الدَّلالات المُعلنَة في لوائح العناوين في المجموعة القصصية
(٣٣٣) ق. ق. ج
بقلم الروائي. محمد فتحي المقداد
ماذا يعني اللوائح؟
مدخل:
ليتضّح في أذهاننا معنى وأصل كلمة اللوحة، علينا تتبّع دروب معانيها المُعجميّة، والمجازيّة في الاستخدام. قبل ولوجنا للمنحى الأدبي الذي سلكناه من خلال اتخاذنا هذا المعنى وتطبيقه على نصوص القصة القصيرة جدًا (ق. ق. ج).
وقد ورد في معجم المعاني: (اللَّوْحُ: كلُّ صَفِيحة عريضة من صفائح الخشب؛ واللَّوْحُ صفيحة من صفائح الخشب، والكَتِف إِذا كتب عليها سميت لَوْحاً)، كذلك(يقال: نظرت إِلى لوائحه. و اللائِحَةُ مجموعة من الموادّ توضع لتنظيم العمل فى هيئة، أو فى مصلحة، أو مؤسَّسة).
واللّائحة شبيهة القانون يترتب عليها عقوبات، وتضمُّ قواعد عامةً مُجرّدةً ولا تختص بفئة بعينها ولا حالة بعينها ولا زمن بعينه، ومُلزِمةً وتترتب عقوبات على من يخالفها، وتختلف عن القانون في أنها لا تصدر عن هيئة تشريعية (برلمان) ولا عن جهة تابعة لها، بل عن جهات أخرى هي في الأرجح جهات تنفيذيّة.
لمحة حول فن ال (ق. ق. ج):
فن القصة القصيرة جدًا هو نوع أدبي حديث يتميز بقصر الحجم والإيحاء المكثف. ظهر هذا الفن في التسعينيات من القرن الماضي، ويعتمد على تقديم قصة كاملة في بضع جمل أو حتى في سطر واحد.
بعض من مميزات وخصائص ال (ق. ق. ج):
*الإيجاز والتكثيف: يتم التركيز على تقديم الأحداث والشخصيات بأقل عدد ممكن من الكلمات، مما يتطلب اختيار الكلمات بعناية فائقة.
*الرمزية والتلميح: تعتمد القصة القصيرة جدًا على الرموز والتلميحات بدلاً من السرد المباشر، مما يتيح للقارئ فرصة للتأمل والتفسير.
النهاية المفاجئة: غالبًا ما تنتهي القصة القصيرة جدًا بنهاية غير متوقعة أو مفاجئة، مما يترك أثرًا قويًا في ذهن القارئ.
*التجريب والإبداع: يشجع هذا النوع الأدبي على التجريب بأساليب سردية جديدة ومبتكرة.
محمد علي الصمادي. أديبٌ فاعلٌ مُتفاعِلٌ، ومُنفَعلٌ بمحيطة الاجتماعيِّ. مُدرِكٌ تماماً بِوَعيٍ لأدنى درجات التغيُّرات الطَّارئة؛ فهو راصدٌ يقظٌ كأنَّه الجُنديُّ القائم على حدود الوطن، حريص كلَّ الحِرْص؛ أن لا يُؤتى الوطن من ثغرته التي يحرسها. ينهل من وعاء اللُّغة؛ ليكتب قصصه والتي هي عبارة عن لوحاتٍ ناقدةٍ وناصحةٍ في سبيل الارتقاء بمجتمعه ووطنه . فهو كمؤشر ميزان الحرارة يتاثر بأدنى شيء
فكرة حول الكتاب والكتاب:
محمد الصمادي واقعي التفكير حتى الصميم. وإن كان متقلب المزاج في كثير من حالاته وأحواله، إنما هو قلق الإبداع المتأجّج في دواخله، ليخرج على شكل نصوص قصة قصيرة جدا، وفي نص "رسالة إلى الذات": (كتب محمد رسالته الأخيرة، ليس لرفيقه الذي خذله، بل لنفسه. قال فيها: "لا تنتظر أن يعكس الآخرون حقيقتك، أنت الوحيد القادر على رؤية ما حققت " ثم طواها، ليبدأ رحلة جديدة بعين الماضي). في هذا النص المُعنون "رسالة إلى الذات" وبتأمّل جاد لتمثيل العنوان لطبيعة النص، يتبيّن أنه وقفة صريحة مع الذات، وموقفه من الصديق والآخرين. فالذات والآخر. وما بين الحقيقة والبحث عنها، وما بين المُنجز النهائي حصيلة حياته التي ناهزت الخامسة والستّين عامًا. تمثلت بطبيعتها في دلالات النص. وحينما يصل الإنسان لمرحلة التأمل والبحث عن ذاته في غِمار منحنيات الحياة، بلا شكٍّ يكون قد وصل لمرحلة النضج والحكمة، حتى يستطيع تقييم موضوعيٍّ شامل مُتجرّد لا يسمع إلّا صوت العقل الواعي بعيدًا عن العواطف.
ومن هذا النص "رسالة إلى الذات" نستطيع الانطلاق للبحث في "الدلالات اللوائح المعلنة في لوائح العناوين" في مجموعة " ٣٣٣". عند الأديب "محمد علي الصمادي". وبملاحقة لمجموعة من عناوين نصوص ال "ق ق. ج" في المجموعة التي تفصح بدلالتها على من مجموعة من اللّوائح.
لوائح الكتاب:
*اللائحة الأولى "قصتي مع التصوير":
وما قاد لهذا الاستنتاج إلّا هذه العناوين: (الظلّ. الضوء. النّقرة الأخيرة. الصورة المنسية. المُصوّر بعقله لا بيده. عدسة الحياة. صورة في عيون الآخرين. الكلمات غير المنطوقة. بين الظل والضوء. الصورة الممزقة). وبتأمُّل بسيط تُعلن هذه الكلمات والجمل بوضوح عن اجتماعها والتفافها على قضيّة التصوير الضّوئي. من خلال معرفتي الممتدة على مساحة سنوات ثمان بالصديق "محمد الصمادي" من خلال لقائي الأول به. حيث كان مديرا لاحتفالية توقيع روايتي الأولى "دوّامة الأوغاد" 2016 في منتدى "آرب آرت" مدينة إربد. وكان يترك دفّة الإدارة ليقود عدسة كاميرته لالتقاط صورًا للوجوه والابتسامات بعفوية تامّة، واصطياد اللّحظة الفارقة التي صارت تاريخًا في هذا الوقت.
وما حكاية المُصوّر الأعمى إلا الرواية التي لم يكتبها ذلك المُراسل الحربي الذي سأل الجندي في خندقه: كيف تُدافع عن الوطن. أجاب: "هكذا"، وضغط باصبعه على الزّناد.
وهكذا فإن التصوير لم يكن إلا هواية في البداية عند "محمد الصمادي" إلى تحولت إلى احتراف مع الأيام، ووثق بعدسته لمعظم الفعاليات الثقافية في إربد وعجلون على الأخصّ، وقد سرقه مسار التصوير من حقل كتابة القصة والأدب بشكل عامٍّ زمنًا طويلًا.
*اللائحة الثانية "الغياب":
والغياب نقيض الحضور واللقاء، وما ينتج عنه من لوعة واشتياق وحنين وقد تجلت هذه المعاني وآثارها في عناوين: (الظل. العطر. المرأة. الكتاب، الليل. الرسالة. النافذة. موعد مع البحر. الرسالة الأخيرة. أشباح الذاكرة. الحرب والغياب. وداع العلاقات السامّة. لهفة القلب. قلق. الجرح. صدى الغياب. لقاء الصدفة. القلب المسلوب. أبحث عنك في غيابك. شوق مؤلم. حيرة القلوب. الوهم والواقع). بتأمّل بسيط لا يحوجنا الأمر عناء البحث للخيوط الرّابطة لهذه العناوين، فإن لم يكن ارتباطها كاملًا بهذه المنظومة؛ ففي بعض طرائق دلالات معانيها القريبة البعيدة تُعلن ارتباطها بوضوح تامٍّ.
*اللائحة الثالثة (الطين والحياة)
وفي هذه اللائحة تتحد العناوين على التعمق لقراءة الموضوع برؤية فلسفية. ففي (الطين الأول. الخطيئة الأولى. المرأة والأرض. كن فكانت الحياة) فالطين والخطيئة والمرأة نواة الحياة بجميع أشكالها. وهو محاكاة للآية الكريمة(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا ۖ وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ۖ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ). الأنعام/٢. وتأويل (خلقكم من طين) يعني: (أباهم آدم الذي هو أصلهم ومنه خرجوا). نتوقف هنا عند إشكالية الطين والتراب ﴿هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون ﴾غافر/ 67. فالتراب أصل الطين بعد أن تخالطه الماء. فالحياة تتولد من تمازجهما فلا حياة بدون ماء.
أما عنوان (الخطيئة الأولى) فترسيمة خطيئة (هابيل وقابيل) ولدا آدم عليه السلام خطّت نهج القتل والعنف وعدم الاستماع للنصح وعدم الاعتراف بالآخر، والرأي والرأي الآخر.
والمرأة والأرض رُكنا الحياة التي قامت على الأرض، التي جرت عليها جريمة هابيل بحق أخيه قابيل لاختلافهما على المرأة، التي هي مُستنبَت الحياة وقطبها الموجب في استمرار النسل والنموّ البشريّ على وجه الأرض.
*اللائحة الرابعة (يوميات متقاعد):
وهي لوحة هامّة من تاريخ البشر العاملين الذين أدّوا مهتهم على مدار سنوات طويلة مكللة بالكدّ والتعب، فمن حقّهم الاستراحة بعد هذه المدّة، وينعموا بالهدوء والأمان، وقد اصطُلح على ذلك بفترة التقاعد، وفي المجموعة "٣٣٣" ورد عدد من العناوين شكلت لائحة "يوميات مُتقاعد" وكلمة مُتقاعِد مُثيرة للاشمئزار بوقعها على النفس، حينما تأوّلوها على أنّها دلالة: (مُت وأنت قاعد). ولا تَسَل عن الانقلاب في حياة من يصل سنّ التقاعد، فهو بمثابة سن اليأس عند المرأة، شعور محبط بانتهاء الصلاحية. فكثيرا ما تتناوب على الشخص حالات من الاكتئاب والتوحُّد والهواجس، مما ينعكس على الحالة العضوية والبدء بمرحلة الأمراض وهجومها المفاجئ، ومكابدة الأوجاع ومعايشة الأدوية بروائحها المُقززة.
ويتابع محمد الصمادي سرديّة عناوينه في لائحة اليوميّات التالية: (يوميات المقعد الخشبية. يوميات الزهرة. يوميات القلم. يوميات النافذة. يوميات البحر)، وعلى الأغلب أن مثل هذه اليوميات هي جزء لا يتجزّأ من الحياة ففيها تسجيل حادثة معينة أو موقف خارق للوضع الاعتيادي، فيلجأ الكاتب لتثبيتها كي لا تضيع في زحمة بين منحنيات وتجاعيد الحياة.
*اللائحة الخامسة (روائح):
تتجلى معطيات وتفاصيل لائحة الرّوائح بعناوين (رائحة الأم. عبق الحنان. رائحة الأب عطر الزمن. رائحة الأطفال. نفحات البراءة. رائحة الأصدقاء. عبق المغامرات). وفي تعدد لوائح العناوين في العطر والروائح. يتبادر للذهن رواية العطر ل"باتريك زوسكند" تروي العطر سيرة حياة جان باتيست غرونوي، الشخصية الغرائبية المنبثقة من عوالم باريس السفلية والمتملكة لحاسة شم إعجازية. تسرد الرواية تطور حياة العطار غرونوي وكيف غدا إنساناً مجردا من مفهومي الخير والشر، لا يحركه إلا شغف لامتناه بشحذ مواهبه في سبر أغوار العطور والروائح، ولا يحدّه أي وازع أخلاقي. وتختلف نصوص محمد الصمادي في أنها واقعية تعالج قضايا يومية ومعروفة، وليس لها أي اتجاه غرائبيّ.
*اللائحة السابعة (المرأة):
ليس مستغربًا اجتماع هذه اللوائح لتعلن هويتها حول المرأة، وما المرأة إلا لأنها تُناصِف الرجل الكون بأجمعه، لا تألو التأخر بخطوة واحدة عن الرجل، وهم متساوون في الجزاء والحساب أمام الله أوّلا، توزن أعمالهم بميزان الخير والشر على حدٍّ سواء. وكذلك أمام القوانين البشرية، والمنظومات الاجتماعية ذات الأعراف والتقاليد الصّارمة بمُحافظتها. وهذه بعض العناوين في موضوع المرأة: (المرأة المتسلطة. الثقافة والزواج. الخوف من الذكاء. حلم سوبّر وومنWomem/ /. المرأة المخلصة).
*اللائحة الثامنة (اعترافات):
وهنا تنشأ قضية "الاعتراف" الشائكة. لمن يكون الاعتراف، وأمام من؟. وهل فكرة كرسي الاعتراف هي المخلص للبشر من عذاب الضمير بخطيئة الجسد والحواسّ؟. كيف لي أن أعترف لبشر مثلي مثله، ولا أدري شيئًا عن خفاياه الخيّرة والشرّيرة. وفكرة الاعتراف لا تنشأ إلا من تبكيت الضّمير لمن يمتلكه. للتخلّص من عُقدة الذّنب وهو الاعتراف الاختياريّ للوصول إلى حالة الطّهر، وهناك اعترافات يُجبَرعليها البشر تحت الضّغط والإكراه بالتهديد بتعظيم طرائق الخوف والترهيب. وفي هذه اللوائح للعنوانات. إنّما جاءت على لسان أديب ليُؤكد حقيقة أن هناك من يعترف لبشر مثله: (اعترافات الزوجة. اعترافات الخطيب. اعترافات الرجل المُتردّد. اعترافات الأنانيّة).
*اللائحة التاسعة (الوطن):
جميع اللّوائح معلقة كجداريات راسخة على صدر الوطن.
(التنازل ليس هزيمة. الغريب في وطنه. الوطن المسلوب. هوية بلا مأوى. رسالة القريب. حنين إلى الأمان).
فالتنازل. الهزيمة. الهوية. المسلوب. حنين. الأمان. المأوى. هذه الكلمات ذات دلالات بخصوص لوائح الوطن الذي اِحْتضن جميع لوائح "محمد الصّمادي" ودلالاتها المُعلنة والخفيّة.
الخاتمة:
والنتيجة فإن اللوائح التي أعلنها القاص "محمد الصمادي" في مجموعته "٣٣٣" كثيرة. هذه الدراسة جاءت على أمثلة للتدليل على طبيعتها، ونصوص ال "ق. ق. ج" بشكلٍ عامٍّ مُنفتِحَة على عوالم من التأويلات التحليلات التي تتقارب أو تتباعد مع روح النصّ ومدلولاته، ومهما حاول النّقد بأدواته ذات السّطوة بتشريح وبعثرة النصّ وإعادة تركيبه. بلا شكٍّ أن تبقى نظرة النّاقد وفق رؤيته وأيديولوجيّة ونظريات النقد، تتلمس جوانب أيّ نصٍّ من منظور مُعيَّن. ربّما تتوافق أو تتقاطع مع رؤية الكاتب.
ومن خلال قراءتي لنصوص المجموعة استنجتُ أنّ "محمد الصّمادي" دوّن نفسه في نصوصه وبطريقة ما. كان تعبيرًا صادقًا كمرآة عكست دواخله من خلال لوائح جاءت على محمل جمع ما بين التصريح والتلميح، والمُباشرة والتورية المُرمّزة، تفاديًا لإشكالات انتقال الواقع إلى عالم الكتابة والمقروء.
نصوص المجموعة طرحت قضايا شخصيّة وإنسانيّة ووطنيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة بأبعاد فكريّة؛ تسترعي الانتباه والتوقُّف في رحابها لاستجلاء العبر والعظات والدّلالات غير المُعلنة، وقامت بتسليط الضوء على الواقع المُثقل بمستويات هابطة، وإبراز الجوانب المضيئة. معالجات تسترعي الانتباه والتوقف في رحابها.
إربد __| ٦/ ١٠/ 2024
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق