بائع خُرداوات على الرّصيف. يبدو عليه السَّأم والملل من حركات أصابعه على شاشة هاتفه النقّال. عيناه حائرتان بحركات سريعة باتّجاهات متعاكسة.
لفت اِنْتباهي أشكال النظّارات العديدة المعروضة على البسطة. لم ألحظ حركة شفتَيْه لردّ التحيّة، عدوى لا مبالاته أصابتني.
بصَمْتٍ قررّتُ شراء ثلاث نظَّارات قاتمة العدسات. دفعتُ ثمنها بلا نقاشٍ ولا اِعْتراضٍ. ومضيْتُ.
اِنْتظرتُ عَتْمةَ اللَّيلِ، وفي خَلَوةٍ مُحصَّنةٍ عن المُتلصِّصين. جمعتُ النظَّارات فَوْق بعضها، أنفي لم يشْكُ من ثقلها عندما لَبِسْتُهنَّ. وخرجتُ أتحسَّسُ طريقي بعصا العُمْيان؛ لأتفقَّد مُحيط الدَّار؛ إذْ سمعتُ حركاتٍ مُريبةٍ.
....
كتب. أستاذ أحمد الغماز
لم يبادرني الشك يوما في قدرة الروائي محمد المقداد، بأدواته السردية في التعامل مع اليومي والعادي والمألوف لدى العامة، إلى إعادة صياغته بأدب آسر يلفت الملتقى إلى ما لا يراه، تماما كالمخرج السينمائي الذي يحول (الكلام) إلى صورة. كان كل شيء عاديا لغاية النهايات.
في القصة شخصية مركزية ( بائع النظارات) العجوز، وشخصية السارد الذي اشتغل على الفعل المضارع في حركة الحدث ( انتظرت، شاهدت، اشتريت الخ...) لكن لماذا لم يعمد محمد إلى استخدام تقنية الراوي العليم، الذي يتحدث عن الآخر بصفته يعرف كل شيء؟
أرى أن النهايات التي خطط لها القاص، لا يمكن أن يصلح لها الا الراوي ( الأنا) ولماذا ليلا - برغم النظارات الثلاث - أمسك بعصا الأعمى ليتلمس طريقه؟ هذه هي المفارقة التي قصدها محمد، أن الطريق برغم كل شيء ما زال معتما، وتأويلات أخرى - أرى كقارئ - أنها جاءت للمنهج النفسي الذاتي للكاتب والمتلقي.
....
رد. محمد فتحي المقداد
احمد الغماز مشهدية النص استوعبت الحالة المتفاعلة في نفسي ككاتب. كما تفضلت حضرتك. وكما جاءت قراءتك الواعية للنص وملاحقة صورة البائع. النظارات. عتمة الليل الزمن المغاير، واستخدام حاسة السمع إذا انعدمت حاسة البصر خلف النظارات الثلاث.. لتنوب عنها عصى العميان.. تحياتي لك وتقديري صديقي العزيز دمت متألقا على الدوام..
....
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
تحية طيبة استاذ محمد لقد مررت بالقصة وأثارت فضولي واستوقفتني كلماتك الجميلة وارتايت أن اكتب لك مقطوعة متواضعة نقدية ..فهل تسمح أن انشرها ..مع التقدير والاحترام لمقامكم الكريم
النقد الأدبي لقصة "بائع النظارات" للروائي لمحمد فتحي المقداد
المقدمة
قصة "بائع النظارات" للكاتب محمد فتحي المقداد تُعدُّ نموذجًا للسرد القصصي المكثف، الذي يعتمد على التكثيف اللغوي والإيحاء الرمزي لطرح رؤية نقدية تجاه الواقع المعاصر. تندرج القصة ضمن الأدب الوجودي الذي يرصد العزلة واللامبالاة في المجتمعات الحديثة، مستخدمةً تقنيات سردية حديثة كالانزياح والانزياح الزمني والمونولوج الداخلي. في هذا التحليل، سنناقش البنية السردية، والأبعاد الرمزية، واللغة، ووظيفة الشخصيات، وفقًا لمنهج النقد الأدبي الحديث.
1. البنية السردية والتقنيات الحديثة
تعتمد القصة على سرد ذاتي من منظور الراوي العليم الذي يمتزج وعيه بوعي الشخصية الرئيسية (البائع)، مما يُحدث تأثيرًا نفسيًا عميقًا. نلاحظ الانزياح الزمني في الانتقال من المشهد اليومي (الرصيف) إلى اللحظة الليلية الغامضة، مما يخلق إحساسًا بالقلق الوجودي.
- الانزياح المكاني.
يتحول المكان من الرصيف (الفضاء العام) إلى "خلوة محصنة" (الفضاء الخاص)، مما يعكس ثنائية العلانية والسرية، والظاهر والخفِي.
- المونولوج الداخلي.
- نلمحه في جملة "أنفي لم يشكُ من ثقلها"، التي تكشف عن انفصال الشخصية عن جسدها، وكأنها تراقب نفسها من الخارج، وهو أسلوب شائع في أدب العبث.
2. الأبعاد الرمزية والدلالات
تتحول النظارات في القصة من أداة بصرية إلى رمز متعدد الدلالات:
- العمى الرمزي.. العدسات القاتمة تشير إلى رفض الرؤية الواضحة أو الهروب من الواقع، بينما عصا العميان تعكس محاولة فاشلة للتكيف مع عالم غامض.
- الخردة واللامبالاة: بائع الخردوات يمثل الإنسان المعاصر الذي تحوّل إلى كائن سلبي، تُستهلك حياته في المادة التافهة (الهاتف النقال، البضاعة عديمة القيمة).
- العتمة والليل
- يُستخدم الظلام كرمز للجهل أو اللاوعي الجمعي، بينما "الحركات المريبة" تلمح إلى مخاوف مكبوتة أو تهديدات غير مرئية.
3. اللغة والأسلوب
تمتاز القصة بأسلوب مقتضب يعتمد على الجمل القصيرة والفعلية ("دفعتُ ثمنها بلا نقاش")، مما يعكس جفاف المشاعر وتبلد الشخصيات. نلاحظ أيضًا:
- التكرار: تكرار "النظارات" و"الحركات" يُحدث تأثيرًا تراكميًا يُشير إلى الهوس أو الرتابة.
- المفارقة: السرد البارد لموقف غريب (شراء نظارات دون حاجة) يخلق مفارقة وجودية تُذكرنا بأعمال كافكا.
- الانزياح الدلالي: كلمة "عدوى" تُستخدم مجازيًا لوصف انتقال اللامبالاة، مما يعكس تشيؤ العلاقات الإنسانية.
4. الشخصيات والعلاقات
- البائع: شخصية مسطحة (Flat Character) بلا ملامح واضحة، تعكس التماهي مع الجمود. سكوته وحركاته الآلية تُجسّد أزمة الهوية في المجتمع الاستهلاكي.
- الراوي.. يتسم بالانفصال، فهو يشتري النظارات دون حاجة، وكأنه يشارك في طقس عبثي. تحوُّله إلى "أعمى" طوعًا يُثير تساؤلات حول حرية الاختيار والقدر.
5. السياق الاجتماعي والنقدي
يمكن قراءة القصة كنقد لمجتمع ما بعد الحداثة، حيث:
- الاستهلاك: شراء النظارات دون سبب يُهاجم ثقافة الاستهلاك العبثي.
- العزلة: انكفاء الشخصيات في عوالمها (الهاتف، الخلوة) يعكس تفكك الروابط الاجتماعية.
- الرقابة والخوف "المتلصصون" و"الحركات المريبة" ترمز إلى مجتمع مراقَب تسوده паранойا الجماعية.
الخاتمة
"بائع النظارات" قصة تحمل رؤية نقدية حادة للواقع المعاصر عبر اقتصاد لغوي وانزياحات رمزية عميقة. تنجح في توظيف التقنيات السردية الحديثة (الانزياح، التكثيف، المفارقة) لطرح أسئلة وجودية حول المعنى والهوية في عالم مُفرغ من الإنسانية. ومع ذلك، يُمكن أن يُنتقد غموضُها المفرط أحيانًا، والذي قد يُضعف التواصل مع القارئ العادي.
هذه القصة تذكرنا بأدباء مثل "صموئيل بيكيت" في عبثيتها، و"نجيب محفوظ" في نقدها الاجتماعي، مما يجعلها نموذجًا متميزًا للقصة القصيرة الحديثة في الأدب العربي.
بقلم الناقد عدنان الدوسري . العراق
....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق