الاثنين، 8 مايو 2023

خواطر الكتابة الروائية

فنون الكتابة

 

 

 

 

 


صريف الأقلام

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

محمـد فتحـي المقـداد

 

 

 

 

 

 

 

خواطر روائية

(فنون الكتابة)

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

2023

التصنيف

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المقدمة

 

بحمد الله وتوفيقه

صريف الأقلام.. (صَرَفَ البابُ أو القلم ونحوهما ـِ صَرِيفاً: صوَّت. وفي رحلة الإسراء والمعراج. واصل النبي محمد صلى الله عليه وسلم الصعود إلى مستوى صريف الأقلام!.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثُمَّ عُرِجَ بِي حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوَى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلاَمِ". وصريف الأقلام هو صوت أقلام الملائكة وهي تكتب أقضية الله تعالى!).منقول*.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الأول

 

 

ميدان فكرة

 

 

"ما نفَعَ القلبُ مثلَ عُزلة؛ يدخل بها ميْدان فِكرة"

ابن عطاء الله السّكندري

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


 

عالم الأفكار

 

   أنا أُفكّرُ إذن أنا موجود, ولكن ما أُفكِّرُ به ليس هو على سويِّة واحدة من الأفكار تجاه القضايا المختلفة، وما هو ارتباطي بها, بما لها من تأثير على خصوصيّة حياتي، وما يتعلَّق بها من الطُّرُق الاجتماعيّة أو الاقتصاديّة أو السياسيّة أو الدينيّة, وما يُمكنني في تلك المقالة من رصد هذه الجوانب، التي أرتبط بها من خلال تواجدي في هذا الكون، ولا يمكن أن يخرج عن دائرتها أيًّا كان.

   فإذا أطلقنا الأحكام على تلك الأفكار، ممكن أن نقول عن بعضها: إنّها أفكار حيّة, بما لها من قابليّة على التعامل بها، وتطبيقها في يُسْرٍ وسُهُولة, ويقابلها الأفكار الميّتة التي أثبتت أنّها غير ممكنة التطبيق, كما أنَ الأفكار الخالدة تستلهِمُ روح الحياة فتبقى ببقائها, بينما الأفكار الاِسْتهلاكيّة تأتي كوجبة خفيفة لمرحلة مُؤقَّتة؛ تستنفد حاجتها الوقتيّة.

   وإذا كانت الأفكار تعمل لما هو خير المجتمع ورفعته، فتكون أفكاراً خيّرة, على خلاف تلك الشِّريرة التي تغرس الشرَّ، وتحرض عليه.

   وإذا كانت أفكاراً تستشرف رُؤى المستقبل توصف بأنّها تقدميَّة, وإذا قابلتها الأفكار التي تريد أن تعود بنا لجُمود قُرون خَلَت؛ فتُعدُّ رجعيَّة؛ لجمودها، وعدم اتّساقها مع تقدم الحياة, أي مُتَكلِّسَة غير قادرة على العطاء.

   وإذا جاءت الأفكار بالسِّلم الأهليّ والاجتماعيّ؛ فهي أفكار مُسالمة نابذة للعنف, وتقابلها الأفكار العُدوانيّة الهادفة لزرع الخراب والدّمار؛ لتحقيق المصالح الشخصيّة على حساب الآخرين.

   أما الأفكار التي تُقدِّم الجديد، وتنبذُ العنف والشرّ؛ فهي بنّاءة، بينما الحاضّة على الخراب والدمار في مختلف الجوانب لا شكّ أنّها هدّامة.

لكن إذا وصفنا بعض الأفكار بأنّها عمليّة؛ فلأنها سهلة التطبيق بعيدة عن التَكلُّف, ويقابلها العقيمة التي لا تأخذ بها لا حَقًّا، ولا باطلاً.

أما إذا كان المفكّرون؛ يفكرون بالتخطيط للرُقيَّ ببلدنا فنقول: إنّها أفكار وطنيّة ترتكزُ على حُبِّ الوطن، وصاحبها مُستعدّ للتضحية من أجل وطنه بالغالي والرَّخيص, وإذا ما أتت من خارج الحدود؛ فَنَصِفَها بالأفكار المستوردة، ولا تتطابق مع واقعنا بالكثير من جوانبها.

   ومن خطط ودرس في الجانب الاجتماعيّ توصف أفكاره: بأنّها اجتماعية, وإذا خطّطت، ومشت في طريق السِّياسة؛ تعتبر أفكاراً سياسيّة.

   وإذا كانت تُخطط في المجال الاقتصاديّ، وتدرسُ نظرياتِه، وخططه، فهي ذات نهج اقتصاديّ, وإذا وضعت القوانين النَّاظمة لحركة المجتمع؛ فتكون أفكاراً قانونية.

   وإذا جاءنا أحد المفكرين بفكرة قد أخذها أو سرقها من أي مصدر فنطلق عليها أفكاراً مقتبسة في أحسن الأحوال، بينما في حقيقتها هي مسروقة, وإذا كانت خلاف ذلك قد ابتكرها من فكرة فتكون مبتكرة.

   وإذا كانت تتثاءب غير قادرة على العطاء فتكون أفكاراً كسولة على خلاف تلك النشطة, أما إذا كانت الأفكار مُشرقة نديّة خيّرة سهلة, فهي تكون جيدة صالحة للحياة، أو إذا كانت على غير ما وصفنا لا شكّ بِردَاءتها؛ لأنّها سيئة، ولا تُقدم أيّ شيء، وتستهلك الوقت والجهد.

   أما إذا كان هناك مُفكرون لا يؤمنون بالوحدة، وانحصر تفكيرهم في إطار القُطريّة الضيَّقة، التي لا تتطلّع لما يقطن وراء الحُدود، مما تجمعنا بهم أُخوَّة الدِّين واللُّغة والتَّاريخ والمصير، فتكون تلك الأفكار قطرية, بينما إذا كانت تعالج هُموم الأمَّة، وتتطلَّع لما وراء الحدود؛ لتشمل كلَّ مجتمعات الأمَّة؛ فتكون أفكارًا قوميّة.

   بعد فترة القرون الوسطى ظهرت الأفكار الرأسماليّة، التي عملت على قيادة المجتمعات الأوربيّة باتجاه الثورة, وعلى الجانب الآخر كانت الأفكار الاشتراكيّة، التي عَمِلت على تأميم المصانع والشركات لصالح العُمَّال والفلَّاحين, ولكن الأفكار التي عملت على نشر الثقافة في ربوع مجتمعاتها؛ فنطلق عليها لقب ثقافيّة، على خلاف أفكار الجهل.

***

 

أيضًا "أنا أفكر إذاً أنا موجود"؛ فالأفكار هي السِّرُّ في حركة بناء الحضارة الإنسانيّة, وإذا كانت مُتداولة على نطاق شعبيٍّ، ولها النَّصيب الأكبر في قلوب الناس تُعتبَر أفكاراً شعبيّة. أمّا إذا  كان يُؤمن بتلك الأفكار مجموعة من المُفكِّرين والمُثّقفين نطلق عليها أفكارًا نخبويّة؛ فإذا كانت تلك الأفكار تُقدّم الخير للجميع، وليس لها غاياتٌ بعيدة أو قريبة؛ فهي أفكارٌ نظيفةٌ، وعلى نقيضتها تلك التي نُطلق عليها وَسِخَة, وإذا لم تنهض الفكرة بنفسها؛ فهي ضعيفة, أما إذا أفصحت عن نفسها، ووجدت لها مكانًا بين الأفكار الأخرى؛ فتكون أفكارًا قويَّة, وإذا أمكننا تطبيق تلك الأفكار على أرض الواقع؛ فتكون أفكاراً حقيقيّة, بينما إذا كانت غير مُمْكنة التطبيق أو خياليّة وحالمة ومثاليّة جدًّا؛ فهي وهميّة, وإذا نَطَقت ألسنةُ الأطفال الجميلة بفكرة بسيطة وسهلة؛ فهي أفكار الطُّفولة التي تُبنى عليها الأحلام التي لا تُنسى، أما إذا كانت أفكاراً مكرورة وقديمة، ولم تأت بالجديد؛ فهي أفكار قد شاخت، توصف بأفكار الشيخوخة, والأفكار البيضاء تتَّسم بالنَّصاعة والنَّقاء، أما إذا كانت خلاف ذلك فهي سوداء, أما إذا صادفتنا الأفكار العقيمة، والتي تستعصي على الفَهْم، وعلى التطبيقُ ولم تتطابق مع غيرها بقليل أو كثير في شيء فهي جافَّة, لكنها إذا كانت تتوالد منها الأفكار، وتفتح مساحات واسعة من الأفق، وبُعْدِ النَّظر؛ فهي الأفكار المُوَلّدة.

بينما الأفكار المضيئة هي التي تتلألأ؛ لتفصح عن نفسها بِيُسر وسهولة, بينما الظلاميَّة منها غالبًا ما تنشأ في ظروف مشبوهة في غياب الوُضوح والعلنيّة.

   وهناك الأفكار التي تنأى بنفسها عن الجدال والمراء والتعقيد وسهلة الفهم، ويتّسع صدرها لُمحدّثيها ومُحاوريها، وتفهم منهم ويفهمون عليها فهي الأفكار الهادئة, بينما الصَّاخبة  هي التي تكون كالطَّبل الأجوف ذات صوت عالٍ، وَمُدَوٍّ، وقليلة الخير فقط هي للإعلان عن نفسها، لتكون في الصدارة فقط، مهما كلَّفها ذلك.

   ولكن الأفكار التي تكون ذات جوانب كثيرة، وطرق عديدة توصل لِبَرِّ الأمان؛ فهي الأفكار المُفصَّلة على خلاف تلك الُمجْمَلة، والتي غالبًا ما يكتنفها الغموض, فإذا جاءت تلك الأفكار ضمن شروط مُسبقة، أو غير مسبقة؛ فهي أفكار مُقَيَّدة في الغالب تضيق فيها مساحات الحوار، والصوت الآخر على خلاف وصيفتها تلك، التي تنطلق على سَجِيَّتها بدون عُقَدٍ وشروط؛ فَنُسَمَّيها بالأفكار المنطلقة، وهي جميلة، ومحبَّبة لذوي المهارات والابتكارات والفنَّانين والمُبدعين من الكُتّاب والمُفكّرين.

   ويجيء البعض بأفكار عاديَّة لا ترقى للعمل على الإتيان بالجديد والمُبْهِر, ويقابلها تلك الأفكار السُّوبر التي تخلق من الأجواء العاديّة, أجواء الإبداع والتَطلُّع إلى الأُفُق المُشْرِق، وتزرع الأملَ من جديد أو جُنون  الانطلاق, وهي قريبة لا يفصلها إلّا خيط عن الأفكار المجنونة، التي تنطلق على خلاف الواقع بدرجات كبيرة، بينما إذا كانت تَحْتَكِم للعقل والمنطق؛ فهي أفكار عقلانيَّة أو معقولة.

 وإذا كان المُفكِّر يمشي على هَدْي دينيٍّ، بإمكاننا أنْ نَصِفَ أفكاره بالدِّينيَّة, ولكن إذا ابتعدت أفكاره عن الأديان، وحاربت مبادئ الدين فهي أفكار عِلْمانيّة؛ بمرجعيّتها البشريّة, ولا تبتعد عن هذا الخطِّ تلكَ الأفكار الإيمانيَّة والمُلْحِدَة، إلا ببعض الشّكل عن الدِّينيَّة والعلمانيَّة.

   أما إذا كانت الأفكار ذات ألق يُبهر ناظريه؛ فتكون أفكاراً نيّرة على خلاف تلك الخافتة، والتي تقترب من السُّكون والموت, وهناك من يأتي بالحلول السَّريعة والعمليَّة، ومن كان ذو تفكير بطيء يستغرق الوقت الطويل، وهو يفكر دون اتَّخاذ قرار فتكون أفكاره بطيئة.

   وننطلق هنا لمقام جديد، وهو مقام الحوار: الذي يستند إلى سماع الآخر بهدوء؛ للوُصول إلى نتائج مُرْضِيَةٍ, بعيداً عن التشنُّج  والأنا المٌتورّمة, والبحث عن سبل الارتقاء بالذَّات، وبالأوطان إلى ما فيه الخير للجميع، فهذه أفكار للحوار, وهناك بعضاً من الأفكار؛ لتكون فقط للجدال والمراء والشِّقاق والنِّفاق؛ فهي أفكارٌ فقط للشِّجَار، وهي غالباً ما تعمل على شقِّ الصَّفِّ، وزرع الخراب والدَّمار والبلبلة في الصُّفوف، وهي تعمل على الهدم، ولا تبني بل تهدم ما بُني.

   وتجيء بعض الأفكار بالجديد والخير، والرؤية الشَّاملة للمستقبل، وإضاءة الحاضر، وبيان محاسنه ومساوئه، وتُفصِح عن نفسها بكلِّ قوَّة، وتحترم نفسها والآخر؛ فهي أفكار فاعلة, ولكن إذا انطلقت الفكرة، وانبثقت عن أفكار مُبْتَعِدَة في تكوينها عن الواقع، أو وقعت تحت تأثير الحدَث الجاري؛ فتكون أفكارًا مُنْفَعِلة, وهي جاءت لظرف ما، ولا تنطبق على آخر؛ فهي مُنفَعِلة بغيرها, وما يثيره البعض من أفكار عليلة ضعيفة لا تُعبِّر إلّا عن نفسها، وليس باستطاعتها معالجة أيِّ شيء؛ فتكون مريضة بينما وصيفتها التي تكون على خلاف ذلك.

   ومن جاء بالنَّصيحة لأخيه بأنْ هَمَس بأذُنُه بعيداً عن التقريع والفضيحة، ولوجه الله؛ فنعتبرها أفكاراً هامسة، فهي مليئة بالخير والحُبِّ, بينما من يعمل على خلاف تلك الهامسة، فيكون صاخبًا مُنطلقًا من أفكاره الصَّاخبة, والبعض يأتي بالأفكار التي تزرع المشاكل لمجتمعه وأمَّته من خراب ودمار؛ وهي تكون وبالاً على الجميع, بينما من يأتي بالحُلول الهادئة، والخيِّرَة لمعالجة المشاكل وفتح نافذة في الجدار؛ فهي تكون كالدواء للمريض وتكون شفاءً وبلسمًا  لحالة مرضيّة مُجتمعيّة.

   وختام الأفكار، إنّ الخير والشرَّ: هما الميزان الذي توضع فيه كافّة الأفكار؛ فإذا ما حقّقت العدالة الاجتماعيّة والرَّخاء والرفاهيَّة؛ فهي بنَّاءة وخيِّرة، وإذا ما كانت سبباً في شقاء المجتمعات فهي غير ذلك، وهذا ما بَزَغ في ذهني من قراءة لموضوع الأفكار..، وهناك مُتَّسع للباحث في هذا المجال أن يُصنّف ويُركّب ويُحلّل؛ لتجلية الأمر على أفضل وجه، وأحسن نتيجة.

.........................

ملحوظة: (كتبت هاتان المقالتان عوالم الأفكار 1+2- في العام 2010، وكانت جُزءًا من كتاب مقالات مُلفّقة ج1)

 

 

 

 

الكاتب بين القرار  والقلق

 

   بداية لنتفّق على كلمة كاتب، تكون مُصطلحًا للتعبير عن مدلولات بِعَيْنها، تتمثّل في المُفكّر والفيلسوف والشاعر والقاصّ، وغير ذلك ممّا يتعلّق بأوجه التدوين والإبداع، بمختلف أشكالها وأنواعها بتشكيلاتها الثقافيّة.

    ولنتوقّف عند كلمة، القَرَار للتثبّتُ من مُقاربة معناه على وجه الدّقَّة: هو الرّأْيُ يُمضيه مَن يملِكُ إِمضاءَهُ، بأمر صادر عن صاحب نفوذ أو رأي، بالاستقرار والثّبات على رأيٍ مُعيّن. وكما ورد عن سيّدنا عليّ بن أبي طالب: "ولا رأيَ لِمَن لا يُطاع".

   والقرار عند الكاتب كما أراهُ، هو الاقتناع فيما بينه وبين نفسه، بالاقتناع للتوقّف عند نهاية الفكرة، أو المُتابعة. والاقتناع إمّا يكون ناتجًا عن عجزه عن مُجاراة إشباع الفكرة إذا كانت قويّة، وإيصالها إلى قرارة مُنتهاها في دائرة مركزها الاقتناع منه أو من قارئه.

   وإمّا أن يأتي عدم اقتناعه، لعدم رِضاهُ عمّا كتبَ، ويطمح للأفضل ووصولًا بفكرته إلى مرحلة التألُّق والتفرُّد، هنا تتجلّى المُنافسة على القمّة، وهو ما نعني به التفوّق على محيطها من الأفكار المماثلة لها.

   أمّا المساحة المُتاحة للمنافسة واسعة تبتلع المزيد والمزيد بلا توقّف، وفي بعض الحالات ربّما لا تتّسع، وهنا تتكوّن فكرة المُستحيل المُقيم في رؤوس العاجزين  والكُسالى، ممّن اِسْتَمْرؤوا الرّاحة مُؤثرين القُعود، وعدم المُغامرة، إمّا لنفاد هِمّتهم بإظهار عجزهم، أو خوف الفشل الذي يُفقدهم الكثير، وما دروا أن الفشل طريق النّجاح، والقدرة على مُقاومة أسبابه ودواعيه.

   لكنّ إفراد المساحات الذهنيّة عند الكاتب، لا تأتي أبدًا من فراغ، بل نتيجة معارفه المُكتنزة، وخبراته المُكدّسة في مُستودعات ذاكرته؛ يستدعيها عند اللّزوم لِمَلْءِ هذه المساحات باقتدار وثِقَةٍ، وتبقى الخيوط مشدودة بيده: وهو ما نعني به القّدرة على اتّخاذ القرار، وذلك من خلال تشكيل حالة من المُمْكن وَصْفها بظاهرة، جديرة الالتفات إليها، والتوقّف في رِحابها للقراءة والتأمّل والدّراسة والمُدَارَسة. 

   كثير من الكُتّاب يصل إلى مرحلة من تشكيل هُويّته الأدبيّة في جنس مُعيّن؛ فيتوقّف عند ذلك، مُدّعيًا بأنّه أصبح ذو بصمة محجوزة باِسْمه، ومعلوم أنّ البَصمة هُويّة غير قابلة للانتحال والتزوير أبدًا، وهو استعارة من بصمة الإبهام بدوائرها الدّقيقة، يستحيلُ تشابهها بين بني البّشر. برأيي أنّ هُناك البصمة العاديّة، والأخرى الذهبيّة.

النقد بين الإبداع  والشخصنة

 

الكاتب كما اتّفقنا سابقا هو (الشاعر والروائي والقاص والمفكر والفيلسوف.. إلخ)، يكتب أوّلًا لنفسه تلبية لرغباته وهواجسه، وفيضانه الإبداعيّ، ومن ثمّ هذه الكتابة لا يمكن أن تبقى حبيسة الأدراج والملفّات، وبذلك هو يتوجّه بها إلى محيط قريب بدائرة محدودة، ثمّ إلى دوائر تحتلّ مساحات أوسع فيها الكثير من الجماهير، الجاهزة القابلة لأن تقرأ وتستمتع.

وبذلك يكون  هذا المنحى هو الذي يرومُه أيّ كاتب، الوُصول إلى أبعد مدى من المُتابعين، ويتردّد اسمه في كلّ محفل ونادٍ، ويكون بذلك قد ضرب عصفوريْن بحجر واحد، رسّخ اسمه في سجل الخُلود، ونال من الشهرة والألقاب بما يُشبع نَهَمَه في وصول رسالته، وذلك ربّما يُرضي غروره.

هنا تتولّد مُعضلة الصّراع ما بين الاحتراف الأكاديميّ، المُقَولَب في أطُر النظريّات النقديّة الجاهزة، بمساقاتها الواضحة الرّاسخة؛ فيحصل صراع خفيّ، وأحيانًا يتطوّر للعلنيّ، على شكل معارك أدبيّة، تحت غطاء المحافظة على اللّغة، وكسر القوالب المُتعارف عليها، المعلومة للقاصي والدّاني، وعلى هذه الشاكلة تبدأ المُناكفات لتأخذ منحنًى صِراعِيًّا، ليأخذ مسارًا شخصانيًّا مُتحوّلًا عن مُهمّته الأساسيّة، وبذلك تتضّح حقيقة الصّراع مع الكاتب الذي حلّق في سماءات الإبداع بلا حدود.

   تبيّن أنّ ذلك مدعاةٌ للتنافس على من سيكون في المقدّمة، وهو مدعاة للتحاسد والتباغض الناتج عن الحالة الإبداعيّة عند الكاتب، وربّما تكلّسها عند الأكاديميّ، وتنشأ حالة من الكراهيّة الخفيّة والمُعلنة، لتتحوّل إلى شخصنة بفجاجتها، وسيبقى الإبداع بلا مَوطن لا حدود له، والمبدع سواء كان هاويًا أم أكاديميًّا؛ فهو منجمٌ مقصودٌ لطلّاب الدّراسات الأكاديميّة لنيْل مراتب الشّهادات الجامعيّة العليا والأبحاث.

 

 

 

 

الكاتب بين الفكرة والتدوين

 

   كما اتفّقنا على مصطلح الكاتب هو لمجموعة مُسميّات (الشّاعر والروائيّ والقاصّ والمُفكّر والفيلسوف.. إلخ).

   تبدأ المرحلة بمخاض صعب عند  ميلاد الفكرة، تُؤرّقه.. تُحرّقه.. تقضّ مضاجعَه؛ فلا راحة ولا استراحة، تحرمه النّوم، كلّ ذلك حتّى تتضّح معالمها، وتفتح أبوابها المُسْتَغلِقة على صاحبها، وتُسلمّه مفاتيحها، وتبسطُ له أرديتها بِسَاطًا له، تَحُنُّنًا منها وإشفاقًا؛ لتأخذ مكانها في ورقة، فتخلُد بحبورها لخلودها الأبديّ ماثلة في عقول وقلوب القُرّاء.

   بالانتقال إلى إدارة الفكرة، وهو ما نُطلق عليه: المهارة والتألق والإبداع، ولكلّ كاتب طريقته في التّعبير عنها، ولو أعطينا الفكرة نفسها لعشرة كُتّابٍ، وطلبنا منهمُ الكتابة في نفس النّقطة؛ لجاءتنا عشر نسخ إبداعيّة مختلفة تمامًا، رُبّما تتشارك أو تتقاطع بقليل أو كثير من مُؤدّياتها.

   مؤكّد أنّ لكلّ فكرة مكتوبة أو مقروءة أو مرئيّة رسالة، واضحة جليّة، أو مُستترة فيما وراء الخطاب للترويج.. للتغيير.. لإعادة تشكيل الرأي، وهذا النوع يقف وراءه أساطين تشتغل عليه ليل نهار، بلا كللٍ أو ملَلٍ، لإيصال رسالتهم ورؤاهم، مُنتظرين ساعة الصّفر عند التنفيذ، وإن تباعد الزّمن بهم. 

   وما جدوى الحياة إذا لم تُؤسّس على فكرة هادفة، لتكون مُنطلقًا بنائيًا حضاريًّا يمتلكُ أسباب قوّته الذاتيّة الضّامنة للبقاء، والانفتاح على الآخر بتلاقحات مُنتجة للسّلم الاجتماعيّ، وإرساء قواعد المحبّة والتّعاون بين شُعوب العالم, والابتعاد عن التوحُّش والخُشونة، لتحيا الإنسانيّة عُمومًا بخير وأمان وسلام. حياة بلا أفكار لا تُعتبر حياة، فينطبق عليها قول الحقّ سُبحانه وتعالى: (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَٱلْأَنْعَٰمِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) *سورة الفرقان-الآية 44.

-أو (كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) *سورة الجمعة الآية 5. باستشهادنا هذا بالآيتيْن القرآنيّتيْن الكريمتيْن، تتبيّن لنا أهميّة الأفكار للحياة، والمستقبل لأصحاب الأفكار الخلّاقة.

 

 

 

 

 

الفكرة بين الخط الهمايوني والميلودي

 

   كما اتّفقنا سابقّا على مصطلح كاتب: (الشاعر والروائيّ والقاصّ والمُفكّر والفيلسوف والإعلاميّ.. إلخ).

   الذّهاب في عالم الأفكار سياحة فكريّة ممتعة حقيقة، ليس لدى جميع القرّاء بالطّبع، والإبحار عميقًا في بواطن المُصطلحات والقِيَم المُثقّفة، تحتاج منّا لرويّة وصبرٍ وأناة، لإيضاح ما ممكن أن نصل إليه.

   ففي المقال السابق (الكاتب بين الفكرة والتدوين)، كان التّركيز على ولادة الفكرة بداية، ومن ثمّ في مرحلتها الثانية التدوين، لتصبح في عالم المقروءات مادّة حيّة نابضة بالحياة.

   الكاتب عندما يمتلك فكرته، فهو بمثابة السّلطان عليها بامتلاك زِمامها، وهي وثيقة بيده، يوقّعها بكتابتها وتدوينها؛ لتكون بين أيدي قُرّائه من نافذة المقال أو القصيدة أو القصّة أو الرواية أو الخاطر.

   وهو بهذا لا يختلف عن السّلطان العثمانيّ الذي بيده حصرًا، صلاحيّة الكتابة والتأشير على الوثائق، التي كان يُخاطب بها الصّدر الأعظم (رئيس الوزراء) أو أحد وزرائه. وأوّل من استخدم الخطّ الهمايوني هو السّلطان عبدالمجيد يكتبُ على الوثائق باللون الأحمر أو الأسود.

   وهذا الشّرح ينطبق تقريبًا في كثير من جوانبه على الكاتب. وهو مُصطلح دبلوماسيٌّ لوثيقة أو مُذكّرة، مكتوبة بخطّ اليد تتّسم بطابع رسميّ، يصدر عن ديوان الخلافة السّلطانيّ.

   ولتكون الفكرة ذات اتّساق موضوعيّ، ووجهة عامّة لها بكافّة حيثيّاتها، لا بدّ أن لها من خط أساسيّ تنتهجه لتأدية مفهومها الرّساليّ عُمومًا، وهو الخطّ الميلوديّ لها. هذا المفهوم استعرتُه من النُّوتَة الموسيقيّة لأيّ لحنٍ مُتكاملٍ لمقطوعة سيمفونيّة أو أغنية طويلة كانت أم خفيفة.

   وللتعبير عن دروب الفكرة بمؤدّياتها بين الأدبيّ والتصوير الفنّي، وما يتفرّع عنها من وصف وبلاغة وتمثيلات تشبيهيّة، هي بمثابة الخط الهارموني لها، تأتي بمُوازاة الخطّ الأساسيّ للفكرة، وخادمًا ومُكمّلًا لها، لتتّصف بالإبداعيّة.

   وبالتالي فإن الهمايوني هو الفكرة حينما تكون بيد كاتبها، يشتغل عليها من حين ولادتها، لتأخذ معه ميلوديّتها، وتتفرّع إلى أنساق هارمونيّة، لتنتهي مُدوّنة ناصعة باهرة راسخة في العقول قبل الورق، تتناقلها الألسن في مجالس الأدب.    


 

الكاتب الذّبابة

 

   من المُفزعِ لي، لو ظنّ القارئ للوهلة الأولى وصفي لكاتب بأنّه ذُبابة. سيكون ذلك بكلّ تأكيد إهانة عظيمة لذوي الفكر والكفاءات؛ عندها يتوجّب عليّ لَبْسَ دروع الدّنيا كلّها لاتّقاء السّهام التي ستُصوّب انتقامًا منّي، أو أُتّهم بالعُنصريّة ومُعاداة السّاميّة، وبالتالي؛ سأكونُ مطلوبًا لمحكمة العدل الدُّوليَّة، ودمي مهدور في العالم أجمع، ولن أستطيع السّفر من قرية إلى أخرى، لأنّ العدالة الدُّوليّة ستتعقّبني، ولا أشكّ في ذلك أبدًا.

   مُتفّق سابقًا على مُصطلح كاتب: (الشاعر والروائيّ والقاص والمُفكّر والفيلسوف والصحفيّ.. إلخ). 

   لكنّ مَنْحَى المقالة هذه بعيدٌ كلّ البُعد عن دلالة الذّبابة الحشرة القميئة، بل هي "ذُبابة سُقراط". يُقال: بأنّ أفلاطون وصفَ أستاذه سُقراط: "بأنّه كالذُّبابة، التي تلدغُ الخيل؛ فتدفعها إلى الحركة. قائلًا: بأنّ حِواراته الفلسفيّة؛ تلدغُ البشرَ، وتدفعهم إلى التفكير والتبصُّر". 

   وهذا المنحى الذي أحاولُ تطبيقه على الكاتب، بإثارة التساؤلات الكثيرة والمُتكرّرة: "لماذا.. لِمَن.. من أجل مَنْ.. مِنْ أجل ماذا، يكتبُ الكاتب". أعتقد أنّ المقالة غير معنيّة بالإجابات المُقنعة أو غير المُقنعة، أو سَوْقُ الأدّلة والبراهين على صحتّها أو خطئها. إنّما هي مُقاربات للواقع.

   وفي مقولة للكاتب "فرانز كافكا": "على الكاتب أنْ يكونَ الفأسّ؛ التي تكسرُ ما في دواخلنا من جليد". أظنّ هُنا بانَتْ هُويّة المقال، والمطلوب من الكاتب. سأورد استشهادًا آخر، للكاتب سلامة موسى: "إنّني العُضو المُقلق للمجتمع المِصريّ، مثل ذّبابة سُقراط؛ أُنَبّهُ الغافلين، وأثيرُ الرّاكدين، وأُقيمُ الرّاكعين الخاضعين".

   وقصّة سُقراط كما ذكرها كتاب "قصّة الحضارة ويل ديورانت": (عندما هَمّ حُكّام اليونان بإعدام سُقراط، بِتُهَمٍ تتعلّقُ بإفساد عُقول الشّباب، وزعزعة البلاد بسبب أفكاره. فقال لهم: "عند إعدامه، أفضل لهم أكثر منه"؛ فقالوا: "كيف؟". قال لهم: "أنا كمثل الذُّبابة، والأمّةُ كمثل الحصان السّمين؛ فهي تُساعده على الحركة، وهي حافزٌ كبير ؛لكي يتحرّك وينتفض).

   ورغم عُمق مثال سُقراط؛ لأنّ غرور قاتليه، منعهم من فَهْم ما قال، وأعدموه. أخيرًا، وفيما قاله سلامة موسى: "إنّني مُوفّقٌ دائمًا في كَسْب الأعداء"، وهو حال لسان كلّ كاتب، إذا حادَ قيْدَ أنمُلةٍ عن السّائد للعُموم.

 

الفكرة تحت مطرقة الأستطيقيا

 

   الغرضُ النَقديُّ بشكلٍ عامٍّ يتناول الفكرة ومُنتجاتها؛ فإذا لم يوجد لها أساسًا، فما الذي سيدرسه؟. لذلك لا بُدّ من وجود مُستوى أفكار ذات مُحتوى أصيل، تحتوي على الجمال بذاتها، ليست بحاجة لمُحسّنات لتجميلها، وعلى هذا تكون الفكرة الذهبيّة؛ وهي الأقوى الأرقى، وهناك ما دونها إلى أقلّ المُستويات دُنُوًّا لتلتصق بالقاع الموحل.

     فالمساقات العقلانيّة بفلسفتها لعلم الجمال، ذات بُعدٍ زمانيّ تعود إلى عصر النهضة في القرن الثامن عشر، وأخذت بتطوير رؤيتها للتقييم على أساس أنّه علم له أصوله ومناهجه، القادرة على رؤية الأفكار بشكل مختلف عن ظواهرها، ولكن من خلال الغوص العميق في دلالاتها، وسَبْرِ كُنهها، وأخذها بطرائق تشابهاتها ونظائرها القياسية، بتطبيقاتها للخروج بتوليفة أدبيّة ذات قيمة يُعتدّ بها.

   نعود لاتفاقنا على مصطلح الكاتب: (الشاعر والروائي والقاصّ والمفكّر والفيلسوف والصحفي.. إلخ).

   الفكرة لدى الكاتب هي معرفة بالدّرجة الأولى، وغالبًا ما يكون واعيًا لها، يستطيع الكتابة عنها تأصيلًا وتوثيقًا، والأروع إذا كان قادرًا للدّفاع عنها من باب معرفته الدّقيقة بمساراتها ومُنْعرَجاتِها، وقد تبنّاها عن قناعة تامّة، لتكون مشروعه الرِّساليِّ، المُراد له الحياة، وهو راجيًا لها الخلود.

   فالفكرة الذهبيّة خالدة بهذا المفهوم، ولا تأتي من فراغ أبدًا، ولا من العدم أو المجهول، بل هي رؤية الكاتب المُنبثقة عن خلفيّات، ذات أبعادٍ اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسية ودينيّة واثنيّة وعرقيّة؛ تحمل بين يَديْها أسباب بقائها ونمائها، وتألّقها وجمالها، وهي الفكرة التي تستحقُّ أن تُدرَس وتُدرَّس جماليًّا على أيدي عُلماء الجمال.

   زمن المُمكن أن تحمل أسباب فنائها؛ إذا كانت حاملة فيروسات الطّيْش الغاضب، بردود الأفعال المُتعصّبة، وبثّ الكراهيّة الإنسانيّة، والعنصريّة، واللّعب على أوتار الخلافات وتأجيجها، وإثارة النّعرات، وتحريك الرّاسب الآسن في مُستنقعات القذارة البشريّة، فاتحة لأبواب الشّرور الجهنميّة الحارقة لأسباب العيش المُشترَك،  وبذلك تكون مِعْوَل هَدمٍ لمجتمعاتها.

وبالعودة إلى مصادر ويكبيديا، لمعرفة نبذة تاريخيّة عن علم الجمال، والجماليّات، أو علم المحاسن: (علم الشهوات والزين أو الأستطاقيّة (بالإنجليزية: Aesthetics)‏، أحد الفروع المتعدّدة للفلسفة، لم يُعرفْ كعلمٍ خاصٍّ قائمٍ بحدِّ ذاته، حتّى قامَ الفيلسوف (بومجارتن) (17141762) في آخر كتابه "تأملات فلسفية" في بعض المعلومات المتعلّقة بماهيّة الشِّعر 1735، إذ قام بالتّفريق بين علم الجمال، وبقيّة المعارف الإنسانيّة، وأطلقَ عليه لفظةَ الأستاطيقا ‘‘‘Aesthetics"، وعيّن له موضوعًا داخل مجموعة العلوم الفلسفيّة.

   وهناك من قال بأنّ: الجماليّات هي فرعٌ من فلسفة التّعامل مع الطبيعة والجمال والفنّ والذّوق. علميًّا، عُرّفت على أنّها دراسة حِسيَّة، أو قِيَمٍ عاطفيّة، التي تسمّى أحيانًا الأحكام الصّادرة عن الشعور، والباحثون في مجال تحديد الجماليّات اتّفقوا بأنّها: "التّفكير النّقديّ في الثقافة والفن والطبيعة".

   *اليونانيون كانوا يرون أنّ الإله يجمع بين الجماليّات البشريّة الكاملة، وأنّهُ المثال المتكامل السّامي للإنسان.

    *هربرت ريد، عَرّف الجمال: "بأنّهُ وحْدةُ العلاقات الشّكليّة بين الأشياء التي تُدركها حَواسّنا. أمّا هيجل، فكان يرى الجمال: "بأنّه ذلك الجنّيُّ الأنيس الذي نصادفه في كلّ مكان".).

تشاركيّة الفكرة

  

بِولادة الفكرة تُصبح حقيقة ثابتة بين يديّ صاحبها، ومالكها الأوّل المُبتكر لها؛ وسيحصل على براءة حقّ الملكيّة الفكريّة لها، من خلال التّوثيق لها في دوائر المكتبات الوطنيّة في البُلدان المختلفة، ويُسمَح له بنشرها للتداول من خلال كتاب مطبوع للجمهور عُمومًا.

   وما دامت قد أُتيحت من خلال نوافذ البيع، أو التوزيع المجانيّ، وذلك بهدف نشرها لتعميم فائدتها المعنويّة، أو الماديّة لصاحبها، والتأثير برسالتها إذا كانت تحمل مضمونًا مُعيّنًا في أيٍّ من مجالات الاجتماع والاقتصاد والسِّياسة والدّين والجُغرافيا والتّاريخ.

   من خلال ما تقدّم: لا يُمكن أن تكون قضايا الفكر والآداب، خاصّة بمؤلّفها أو مُبتكرها؛ فهو لم يكتبها، ويعمل على نشرها من أجل نفسه، بل يقينًا من أجل الإنسان، وهو بذلك يتنازل طوْعًا عن خصوصيّتها الحصريّة بنفسه؛ ليتشاركها مع الآخرين؛ ليتناولوها بالقراءات والدّراسات النقديّة والتطبيقيّة.

   فهم بذلك أصبحوا شُركاء في الفكرة مع صاحبها الأساسيّ، ومن  الممكن أن يشتغل عليها مُشتغِلٌ، بالتطوير والتحديث، لإنتاج واحدة أخرى تتصّل بجذورها مع السّابقة، ورُبّما تسبق الأصليّة، وتأخذ مكانها من خلال نظريّة، أو اكتشاف جديد، وتتحوّل الأنظار، وتُسلّط الأضواء على المُطوّر، ولا يُذكرُ أبدًا مُبتكرها الأوّل في زحمة الاحتفاء بها تحت الأضواء.

   الفكرُ يبدأ فرديًّا، ويترعرعُ جَماعيًّا، بصيغة ما تتجاوز الحدود والحواجز والموانع؛ لتأخذ أبعادًا ومَداياتٍ إنسانيّة أعمّ وأشمل، وبذلك لا مَوْطن للفكرة، بل هي مُلْكُ البشريّة عامّة.   

الفكرة ذات الجَرْسِ الموسيقيّ

 

   للأفكار قيمةٌ ماديّة ومعنويّة عالية في ذهن من يُقدّرونها، ولا وجه للمقارنة بينها وبين العادية، أو التي ما زالت لم تروِ نُضجًا في عقول أصحابها، فضلًا أن تُنشر للعلن وللعموم.

   وهي دليل ذهنيّة وعقل الكاتب، ومدى اتّساع آفاقه المعرفيّة بشواهدها وأدلّتها وحيثيّاها، وتكليلًا لموهبته ذات القابليّة الإبداعيّة المُتزاوجة بتقنيّة الصّنعة الكتابيّة في كافّة مجالاتها الفكريّة والأدبيّة.   

   فنحن نقف الآن على أعتاب فكرة ناضجة بتفرّدها، وبطرحٍها الجريء الجديد المُبتكر الجدير بالاهتمام، لعلنّي لا أغادر الحقيقة، إذا أطلقتُ عليها الفكرة الذهبيّة، وفي المجال الأدبيّ هو ما سأذهب إليه في هذه العُجالة. وفي الشّعر بجميع أشكاله وألوانه، هناك الموسيقى الخارجيّة المُتولدّة عن استخدام الأوزان والقوافي والمُحسنّات البديعيّة، لتخلق تناغمًا لائقًا سَلِسًا داهِشًا بفنيّه عالية المُستوى، وهو ما تتجلّى فيه قُدرات الكاتب الموهوب أو غير ذلك.

   بالتوفيق بين الموسيقى الخارجيّة والدّاخليّة، ندخل في التنظير  للجرس الموسيقيّ للفكرة، عند استلهامنا النغم الخفيّ المُتولّد في أنفسنا، عند قراءتها الأعمال الأدبيّة المميّزة سواء كانت شعراً، أو نثراً؛ فنغمة باعثة للحماس فينا، و أخرى جالبة للحزن والكآبة، ومثيرة للحنان والحنين.

   بتتبّع مصدر النّغمات المُختلفة المُتولّد في النّفوس؛ لتبيّن لنا مَلَكَة الكاتب، وحِسّه المُرهّف، بحُسن اختياره الدّقيق لكلماته، بتوافقاتها المُنسجمة المتآلفة بدلالاتها، بعيدة عن التنافر، وتسيل كالماء في رقّته وسلاسة جريانه، وكلّ ذلك دليلٌ أيضًا على ثقافة وسعة اطّلاع الكاتب، وثراء مُعجمه اللغويّ، والتبحّر العميق في توليد فرائد اللّغة وتفجير ينابيعها.

     بالعودة إلى مُصطلح العنوان:(الجرس الموسيقي: الذي هو الكلام، وتكلّمُت بشيء وتنغّمت، وجرست وتجرّست: أي تكلمت بشيء وتنغمت. والجرس: الصوت، وقيل: الصوت الخفي، وقيل: الحركة، وتنصرف اللفظة إلى نغم الكلام، ويقال: أجرس: علا صوته).

   على أنّ الجَرْس يُعدّ من الموسيقى الداخليّة للألفاظ لأن: (الألفاظ داخلة في حيّز الأصوات، كالذي يستلذّه السَّمع منها، ويميل إليه هو الحسن، والذي يكرهه وينفر عنه هو القبح). بين قوسين من مصادر الأنترنت.

   والجرس الموسيقي تداخل ما بين عناصر النص، بدءًا من اختيار الكلمات والأحرف، وتشكيلها في جُمل ومقاطع ومشاهد؛ تحمل في ثناياه أنفاس الكاتب وصدق عاطفته، للاستشعار حرارة أنفاس ما كتب، وترك الأثر المأمول، وتُخلّدُ في العقول حِفظًا وتِردادًا كلّما جاءت مناسبتها، طازجة كأنّها خارجة للتوّ من فم كاتبها.

 

 

 

 

 

الفكرة الحداثيّة بين الوضوح والرمزيّة

 

   تختلف مهارات الكُتّاب في طريقة إدارة الفكرة الوليدة المُتحفزّة للاستقرار على صفحة بيضاء، ولكلّ كاتبٍ أن يشتغل على فكرته بالطريقة التي يراها مُناسبة في أبهى حُلّةٍ بيانيّة، بعد أن تُصبح نصًّا مُكتمل الأدوات جميعها.

   والحداثة كما أفهمها، أن اللّغة وأدواتها ما تزال هي هي منذ امرئ القيس والمُتنبّي وأبي العلاء المعري، مع تباعُد الزّمان وامتداد الحياة النّابضة في لغتنا، فهل الحداثة، هو الإتيان بشيء خارج هذه الإطار اللغويّ العروبيّ. قطعًا: لا.

   إنّما الحداثة دليل دامغ على حيويّة المُحتوى اللغويّ العربيّ على مُواكبة التطوّرات العالميّة، كثورة الاتّصالات والعولمة، والتطوّر الهائل بالوسائل الصناعيّة، وسلوكيّات الاستهلاك المُترافقة مع الانحسار الكسير، للتأثير العربيّ الحضاريّ الخابي منذ سقوط الأندلس 1492- إلى سقوط بغداد الثاني 2003، والانحدار المُتسارع في منزلق الحروب الأهليّة والطائفيّة، والتردّيات الاجتماعيّة، والاقتصادية، والسياسيّة، وما تبدو صورتُه واضحةَ للعَيَان، ولا يختلف عاقلان عليها.  

  بالعودة إلى الفكرة المتأجّجة بنبض بالحياة، الواضحة بمسعاها الرّشيق النّشط المؤثّر بسلبه للعُقول، رغم المخاطِر المُحيقة بالكاتب من وضوحه، وأحيانًا من يلجأ بتسمية الأشياء بمُسميّاتها. على الضفّة المقابلة هناك كُتّاب الرّمزيّة، والعناية بالإشارة لشيء يدلُّ على شيءٍ آخر، وذلك لأسباب القهر الدكتاتوريّ، وانعدام الحُريّات في ساحات الشّرق عُمومًا.

   وهُناك ربطٌ غير مُبرّرٍ بين الحداثة والرمزيّة، وظهرت أيضًا مذاهب (ما بعد الحداثة) و(ما بعد حداثة الحداثة)، ولها تنظيراتها الخاصّة بها، ربّما لا تعنيني كثيرًا، نظير فهمي لطبيعة ما يُكتب. وأرى طائفة من الكُتّاب يميلون لكتابة طَلْسميّة، لا يُمكن لزعيم العفاريت الزُرق أن يحلّ شيئًا منها، فما هو الرّابط بين الحداثة والغرابة غير المفهومة في الأدب خاصّة، على اعتبار أنّني من هُواة الأدب عمومًا.

فما فائدة أيّ نصٍّ أدبيِّ إذا لم يُلقي بمفاتيحه للقارئ الذوّاق؛ ليتلذّذ، ويترنّم طرَبًا على مسارات لما بين يديْه؟.

 

 

 

 

 

 

 

الفكرة بين الإبداع والتجديد

 

      الفكرة إذا لم تكُن إبداعيّة لا حياة لها، وكيف تكونُ إبداعيّة إذا كانت مُقيّدة بسُقُوفٍ واطئةٍ بِسماءاتِها؟؛ تمنعُ التحليق في فضاءات واسعة بلا حُدود. بلا أجنحةٍ تُحلّق بلا استئذان في القلوب والأرواح، حتّى وإن كانت أجنحتُها مُتكسّرةً لا تتوانى في تكريس حضورها عُنْوةً.

   في الحقيقة هناك مُعضلة الإبداع والتقييد، وهو من القيد بمعناه المُتشكّل مَبدئيًّا بِمُجرّد ذكره؛ فهو: (سِلْسِلةُ مِن حديدٍ، يُربَط بها سَجين أو أسير، وقَيْد الأسير: حَبْلٌ، ونَحْوُه؛ يُجْعَل في رِجْلِ الدَّابّة، وغَيْرها فيُمْسِكُها) والعِقال قيْدٌ أيضًا حبلٌ تُعقلُ به الجِمال والإبل، لتقييدها، وتحريزها من الشّرود.

    لاكتمال الرّؤية واِتّضاحها، لا بدّ من استجلاء المقصود بالتجديف، وما دام عملنا في رحاب اللّغة وآدابها، فلا غنى لنا عن العودة إلى مَضَانّها الأساسيّة: (جَدَّفَ فعل، وجدَّفَ يُجدِّف  تجديفًا ؛ فهو مُجدِّفٌ، وجَدَّفَ بالنِّعْمَةِ: كَفَرَ بِها. لا تُجدّفوا بِنِعْمَةِ اللَّهِ (حديث نبوي)، وجَدَّفَ الْمَلاَّحُ : سَيَّرَ السَّفينَةَ بِالمِجْدَافِ، وجَدَّفَ عَلى اللهِ: كَفَرَ بِنِعْمَتِهِ) المصدر قاموس المعاني.

   ولا يعني ذلك أبدًا، أنّني أميلُ إلى موجة التكفير السّائدة على نطاقات واسعة، أو أستلطفها، لكنّ حلبة النّقاش تتّسع لها الصّدور والعقول والقلوب، ولنتعلم أن نُنصت ونُناقش، ولا أن نُنصّبَ من أنفسنا قُضاة للحكم على الآخرين.

    يرى كثير من الكّتّاب أن المطلوب هو الحُريّة المُطلقة تمامًا، وبلا حدود ولا ضوابط، خاصّة فيما يتعلّق بالإله والأنبياء والأديان، فكيف يمكن تبرير الموقف الخائف أمام القوانين الضّابطة لحركة المجتمع ضمن أيّة دولة في هذا الكون؟. ومعلوم كم هي قاسية الأحكام الصّادرة عن القَضاة والحُكّام القائمين على المُحافظة على كيان وهيئة ورمز تلك الدّولة مهما كانت.

   يبدو أنّ الانتقائيّة والسّياسات والقائمين عليها، واللّاهثين في ركابها، والمُتحزِّبين من اللّا دينيّين، هناك رابط خفيٌّ غير مُعلن فيما يجمعهم، وهو فكرة العداء للأديان عُمومًا على اختلافها، وما يمتُّ لها بصلة، ويُعدّون الأديان سبب رئيسيّ في مصائب البشر.    

وأيّ كاتب لا شكّ أنّه طليعةٌ اجتماعيّةٌ، بما يمتلكُ من قُدُرات وطاقات فكريّة، ويُعتبر من أصحاب المقاعد في الصّفوف المُتقدّمة في سُلّم الإصلاح على كافّة الأصعدة، ولا يُمكن أن يكون مِعوَل هدم، ولا عصًا بيد أعداء أمّته، يضرب بها نيابة عنهم، وخلق حالة عدائيّة غير مُبرّرة على الإطلاق، والمطلوب هو العمل على تكريس حالة السّلم الأهلي والاجتماعيّ. 

الفكرة الرِّسَاليّة

 

   الفكرة تتقلّب في ذهن الكاتب غَلَيانًا حارقًا على مَجْمَرِ القارئ بعد تدوينها، وهُو ما يُمكن أن نُطلقَ عليه القلق الإبداعيّ للكاتب؛ فهل نستطيعُ تبريرَ دَوافعه القلقة؟. بكلّ تأكيد لا. لماذا؟. لأنّنا لم نقف على حقيقة مخاوفه قطعًا.

   الموضوع يتناقل صُعودًا، وهُبوطًا ما بين مقاصد الكاتب في التّعبير عمّا يدور في ذهنه؛ فمن هو من ليس واثقًا من جودة فكرته، وربّما تسرّب الخوف إلى دواخله بتوجيه كلمة ناقدة إلى ما كتبَ، ظنًّا منه أنّه فوق النّقد، لكنّه تناسى أنّه لم يكتبْ لنفسه عندما نشر، والنشر يعني برسالته، أنّ الفكرة لم تعُد مُلك كاتبها.

   إذا الكتابة من أجل الكتابة فقط، أعتقدُ أنّها مُصطنعةٌ مفتعلةٌ ووصفيّة شخصانيّة، لا شكّ أنّها مخنوقة الأنفاس غير قادرة على الاستمرار. إدارة الفكرة إذا انطلقت بذهن الكاتب من ساحة القارئ إلى وعيه، وملء ساحة أفكاره؛ وشغله بالتّفكير بإثارة فضاءات تساؤليّة.

   حياة أيّة فكرة تبثّها في طيّات رسالتها، وبما تُلامس وجدانه، ودغدغة عواطفه، وزرع حقول الأمل المُتفائل بمستقبل حالم، ومُحاربة الظّلم، والانحياز للإنسانيّة عُمومًا، وبثّ الطمأنينة، وتشجيع روح العمل الجماعيّ في مقاومة الفقر والجهل والمرض، ومُحاربة السّلبيّات، وإبراز دور الإيجابيّات، ودعم مقاصد، وسُبُل السّلم الاجتماعيّ، والسّلام العالميّ.

   الفكرة الذهبيّة بمضمون رسالتها، أو رسائلها بطابع الحُب, والجمل والخير. خلاف الظلاميّة اللّاعبة على أوتار الحروب والطائفيّة والمذهبيّة؛ والدّاعية للتحلّل والتفسّخ القِيَمي، لا أستطيعُ أن أصفها إلّا أنّها: معول هدم، بيد مُتربطة، مُعادية لمُجتمعها، وتكتبُ تاريخًا تشخُب الدّماء من زواياه.

كُولاجات الفكرة

 

   الفكرة الوهّاجة المُتَوثّبة تفرضُ نفسها بِقُوّة على السّاحة الثقافيّة، بما تُقدّم من إثارات فكريّة للقارئ، وبما تتركُ من أثر عميق في نفسه، وفتح فضاءات الإشغالات الذهنيّة بالتدقيق والتَّساؤلات.     

ما تتعدّد الرّؤى التأويليّة لأيّة فكرة، وتشكيلاتها الأدبيّة بما تحمل من مضامين تُلامس الواقع، مُنطلقة لمهمّتها الأسمى، ألا وهي النّهوض والارتقاء به، من خلال الإشارة لمشاكله، ومُعالجة قضاياه, رغم أنّ الكاتب ليس مطلوبًا منه إيجاد الحلّ والدّواء، وإنّما هي وظيفة أصحاب القرار، من يملكون مفاتيح الحلّ والرّبط.

وفي الوصف المُقدّم آنِفًا للفكرة، هو ما أقصد به الكولاج، أو الكولاجات.  والمصطلح هذا هو: (تكنيكٌ فنِيٌّ يقومُ على تجميع أشكال مُختلفة لتكوين عمل فنّي جديد. إنّ استخدام هذه التقنيّة؛ كان له تأثيره الجذريّ بين أوساط الرّسومات الزيْتيّة في القرن العشرين، كنوع من الفنّ التجريديّ، أو التّطوير الجادّ؛ وقد تسميته بذلك من قبل الفنّانيْن "جون براك" الفرنسيّ، و"بابلو بيكاسو" الإسبانيّ في بدايات القرن العشرين) *من مصادر الأنترنت.

   بالنّظر لما تقدّم، لا بدّ من تطبيقات هذا المصطلح في مجال الأدب، هو بداية لأستاذي الأديب المرحوم "محمد مُستجاب" في كتبه القّيِّم "نبشُ الغُراب".

   وبداية قراءاتي لهذا الكتاب عندما صدر العام 2010 ضمن سلسلة كتاب مجلة العربي، تأثّرتُ جدًّا بطريقته الفاتنة السّاحرة؛ بحيث كنتُ أقرأ المقال الواحد مرّات، استهواني التّجريب في هذا المضمار، وعلى طريقتي اقتداء بِمُستجابٍ، وبدأت بكتابة أوّل مقال، أطلقتُ عليه (مقالات مُلفّقة)؛ بجُزأيْه الأول المطبوع، والثاني الذي ما زال مخطوطًا.

   وعليه؛ فالتلفيق: ليس من الكذب والدّجل والدّسائس. بل من الترقيع والترتيق، بجمع الأشياء غير المُتجانسة، والمُتنافرة في سياق واحد؛ لتُصبح مادّةً مُعتبَرةً لها كيان، بعد مزجها وصهرها في بوتقة واحدة، وحُضور على السّاحة الأدبيّة.

   وبقياس الأشياء على مُتشابهاتها، ونظائرها؛ تبيّن لي أنّ التّلفيق هو كولاج، يتشابه معه في طريقة الإعداد للوحة، والفكرة عند تكوينها لمقطوعة أدبيّة، من الممكن أن نُطلق عليها لوحة أدبيّة،  كما هي لوحة الفنّان الزّيتيّة.

الفكرة المُستهلكة

 

اضطررتُ لشرح فكرة المقال لزوجتي قبل بدء الكتابية، وكيف سأقود فكرتي مُنطلقًا بها إلى مُنتهاها، ومُستقرّ مقاصدها الرساليّة. هزّت رأسها علامة إعجاب بعد دهشتها من سؤالي: "هل تعتقدين أن المرأة هي الفكرةُ المُستهلكة الأعظم في الدنيا؟".

أكّدَت لي تأييد رأيي؛ لأنّي لن أحتمل مُعاداة ثلاث مليارات امرأة في الدّنيا، ولن أستطيع مقاومة عدائهنَّ لي. وسأفقدُ معظم جمهوري من القُرّاء في العالم الافتراضيّ. وهل من مجنونٍ يقومُ بما قمتُ به، لو كان بدون إذن وتصريح؟.

أعتقدُ جازمًا أنّ المرأة هي الفكرة المُستهلكة الأعظم على الإطلاق في تاريخ البشريّة، أقصدُ ما كُتِب عن المرأة. وفي أدبنا العربيّ الذي وصل إلينا؛ فقد كان الغَزَل هو أحد أغراض الشّعر الرّئيسة، التي لم تنفَدْ وسائلها، ووصلنا أشهر قصص العُشّاق العربيّة (قيس ولبنة)، و(مجنون ليلى)، وقصص ألف ليلة وليلة.

ومن يُطالع كتاب (تاج العرس ونُزهة النّفوس) و(أخبار النّساء)، سيجد العجب العُجاب من أوصاف جسد المرأة، ولم يتركوا أيّ عضو، إلّا وله وصف تفصيليّ مُثير غاية الدّهشة. إلى هُنا يبقى الأمر ضمن المقبول.

في حاضرنا شاعت موضة الأدب الإيروتيكيّ، أدب غرفة النّوم، والرّوْب الأحمر والأصفر والأزرق، هذه الظّاهرة هبطت إلى مُستويات، المواخير والمراقص وشواطئ العُراة، هادرة لكرامة المرأة وقُدسيّتها كأمٍّ، وأخت، وعالمة، ومُفكّرة، والانتقال بها من عوالم الفضيلة والاحترام، إلى مُستنقعات آسنة لا تليق بإنسانيّتها.

الانتقال من عالم الفضيلة، إلى جعل المرأة وسيلة تجاريّة رابحة. تجارة الرّقيق الأبيض، والإعلانات التجاريّة، والعلاقات العامّة، واتُّخذت غايات تتخفّي خلف يافطة تحرير المرأة، ومناهضة العنف الذّكوري (الجندريّة)، وانتشار موجات الشّذوذ على نطاقات عالميّة واسعة. وبالتأمّل فيما يحيط بنا بشكلٍ عامٍّ، نخلص إلى: أنّ المرأة فكرة مُستهلكة، وهي الخاسر الأكبر في كلّ ما يحدث، ويتجلّى ذلك في موجات الحروب، التي أعادت اِسْترقاق، واِسْتراق النّساء عالميًّا.

*تساؤل مُهمّ:

هل العالم الرجوليّ مُتآمر على كيان المرأة، وهَتْك إنسانيّتها؛ لإرضاء غرائزه ونزواته؟.

الفكرة وعقدة الخواجة

 

    بالتوقّف الإجباريّ أمام معايير النّصر والهزيمة في حياة الأمم، نخلص إلى أنّ نتائجهما، ومُخرجاتهما؛ تنسحبُ سلبًا أو إيجابًا على المُنتصرين والمنهزمين على حدّ سواء، كلٌّ حسب موقعه، وقُربه وبُعده عن ساحة ومركز الحَدَث.

   وحسب موقع ويكبيديا، يُعرّف عقدة الخواجة: (عقدة الخواجة: مصطلح ظهر؛ ليعبّر عن حالة نفسيّة عامّة لشعوب المنطقة العربيّة؛ تُفسّر حُبّهم لكلّ ما هو غربيّ، ورفضهم لكل ما عربيّ). إلى حدّ ما مُمكن التوافق مع هذا التعريف في جانب، ويتبيّن قُصوره؛ بحصر الموضوع بحبّ التقليد الأعمى فقط.

   وأغفل المُدوّن للمعلومة دوافع هذا الشّغف، المتمثّلة بالهزيمة الماديّة المعنويّة على كافّة الأصعدة والمُستويات. وحصر حبّ التقليد في العرب حصرًا، وكأنّ العرب من بين شعوب الدنيا، هم وحدهم الذين يُقلّدون، في الحقيقة أنّ هذه النّقطة تنسحبُ على جميع الأمم والشّعوب المهزومة عسكريًّا وروحيًّا.

   وفي الرّجوع إلى عالم الاجتماع العربيّ ابن خلدون؛ فقد رصد قبل ستة  قرون هذه الظّاهرة، مع بداية المئة الثامنة للهجرة: (في أن المغلوب مولع أبداً بتقليد الغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده).

   وعُقدة الخواجة مُعادل القاسم المُشترك لمفهوم الرّسوب الحضاريّ، كما قَنَّن هذا المفهوم المُفكّر الجزائريّ "مالك بن نبي"، وما زالت كلمة خَواجة التي سمعتُها في صغري قبل خمسة عقود، من رجال سافروا إلى فلسطين للعمل، وأكثرهم كان في مدينة حيفا، عندما يَصِفُون صاحب العمل اليهوديّ، يقولون "الخواجة اليهوديّ" أو "الخواجة" فقط، بينما تردّدت الكلمة على ألسنة الجيل الذي يليهم ممن سافر للعمل في لُبنان.

   ارتسمت صورة الخواجة في ذهني، بالرَّجُل الأنيق الهندام، يعتمر البُرنيطة على رأسه، ونظّارات سوداء، وغُليونه في فمه أو السيّجار الكوبيّ، ولا يتكلّم العربيّة، وإذا تكلّم بها، نَطَقَها مُكسّرة، وإبدال ضمير المُذكّر بالمؤنّث أو العكس. 

   وأمّا شُعور الفلّاح ابن القرية من أيّ بُقعة ريفيّة سوريّة، لمّا كان يذهب إلى دمشق، يُصاب بصدمة الإبهار حدّ لَجْمِ لسانه عن أيّ كلام؛ فكان يُرى وهو في أحسن حالته، كأنّه في مُستنقع بلاهة مُستوطنة في داخله منذ ولادته. 

   المنهزمون ليس عسكريًّا فقط، هم من لديهم شعور المهانة بالنّقص تجاه هؤلاء، سواء المُنتصر أو الخواجة  أو ابن العاصمة، ما هو إلّا عُقدة النّقص، والشّعور بالدّونيّة، والتّقليل من نفسه، لدرجة يصعب معه مُجاراتهم بالكلام معهم مُتهيّبًا، خجلًا، فيضطر لتغيير لهجته، وهذه أبسط الأشياء وأوّل تنازلاته.  لمسايرتهم ظنًا منه أنّه ارتقى قليلًا.

   الأمر ينسحب على الأمم قاطبة، بلباس الجينز، وموضات الشّعر الغريبة، وعودة موضات الهيبيز، والأردية الممزقة أطرافها خاصّة السّراويل، والتهافت على مطاعم البيتزا والهامبرجر والهوت دوغ، والموسيقى الغربيّة التي لا يفهمون شيئًا، وانتشار المثليّين والشواذّ والمُتحوّلين والمُلحدين، وانتشار موضة المُساكَنات المختلطة (تشاركيّة السَّكن) بعيدًا عن الأهل، والتجربة الجنسيّة قبل الزواج. ويطول الحديث ويطول.

   وفي هذا القدر كفاية، أعتقدُ أنّها وضّحت رسالة العنوان "الفكرة و عقدة الخواجة". فهل على المغلوبين أن يخرجوا من جِلْدِهم، لباسهم الدّاخلي؛ ليُرضوا رغبتهم بمُجاراة الخواجة؟.

 

 

الفكرة المفتاحيّة

 

   الفكرة المفتاحيّة، التي يُستولَدُ منها جُملًا مفتاحيّة، خاصّة في بعض الكتابات الأدبيّة، ذات القيمة العالية المُثقَلة بحمولتها؛ وتأتي مهارة الكاتب في إدارتها باِقْتدار، لتجلو الغامض، وتفتح آفاق رُؤًى نوعيّة بِطَرْحٍ فذٍّ غير عِملاق، باعثة على التَنَبُّه للتمهُّل في رحابها،  لأخذ فُسحةٍ تأمليّة، فاتحةً شهيّة التّساؤلات، ومُحرّضة على البحث والنّبش فيما ورائِيّاتها؛ لقراءتها بالشّكل الحقيقيّ لها.

    عند ذلك يكون مُنتجها قد بدأ بالتكوّن الجَنِينيّ لُمعَةً في عقلٍ واعٍ، يتمتّع بموهبة مُختلفة عن مُحيطة؛ فيعتنقُها بِشَغفِ جُنونيٍّ، حتّى إذا اِسْتحوَذت على منافذه جميعها؛ ستتوّلدُ الجرأة في دواخله انفجارًا؛ ليكون رُبّانها إلى بَرّ وساحات عقول الآخرين بأمان وسلام؛ فيغدو مُنظّرها, وربّما تُنسَبُ له فيما بعد.

   و"الفكرة المفتاحيّة" على خلاف "الفكرة الخُردة": وهي حسب ما أعتقد تُنتجُ مزيدًا من التراكمات الضّارّة، وغير الضّارة، أو غير النّافعة، الموسومة بنمطيّتها المكرورة، دروبها مُنزلقات إلى مُستنقعات قذرةٌ مُسْتقذَرة، أقرب لحالة المَوات من الحياة، تُجيد أداء عزفها الجماهير المُسْتَأدِبَة بما يُشبهُ الأدب.

   وفي منحًى تقنيّ بحت؛ مُترافق مع أدوات ومُحرّكات البحث الإلكترونيّة؛ فإن الجملة المفتاحيّة: (الكلمات المفتاحيّة: هي الكلمات التي يستخدمها الأكاديميُّون؛ للكشف عن البُنية الداخليّة للورقة البحثية. سواء في الأبحاث الأكاديميّة، أو في مواقع الأنترنت. الكلماتُ المفتاحيّة يجب أن تُعبّر بأفضل شكل عن المقال، أن تختصره، بالإضافة إلى ما هو موجود في العنوان (لا يجب استخدام نفس العبارة في العنوان والكلمات المفتاحية معاً).

   الكلمات المفتاحية الصحيحة قد تزيد من فرصة العثور على المقال أو البحث، ومن فرص وصوله لعدد أكبر ممن ينبغي أن يصل لهم. تكمُن أهميّة الكلمات المفتاحية، وخُلاصة البحث وعنوانه بصورة أساسيّة في جذب هؤلاء الكُتّاب شديدي التَّخَصُّص، وشديدي التأثير في مجالاتهم، والذين يتخصّصون بقراءة ما يحمل الخصائص المناسبة، لكنّهم لا يقرؤون، ولا يمكن أن يقرؤوا كلَّ شيء، ويُذكر أن الكلمات المفتاحيّة انحسرت أهميّتها مؤخراً بعد الثورة في مُحرِّكات البحث، التي تشمل ببحثها التلقائيِّ كلّ ما في المواقع من نصوص بالإضافة إلى تحقيق الربط المعنويّ والسِّياقيّ بين العبارات)

*هذا باختصار شديد عن الموضوع للتوضيح فقط. *عن مصادر ويكيبيديا.

الفكرة في المدينة الفاضلة

 

   أوّل ما يتبادر إلى الذّهن بمجرّد نُطق تعبير "المدينة الفاضلة"؛ يذهب الذّهن مُباشرة إلى أفلاطون، الذي أسّس في كتاباته للمدينة الفاضلة المثاليّة بكلّ ما فيها؛ القائمة بالطّبع على المُجتمع الفاضل المثالي قائم على مبادئ العدل والمُساواة والحريّة، كما تمنّاها أن تكون على أرض الواقع، خالية من الشّرور والخوف والقتل والدّمار، وهو ما اُصْطلح  عليه بتعبير "اليوتوبيا". 

وهذا تبيّن من خلال "كتابه القانون" و"كتابه الجمهوريّة"، وفيهما أفرد تفاصيله النظريّة وتطبيقاتها العمليّة على جميع المُستويات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، للتقنين لمدينت الفاضلة.

  في مقابل "اليوتوبيا" هناك على الضّفة المغايرة تمامًا لهذه المعاني كما تبيّن معنا، ظهر مُصطلح "الديستوبيا": المجتمع غير الفاضل الذي تسوده الفوضى والظلم والتظالم، ليس فيه للخير مكان أبدًا. وهو عالمٌ كابوسيٌّ، كريه مكروه غير مرغوب به، ومن خلاله تسعى الدّول وحكوماتها؛ للسّيطرة بكافّة الوسائل المُتاحة وغير المُتاحة على شُعوبها ومواطنيها. وفيه يتجرّد الإنسان من إنسانيّته المُنتهكة في غياب الدّساتير والقوانين النّاظمة لحركة المُجتمع والسّلطة، في تغوّل مُخيف ببث الرّعب والقلق والخوف.

  فالفكرة تتمخّض بانسلال الإبداع في كلا الحالتيْن من رحمها، وتتأرجح بين الفكرة في وصف حالة "اليوتوبيا" و"الدّيستوبيا"، وذلك حسب مهارة الكاتب في إدارة فكرته، بتوصيف وتقنين برؤية إبداعيّة، تستوعب مُجريات الحدث على أفضل ما يكون.  حيث ظهر أدب "المدينة الفاضلة" وهو الأكثر من الكتابات الروائيّة والفكريّة ذات البّعد الإصلاحيّ, أمّا أدب "المدينة الفاسدة" ؛فأهَمّ  الأعمال على الإطلاق، رواية "1948" للروائي الأمريكيّ "جورج أورويل" وكما وُصِفَت بأنّها دُرّة أدب الديستوبيا.

وفيما تولّد عن الديستوبيا، مصطلح "فوبيا" آخر ينتمي لهذه الطّائفة، الخوف من الأماكن العالية والضيّقة والمغلقة، وفي تطبيقات سياسية "إسلام فوبيا" ضمن معطيات سائدة، وتمّ تطبيق الفوبيا على كلّ شيء مُخيف عُمومًا، يشمل جميع مناحي الحياة.

 

 

 

 

الفكرة البروباغندا

 

   الفكرة مهما تعالت نفاسَتُها، وتدانَتْ قُطوفُها الماديّة والمعنويّة؛ فلا بِسَاط ترتاحُ عليه إذا نزلت من عقل الكاتب على ورقة، إلّا ساحات ورِحاب اللّغة، بأوعيتها المُتعدّدة الدّروب والضُّرُوب؛ لاستيعاب الفكرة وحواشيها، وتجليّات الكاتب السّامية. 

   مجالات كلّ فكرة وتطبيقاتها، لا بُدّ لها من مسار يُحدّد أوّلًا في ذهن الكاتب الكلمات المُستهدفة لاختيارها، لتكون في دائرة اهتمامه، لمعرفته بأدائها الدّلالي على مقاصده وأهدافه بِدِقَّة مُتناهية؛ هادفة لإيصال ما يُريد للقارئ برسالة مُفيدة أو غير ذلك، ويعتمد ذلك على مهارته بسهولة أو صعوبة إيصال ذلك للهدف المُراد.

    وبالعودة إلى موضوع المقالة "البروباغندا" الدعاية، إذا أخذنا جانبها المُصْطلحي، لتكون أحد أشكال التواصل؛ بهدف التأثير  على الجماهير، من خلال الترويج لرأي واحد، وربّما يستغرقُ ذلكَ وقتًا طويلًا. 

  بعد الحرب العالميّة الثانية، واستسلام اليابان، إثر القصف النووي الأمريكي لمدينيّ "ناغازاكي" و"هيروشيما"، عملت أمريكا مع بعض القوى الدّاخليّة اليابانيّة المُستقطبة، وأنشأت " الحزب الدّيمقراطي اليابانيّ الحر" الذي حكم اليابان لمدة 36 وسنة، وكلّ ذلك بهدف إقناع الشّعب الياباني، بعدم مُعاداة السّياسة الأمريكيّة، بينما تأبى ذاكرة الحرب والدّمار ما تزال مُسيطرة على العقول والنُفوس بآثارها المُدمّرة الماثلة بأذهان اليابانيّين.

  استلزم ذلك جهودًا وأموالًا لتغيير الآراء تجاه ما حصل، وهو ما نستطيع وصفه: (البروباغندا (بالإنجليزية: Propaganda)‏ كلمة تعني: نشر المعلومات بطريقة مُوجَّهة أُحاديَّة المنظور، وتوجيه مجموعة مُركزّة من الرَّسائل، بهدف التأثير على آراء أو سلوك أكبر عدد من الأشخاص. وهي مضادة للموضوعية في تقديم المعلومات) المصدر- ويكيبيديا.

   وغالبًا ما تقوم على معلومات ناقصة غير مُكتملة بهدف التّشويش وحرف الرّؤية باتّجاهات غير الحقيقيّة، كما أنّها تكون كاذبة تشتغل على توليفة جديدة في سبيل تنفيذ وتسهيل أهداف مُعيّنة، خفيّة وغير مُعلنة على الإطلاق، إلّا من خلال ما تتمخّض عنه من نتائج بعد فترة زمنيّة، ربّما تقصُر أو تطول.

   (أصل المصطلح الإنجليزية "Propaganda" أتى من الكلمة اللاتينية "كونغريقاتيو دي بروباغاندا فيدي" والتي تعني (مجمع نشر الإيمان)، وهو مجمع قام بتأسيسه البابا غريغوري الخامس عشر في عام 1622. يقوم هذا المجمع على نشر الكاثوليكية في الأقاليم. و تعني بروباغاندا باللاتينية نشر المعلومات دون أن يحمل المعنى الأصلي أي دلالات مضللة. المعنى الحالي للكلمة نشأ في الحرب العالمية الأولى عندما أصبحت مصطلح مرتبط بالسياسة) المصدر ويكبيديا.

والدعايات الآن في أوسع نطاقاتها على الإطلاق، بتعدّد أوجهها ووسائلها الترويجيّة والاستهلاكيّة، والتأثيريّة بمحاولة تغيير السّلوكيّات الاجتماعيّة، من خلال وسائل التواصل الاجتماعيّ جميعها، وهي الاستعمار الجديد القادم للاستحواذ على مُقدّرات العالم وعلى الأخصّ الاقتصاديّة منها، لصالح الجشع الرأسماليّ للشركات العابرة  للقارّات.

الفكرة بين نكبة ونكسة

 

   الفكرة عُمومًا، أيّة فكرة تستولد الأصل والضدّ المُزيّف، تستولد الخير والشرّ، وعوامل النّصر والهزيمة، وتَسْتَوْلد سُبُل النهوض والمقاومة السِّلميَّة والعسكريّة. تساؤل يقلقني: هل تُنْكَبُ اللّغة  وتَنْتَكِس إذا أصيب أصحابها بذلك؟.

   إذا انحدرت الفكرة من هزيمة إلى أخرى، فتتلفّع بأقنعة التخاذل سلوكًا لتبرير موقفها أولًا، ثمّ لتبرير الهزيمة بالتهويم والتلاعب بالألفاظ.. وبالعودة لما كتب من نكبة ١٩٤٨مرورًا بنكسة ١٩٦٧. العلامتان المُميّزتان، للانكسار العربيّ بشكل عام.

   وفي رحاب اللّغة ما يُغني الموضوع، والفهم الدّقيق لمؤدّى كلمة نكبة: وهي (مُصيبة مُؤلِمة تُوجِع الإِنسان بما يَعِزّ عليه مِن مال أو حَميم، تُصيبه بخَسارة عظيمة، رَزيئة، فاجِعة. "مَوْته نَكْبة لأُسرته"، و هي: نازِلة عَظيمة ومُصيبة جماعيَّة تحِلّ بعدد كبير مِن النَّاس، كارِثة)، وتكلّلت النّكبة باغتصاب فلطسين الجُزء الأغلى على قلوبنا، ومهوى أفئدتنا من وطننا العربيّ، وقيام الكيان الصّهيونيّ الغاصب.

   وكلمة (نَكْسة هي: إخْفاق، هزيمة، اِنْكِسار، خِسارة. نكْسةُ المرض: معاودة المرضِ بعد البُرْء). وفي التحوّل الذي ترسّخ في ثقافتنا العربيّة الجمعيّة: بأنّها نكسة عسكريَّة، خسرنا فيها (الجولان في سوريا، سيناء مصر، الضفّة الغربية في فلسطين). وما زال الكلام في موضوع النّكسة محرَّم وممنوع تداوله وتعاطيه على نطاقات عربيّة واسعة. لِمَسَاسَه الفاضح المُباشر، لأوضاع سياسيّة قائمة مُتورّطة، وتتستّر تحت مِلاءات المُقاومة والممانعة، الأسطوانة المشروخة التي صدّعت أدمغتنا، بمحالات فاشلة لإقناعنا بانتصارات دون دونكيشوتيّة.

   التسّاؤل الآخر القائم: لماذا كان الالتفاف على الاعتراف بالهزيمة في المرّتين، واستبدلهما بمصطلح نكبة ونكسة؟. الاستخفاف بالعقول مهنة حاذقة يقوم بها دهاقنة السّياسة، رغم انكشافها بشكل فاضح ومهين.

 

 

الفكرة بين الإسراف والتقتير

 

   كلّ شيء بحاجة إلى تدبيرٍ وحساباتٍ، بلا إسرافٍ ولا تَقْتيرٍ في مجالات الحياة المُختلفة، والمَيْل للوَسَطِيَّة؛ فإنّ خير الأمور أوسطها، لكنّ الوضع مع الأفكار؛ أعتقدُ أنَّ الأمرَ مختلفٌ تَمامًا.

   أيَّةُ فكرة لها مساراتٍ ودروب عديدة وشتّى، ومُتنوّعة الأشكال والرُّؤى، والكاتب صاحب الفكرة، إذا أراد تنفيذها، سيحشد لها كافّة إمكاناته، ومهاراته الذّاتيَّة، وينسحب الأمر وُصولّا إلى لحظة التنفيذ، أي الكتابة، لتتجلَّى خبرة الكاتب من مخزوناته المكنونة والمُكتسبة، واللّغة ومُفرداتها أساس التنفيذ ومُنتهاه.  

   كُلّما أسْرَفَ الكاتبُ، فلن يُكتب من المُسرفين المُبذّرين عند الله، ولن يكون بأعين النّاس وخاصّة القُرّاء منهم، إلّا ذلك المُبدع، الشّجاع في الولوج في دهاليز اللّغة، لعمل أحفوريّاته العميقة، لنبش الجواهر واللآلئ، ليُطرّز بها مدارات  فكرته، التي تحوّلت إلى نص أدبيٍّ، سوء كان شاعرًا أم قاصًّا أم رَوَائِيًا أم بمقالته الأدبيّة الجادّة والسّاخرة، أو الفكريّة ذات الطّابع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والإصلاحي.

القصد ليس إلّا تقديم وجبة ثقافيّة دسمة، مفيدة للقارئ، وتجعله يعيش الحالة ليصبح شريكًا للكاتب في مشروع فكرته، وبما أثار عنه من رؤى مُوَلَّدَة وتَساؤُلات، تذهب به إلى البحث عن المساحات الفارغة فيما قرأ، التي تركها الكاتب عن قصديّة أو خلاف ذلك، واستنباط رُؤًى جديدة رافدة دافعة إلى المُقدّمة للفكرة، وهو ما يُعتبر رصيدًا ثمينًا للكاتب عند قارئيه.

الفكرة والمقصديَّة

 

   الفكرة عُمومًا ما تخضع لدواعي كاتبها. في شتّى أحوالها. وتأتي على قدَر هِمَّته واِسْتطاعته السَّيْطرة على جُموحها، واِخْضاعها لتستجيب لمآربه، وأهدافه المُعلنة والخفيَّة.

   فهل باستطاعتنا نفي البراءة عن الفكرة؟.

   لا يمكن تخيُّل أيّة فكرةٍ خاليةٍ من قصدٍ ومقصَدٍ، ومقياس قوَّة الفكرة وجودتها وأصالتها؛ تأتي من مقصديّتها ذات البُعد المؤثّرة إيجابًا أو سلبًا في محيطها الاجتماعيِّ، أو الإنسانيِّ عُمومًا.

   الفكرة المُثقلة بُحمولتها المقصديَّة؛ تفرضُ نفسها على معطيات السّاحة بلا مُنافسة، وإن كان هناك مُنافس سيتراجع بكلّ تأكيد، هذا إذا لم ينحسر إلى درجة التلاشي والاندثار. معنى أنّ الفكرة ستنفرد بالسّاحة استبدادًا، لبسط سطوتها على العقول انبهارًا واستلابًا للعقول والأفهام.

   فيتكاثر مُنظّروها لاحتضانها، واعتناقها بقوّة، مهووسين بفرادتها، لتتَّفق الذهنيّة الفلسفيّة في عُقولهم، وتهجسُ بها نفوسهم؛ هنا لا بدّ من التوقُّف أمام حالة بدرجة أصبحت ظاهرة لا يُمكن تجاوزها، فإمّا مُعاداتها والوقوف في الصفّ المُغاير لها بعناد وعُدوانيّة.

   وإمّا أن تكون في ركابها، من عِدَاد أتباعها ومُحبّيها؛ فتتلقاها بمحبّة عن طيب خاطر، وبكامل الرّضا لتتشرَّبها حدَّ الثُّمالة بهوَسٍ، وانجذاب روحيٍ. هنا لا بدّ من التوقّف أمام نقلة نوعيّة على صعيد أيّ شخصٍ وصل إلى هذه النُّقطة، لا أقولُ إلّا أنّه سيكون من دُعاتها العاملين على نشرها، مع ملاحظة أنّ موهبة الشخص لتجعل منه مِحوَرًا، يتمحور حوله الأتباع والمؤمنون، بتلقينهم ما تبيّن له من علم، وسيزيد عليه خبرته، ومعارفه المختزنة فيه.

  إذا وصلت الفكرة هذا الحدّ بعد تجاوز مرحلة المؤسّس والتأسيس؛ لتدخل في طَوْر التجذّر، تليها مرحلة الانتشار خارج نقطة مركزها، وحمَلَة الفكرة: هم العاملون على تسويقها من خلال منصَّات الخطاب المُتاحة لهم، كوسائل الإعلام المسموعة والمقروءة، وحاليًّا وسائل التواصل الاجتماعيّ واليوتيوب، وهو ما ساهم في تخطي الحدود والحواجز، ورقابة المنع والحذف التي فقدت معناها، وخسرت كلّ أوراقها لصالح حريّة الكلمة على الإطلاق، إلّا من رقابة الضمير الحيّ اليَقِظ الغيور على الإنسان لأنَّه إنسان أوّلًا، والحرص على عدم إيذائه بالإفساد الأخلاقي والعقائدي والاجتماعي، وصولًا للخير المطلق المُنجي للبشريّة، مقابل حملات التخريب والتهديم لمنظومة الأخلاق.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الثاني

 

 

 

 

فنون الكتابة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

خواطر في الكتابة الروائية

 

الكتابة عملٌ شاقٌّ..

* الرواية إعادة تمثيل الواقع؛ لتوثيقه، وتوصيفه، وإعطائه شكلًا مُقنعًا مُنسجمًا ضمن حبكة متينة للحدث.

 

* كل الأعمال الروائيَّة تستهدف قارئًا كاتبًا، أو قارئًا هاويًا.

 

* الكاتب يكتب لقُرَّاء مُحتملين؛ يتوخَّى جودة عمله لإرضاء الذَّائقة، ولاكتساب سوق انتشار لعمله الروائيِّ.

 

* الكاتب الروائيُّ وغير الروائيّ أيّ كاتب على الإطلاق- نظرته ورؤيته للمحيط  حوله مختلفة.

 

* الكتابة الروائيَّة إعادة خلق لرُؤى ذاتيَّة للكاتب على الأغلب، بما تُمثِّل من قناعاته الفكريَّة والأيديولوجيَّة لبثَّها ونشرها بمحاولة إقناع الآخرين بها؛ فتكون الرواية بهذا المنحى؛ إحدى رُسُل التَّبشير والترويج.

 

* الكتابة الروائيَّة: تجميع وترتيب لمجموعة من القضايا والأفكار في ذهن الكاتب؛ فتكون مادَّة تخدم هدف فكرته التي يشتغل عليها.

* الكاتبة والحيادية: لا حياد في الكتابة، ولا يستطيع الكاتب التجرُّد تمامًا عن مُعتقداته الدينيَّة والفكريَّة والأديولوجيَّة، لا بدَّ من تأثيرها مهما حاول الكاتب الحياديَّة في نصَّه الأدبيِّ أو مقاله الفكريِّ.

 

* متعة الكتابة الروائيَّة بسعة مساحاتها التي تستوعب لجميع الأفكار والأحداث والصِّراعات، ولا تضيق بأيِّ شيء لتدعيم سياق فكرتها وموضوعها.

*الكتابة الروائية مُرهقة لاستغراقها زمنًا طويلًا نسبيًّا، من الممكن أن يمتدَّ لسنوات حتى يكتمل وينضج، ليستطيع الكاتب بقناعته أنَّ الرواية انتهت.

 

*ذاكرة الرواية هي ذاكرة البقاء ثابتة لا تنمحي.

 

 

 

 

 

 

مهارة الوصف

 

*مهارة السّارد. الحكواتي، أو القصصي، أو الروائي، بتحويل الملاحظة المرئيّة عن شيء ما لا على التعيين، سواء كان بشرًا أم جمادًا، حيًا أو ميتًا، إنَّما هو الوصف الدَّقيق للأشياء، وهو دلالة سعة فكر، وثقافة السّارد؛ إضافة إلى مهاراته، وموهبته الذاتيّة، لتشكيل نصٍّ قصصيّ، أو روائيٍّ مُعتَبر مُتميَّز.

 

*الوصف ملاحظة الدقَّة في الأشياء المرئيَّة وغير المرئيَّة، ربَّما تكون معلومة معروفة للقارئ، لكنَّه يمرُّ عليها عادة بدون أن يلقي لها بالًا، ولا أدنى اهتمام.

*الرواية والقصّة روحهما وقلبهما هو الوصف.

 

*بالوصف يظهر الجمال والقُبح، والحبُّ والكراهيَّة، والألفة والقطيعة مع المحيط.

 

*لذلك تكون مهمَّة الكاتب صعبة جدًّا ؛ لإخراج نصٍّ مُعتبَر  سواء كان قصيرًا أم طويلًا من رحم فكرة.

 

*الاشتغال على النصِّ ببذل الجهد، وحشد الطاقة الذهنيَّة والنفسيَّة والرُّوحيَّة والرَّغبة؛ حتمً ستأتي النتيجة الباهرة من خلال المعالجة، التي تظهر موهبة الكاتب.

*والتغذية الدَّائمة للكاتب تأتي من معين القراءة المستمرَّة بلا انقطاع، لترسيخ معارف جديدة، وإعادة تدوير الأفكار بمدارات جديدة، تواكب الحداثة، وبما يتناسب مع روح العصر، وربَّما مع روح العصر، وربَّما يأتي الكاتب للمقارنة، واستخراج دلالات أخرى.

*على سبيل المثال:

الوجه البشري، سواء كان ذكرًا أو أنثى، شابًّا أو شيخًا عجوزًا، طفلًا أو طفلة، يجب ملاحظة والتدقيق بملامحه الفارقة المميزة له عن غيره. كما أنَّ ملامح البِشر السَّعادة والسُّرور، إذا كانت طافحة على الوجه،  أو ملامح الحزن و اليأس والقُنوط، والغضب والتهيُّؤ للعراكات والصِّراعات. وملامح البراءة والشرِّ، والهزل والجد، الملامح الصَّارمة أو القاسية بتضاريسها. ضعيف أو طافح، مُدوّر أو متطاول، واسع أو ضيِّق، صافٍ أو مليء بالتّجاعيد والبُثُور، هل هناك خالٌّ على أحد الخدَّيْن. حليق أمرد أملط، أو مُلتحٍ، اللحية طويلة أو قصيرة، له شاربان أو حليقهما.

 

 

 

*تقسيمات الوجه:

*الوجه معطياته كثيرة ثابتة ومتغيِّرة:

البشرة. الجبين أو الناصية أو الجبهة. الحاجبان. الأنف. الفم. الشوارب. الأسنان. الشِّفاه. العوارض أو السَّوالف أو الفوديْن أو العِذار.

 

*متغيرات الوجه البشري:

الاتِّساع أو الضيق، طوليّ أو عرضيّ، يجمع بقية أعضاء أخرى، لون البشرة، لون العينين، لون الشَّعر، سواد الشَّعر، والأشيب، أو المصبوغ بألوان أخرى مألوفة أو غير مألوفة.

 

*شعر الرأس. أسود. أسود فاحم، أشقر، بني خرنوبي، أشقر مائل  للأحمر أو بلون الحنَّاء، الأشقر شديد الاشقرار قريبًا من البياض الغامق قليلًا (الأمهق).

*المجعَّد. النيغرو الأفريقي، المُتموّج، السّابل المسترسل، الخشن الجاف والناعم، الطويل والقصير، المتقصِّف والمُشقَّق، الضَّعيف، المتساقط، المليء بالقشرة، أو متهيَّج فروة الرأس. المُهَّذب والمُشذَّب، المُصفَّف أو المُشعَّث غير المنتظم، المتروك على سجيَّته بلا عناية.

 

*الشارب:

كثُّ أو عريض، محفوف مُشذَّب بشكل جيِّد، أو مسترسل يغطي الشَّفتين، أو حليق. ولونه أيضًا ، كما هي أوصاف شعر الرأس.

 

*الجبهة. الجبين. النَّاصية:

هل هي عريضة، أم عالية أو متوسطة. هل تظهر عليها خطوطًا عرضيَّة، أو ندبات أو جروح غائرة، ظاهره بقاياها.

*الحاجبان:

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفهرس

المقدمة. 5

الفصل الأول- ميدان فكرة. 7

عالم الأفكار. 9

الكاتب بين القرار  والقلق.. 21

النقد بين الإبداع  والشخصنة. 24

الكاتب بين الفكرة والتدوين.. 27

الفكرة بين الخط الهمايوني والميلودي.. 30

الكاتب الذّبابة. 33

الفكرة تحت مطرقة الأستطيقيا 36

تشاركيّة الفكرة. 40

الفكرة ذات الجَرْسِ الموسيقيّ.. 42

الفكرة الحداثيّة بين الوضوح والرمزيّة. 46

الفكرة بين الإبداع والتجديد.. 49

الفكرة الرِّسَاليّة. 52

كُولاجات الفكرة. 54

الفكرة المُستهلكة. 57

الفكرة وعقدة الخواجة. 60

الفكرة المفتاحيّة. 64

الفكرة في المدينة الفاضلة. 67

الفكرة البروباغندا 70

الفكرة بين نكبة ونكسة. 74

الفكرة بين الإسراف والتقتير. 77

الفكرة والمقصديَّة. 79

الفصل الثاني- فنون الكتابة. 83

خواطر في الكتابة الروائية. 85

مهارة الوصف.... 88

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق