّة وادي النِّيل من منبعه إلى مصبِّه كانت منطلق الرواية وميدانًا فسيحًا لحركة أبطال الرواية، واِسْتحضار بعض الأساطير التاريخيَّة الأفريقيَّة، ومحاولة المزاوجة ما بين الماضي والحاضر من خلال عمليَّة إسقاطات، وفي مقابل الصِّراعات القبليَّة المُنتشرة في أعالي وادي النِّيل من منابعه حتَّى مصبِّه، والحروب والهجرة والتهجير وقضايا الرقِّ والاسترقاق النَّاشئة عن هكذا أوضاع شاذَة، نستطيع فهم سبب اختيار الكاتبة للعنوان "بستان المحبَّة".

وللمزيد من التفصيل أقتبس من نقديَّة "د. أحمد صلاح هاشم"، ولكي لا أُكرِّر ما قيل عن الرواية ممَّن سبقني في الكتابة عنها: (تكتب ثريا السيد روايتها كما تُغزل العباءات في الأسواق القديمة: خيوط من الذهب والعرق، وخرزات من الدمع والملح. رواية تمتد بين الجنوب والشمال، الذي مثل منبع النيل ومصبه، وبين قصر الثراء وسفينة العبودية، الذي يمثل التناقض في صورته الناضجة لا المتسرعة، لكنها في جوهرها ليست إلا ملحمة عن الحب المصلوب على أبواب الطبقية والاستعمار الذكوري).

فمن خلال عملها الروائيِّ تريد أن تأخذ معها القارئ والمُتابع، إلى مساحات من طيب العلاقات القائمة على قاعدة المحبَّة الصَّلبة، التي تُبنى عليها المُجتمعات، بعيدًا عن الصِّراعات والحُروب، وبغير ذلك ستبقى الغربان تنعب على خراب الديار، والمزيد ومن الألم والحزن والدموع.   

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق