السبت، 9 يوليو 2022

الكتابة والمنفى

 

 

 

الكتابة والمنفى

ندوة عبر الزووم لمؤسسة أفرا في المغرب

(10\7\2022)

 

مقدَّمة:

إشكاليَّة الوطن والمنفى تتجلى قسوة وكراهة على المنفيِّ من بلده لأيِّ سبب كان، تبدأ القضيَّة بالإبعاد وتبعاتها، ابتداء من المكان الذي سيذهب إليه، وقضايا المعيشة اليوميَّة، والأمن على النّفس، وقضّية التقييد بقوانين جديدة للمجتمع الذي ذهب إليه، وقضيَّة الاندماج التي تُذيب مع الوقت وهج القضيَّة الأساسيَّة التي من أجلها خرج من بلده مُكرَهًا.  فالمنفى ليس بقعة غريبة فحسب، إنما هو مكان يتعذر فيه ممارسة الانتماء.

يُخرِّب المنفى قدرة الانتماء، ويحول دون ظهور تلك الفكرة البرَّاقة التي تجتذب الإنسان، ولطالما وقع تعارض، بل انفـصـام، بين المنفي والمكان الذي رحل أو ارتحل إليه، وندر أن تكلَّلت محاولات المنفيِّين بالنجاح في إعادة تشكيل ذواتهم حسب مقتضيات المنفى وشروطه. ومن الصواب أن يوصف ذلك بأنه (شقاء أخلاقي).

تعريف المنفي:

حسب رأي "د. عبدالله إبراهيم" في الكتاب الذي حرّرهُ الموسوم "الكتابة والمنفى". والكتاب مواضيع حول أدب المنفى لمجموعة من الكُتَّاب العرب. الصّادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت.

·       المنفيُّ هو من اقتلع من المكان الذي ولد فيه، وأخفق في مد جسور الاندماج مع المكان الذي أصبح فيه، فحياته متوترة، ومـصـيـره ملتبس، وهو يتـأكـل بـاسـتـمـرار ، ولا يلبث أن ينطفئ بالمعنى المبـاشـر لـيـتـوهج، مـرة أخـرى ، بالمعنى الرمزي .

·       المنفي: ذات بشرية واعية لكنها ممزقة، هتكت عذريتها، وخربت سويتها الطبيعية، فلا سبيل إلى إعادة تشكيلها في كينونة منسجمة مع نفسها أو مع العالم.

·       ولطالما اتقد المنفيون حماسة أول عهدهم بالمنافي، إنما لم يعوا أنهم رسوا في منطقة مبهمة لا تخوم لها.

·       فمن اختار المنفى فقد راودته الآمال العراض لإجراء تحويل جذري في نمط حياته ، واختياراته ، ومن دفع إليه قسرا وجده ضربا من الانتقام الفظيع الذي لا سبيل إلى الاقتصاص منه.

·       لكن المعرفة بالمنفى سرعان ما تراكمت خلال القرن العشرين، وارتسمت معالمها الثقافية؛ فراودت بعض المنفيين أحلام وردية بعـالـم جـديـد ينبثق من أحـشـاء عـالـم عـتـيـق لا يقبل الاختلاف، ولا يعترف بالمغايرة، ولا يوفر أسباب الشراكة في الحقوق، لكن  ولادته تعسرت، ثم تأخرت، وحينما ظهرا أخيرا جاء هشا لا طاقة له بقبول الغرباء، وحـمـايـتـهـم ، ناهيك عن الدفاع عنهم ، فكان من المنفيين من قبل التواطؤ فوجد فيه خلاصا مؤقتا لمحو التجارب المريرة التي ذاقها في وطنه، وفيهم من وقع أسـيـر الإغراءات المذهلة للعزلة، ومنهم من أراد الاكـتـفـاء بتحسين أحواله، أو خوض مغامرة، أو ملامسة عـالـم آخـر ، لكن مجمل هذه الدوافع المتداخلة ما لبثت أن غدت جزءا من الاستراتيجية التي يمارسها المنفى ضد من ينتسب إليه ، وهي الانغلاق على من يكون فيه ، ووضعه تحت طائلة انتظار دائم ، فانتهى الأمر بالمنفيين إلى غير ما صبوا إليه، فقد أصبح المنفي اختيارا غامضا يختلف عما كان يتوقع منه ، لمن أراده أو أجبر عليه، فتمخض عن كل ذلك شعور مركب من الآمال والإخفاقات، ومن الإقدام والتردد، ومن الاندماج والعزلة، ومن الاطمئنان والخوف، ومن النبـذ والاشـتـيـاق، فكان أن تلاشت الفكرة البراقة التي اجتذبت المنفيين للعيش في عالم أمن يخلو من مخاوف الأوطان ، إذ نشـأت غـيـرها في المكان الجديد ، وسواء تعايش المرء مع هذه أو تلك ، فإن إحساسه المربع بفقدان مكانه أورثه شكا بأنه خارج الدائرة الحميمة للانتماء البشري .

جواز السَّفر:

هو الأداة الضروريَّة التي تجعل الاعتراف بالإنسان كإنسان، لا يكفي أن تقول أنا الشاعر المشهور، أو الصحفي، أو الروائي، أو الفيلسوف. حتّى ولو كنت من كُنتَ، إلَّا إذا أبرزت وثيقة جواز السّفر التي هي الدليل على أنّكَ أنتَ أنتَ بالفعل، ومصداقيَتها أكثر من مصداقيَّة حاملها.

وفي كتاب "حوارات المنفيِّين" ، لبرتليت بريشت (بريخت) الذ ي كان معارضًا للنظام "هتلر" الشمولي. وفي فقرة لافتة. حول فكرة حول "جوازات السَّفر"

·       (جواز السَّفر يجب أن يكون حقيقيًّا، كي يُسمَح لحامله بدخول بلد ما,

·        (جواز السَّفر أثمن جزء في الإنسان؛ فلا يصنع نفسه بالسُّهولة التي يُصنع بها الإنسان، فالإنسان يُمكن أن يُصنّع في أيِّ مكان وبكلِّ رُعونة، وبدو سبب معقول).

·       (غير أنَّ جواز السَّفر ليس كذلك أبدًا، لذلك يُعتَرف به عندما يكون جيِّدًا، في حين لا يُعترف بالإنسان مهما كان جيِّدًا)

·       (يمكننا القول أنّ الإنسان ما هو إلّا حامل آليٌّ للجواز، إذ يُدَسُّ في جيبه، كما تودَع الوثائق والمًستندات الثَّمينة في الخزانة الحديديَّة، التي لا قيمة لها  سوى أنَّها تحوي أشياء ثمينة).

·       يُمكن للمرء أن يدَّعي بأنَّ الإنسان ضروريٌّ للجواز بمعنى من المعاني).

·       (الجواز هو الشيء الأساسيُّ، وعليكَ أن تخلع قُبَّعتكَ احترامًا له، ولكن بدون أن يكون هناك إنسان تابع لا يُمكن أن يُحقِّق وجوده، أو قُل لا يُحقِّق وجوده كاملًا).   

الكتابة والمنفى:

وتأدى عن ذلك ضرب من الكتابة، هي كتابة المنفى، وفي اللُّبِّ منها أدب المنفى، ومادَّتها مزيج من الاغتراب والنفور؛ لأنها تراوح في منطقة الانتماء المزدوج إلى هويتين متباينتين، ثم  في الوقت نفسه، عدم إمكانية الانتماء لأي منهما، لكنها كتابة كاشفة تقوم على فرضية تفكيك الهوية الواحدة، وتقترح هوية رمادية مركبة من عناصر كثيرة.

وبهذه الصفـة تعـدُّ كتابة المنفى عابرة للحدود الثقافية، والجغرافية، والتاريخية، والدينية، وهي تُخفي في طياتها إشكالية خلافية، كونها تتشكل عبر رؤية نافذة، ومنظور حادٍّ لا يعرف التواطؤ, فكتابة المنفى تتعالى على التسطيح، وتتضمن قسوة صريحة من التشريح المباشر لأوضاع المنفي، وعلى حد سواء، لكل من الجماعة التي اقتلع منها، والجماعة الحاضنة له، لكنها تنأى بنفسها عن الكراهية، والتعصب، والغلو، وتتخطَّى المكان الأهمُّ في حياة أيّ إنسان، ألا وهو مُسقط الرأس، ومراتع الطُّفولة، وستبقى ماثلة بدقائق تفاصيلها، ومن الصَّعب نسيانها تمامًا مهما تقدَّم العمر، ومهما  اِدلهمّت الخُطوب على الإنسان، وهي الأماكن الأحبّ إلى قلبه، شعور عميق بالرّاحة عند استعادة ذكراها.

في حديث لي مع الصديق الفلسطينيِّ الأصل، السّوريّ الموطن، الأديب والكاتب "راكان حسين": وصف نفسه بأن لاجئ "سُوبَّر"، منذ بداية تفتّح وعيه بدأت الهجرة على دروب المنافي، من فلسطين بعد حرب حزيران 1967 إلى سوريا في مدينة "المزيريب" محافظة درعا، ومن ثمّ في رحلة إلى أستراليا لسنوات طويلة، ليستقرّ به التِّرحال من أقصى جُنوب الكرة الأرضيَّة، إلى أقصى الشّمال ليحطّ برِحَالِه في ألمانيا.

لا شكّ أنّا رحلة حافلة بالمشاقّ والمتاعب، وكأنّ التشرّد قدره، يا إلهي..!! كم هو حجم المعاناة والمُقاساة والمُكابدة والحنين الضّائع على دروب اليأس، ولكن يبدو أنّ معطيات أقوى، ما زالت تنتصر للبقاء. 

تذكّرتُ صديقي هذا أثناء قراءاتي كتاب "مدن ورجال ومتاهات"، وهو مقالات أدبيّة للشاعر العراقي "عبد الوهّاب البيّاتي"، جاء كتدوينة لمذكرات، وهو جزء من سيرة ذاتيّة، ومحطة من محطّات الكاتب خلال ترحاله من العواصم العربيّة ما بين دمشق وبيروت والقاهرة وعمّان، المحّطات الأكثر كان تواجدًا فيها، إضافة إلى العواصم الأوروبيّة، وغيرها في قارّات العالم.

الدكتاتوريّات العسكريّة في بلادنا العسكريّة خاصّة ذات الحكم الجمهوريّ، والنهج الثوريّ، التي ضيّقت على شعوبها، فأحصت عليهم أنفاسهم، وفتحت أبواب السّجون والمُعتقلات، وتحريم الحريّات العامّة، وانتهاك صارخ لحقوق الإنسان على كافّة الصُّعُد والمُستويات. 

الاحتلال الصُّهيوني لفلسطين ساهم بخلق مشكلات للشعب الفلسطينيّ، ولدول الجوار التي فتحت أبوابها لهم للعيش في ملاذات آمنة. ومنذ أواخر العام 2010 وبداية 2011، كانت البداية لربيع عربيّ دامٍ ارتدّت الأنظمة على إرادات الشّعوب، فقامت بالهجوم الهمجي المُضادُّ، واستخدام جميع وسائل العنف، وفي غياب القوانين والدساتير الضّامنة، ارتُكبَت الفظائع التي لا يتصّورها عقل بشريّ على الإطلاق، وأعظم المجازر الخارجة على كلّ مألوف، وهذا يتطابق مع رؤية عبد الوهاب البياتي: " في العالم الثالث بالذَّات لم تعُدْ الأوطـان تُوفِّر أيَّ طقسٍ أو مناخٍ رُوحيٍّ وماديٍّ للمُثقَّف والكاتب، ولهذا؛ فإنَّه يظلُّ يَعُضُّ قيده، وينقُر قُضبان قفصه حتَّى يموت".

فجاءت مُخرجات هكذا أوضاع شاذّة؛ لتصنع أعظم موجة تشريد وتهجير على مساحات الوطن العربيّ بين شرقه وغربه، وتكون هذه الموجة امتدادًا طبيعيًّا لما قامت به إسرائيل من طرد للفلسطينييّن من وطنهم، وفي هذا الصّدد، وصف الصّديق المُفكّر والباحث والأديب "محمد زعل السّلوم" نفسه: بأنّه "مُشرّد البوسفور"، وهذا ممّا جاء به من خلال عمل روائيٍّ حمل هذا العنوان. والمنفى عند البيّاتي: استبدال القيود بالقيود والمنافي بالمنافي حتى يموت ويكتشف الإنسان وهو ينفي نفسـه أو ينفى أنه مقبل على ربيع الإنسان ولكنه يكتشف بعـد وهـلـة أنـه وقع في منفى جديد لا يقل قسوة عن منفاه السابق".

برؤيته العميقة وإحساسه القائم على وعيٍ تامٍّ عند البيّاتي. فيقول: "يتجاوز الشَّاعر حـدود آخر منفى لـه على الأرض، الأرض يطلق صيحة هي أشبه بصيحة الإنسان الذي واجه الطوفان في الملحمة البابليّة القديمة"، وفي ذلك تساوى عندي الليل والنّهار. أنا المنفيُّ بداية داخل روحي، ومن ثمّ خارج الوطن، وتعادل النّور والظّلمة في معطيات حياتي التالية، لم يعُد الألم والسّعادة يفترقان تباعُدًا؛ فأصبحت كلُّ المنافي وطنًا فقط أجل البقاء، سأبقى أتنفّس هواءه، وأملأ بطني بخبزه، وأتجوَّل في ربوعه حتّى يقضى الله أمرًا كان مفعولًا.

ويكتسب الوطن الأول في وجدان عبد الوهاب البيّاتي أهميّة أخرى، وبرؤية مليئة بالمرارة والأسى: "وعندما يبدأ الإنسان في منفاه الأول (الوطن) يخدع نفسـه، فينظر إلى ساعته بين الحين والآخر، ويُحصي كـل الساعات، ويعُـدُّ الأيَّام والشُّهور والسَّنوات؛ علـى أمـل أن تُشرِق شمسُ الله على ربيع مملكة الإنسان".

وفي هذا الاقتباس تتضح كيفيّة تفكير البيّاتي بفلسفة الأمر، بنظرته المُختلفة عن محيطه الاجتماعيِّ وأترابه، لا شكّ أنّها رؤية شاعر، ربّما تأتي نبوءة على محامل كلماته: " منذ صرختي الأولى، وأنا في يَدِ القابلـة، شعرتُ برمـاح النُّـور تطعنُ عيني، وبريحٍ صَرْصَرٍ عاتيةٍ تهُبُّ على المدينـة الـتي وُلـدتُ فيها. أحسسـتُ عنـد ذاك أنّـني في اللَّامكـان واللَّازمـان، أو أنَّـني جئتُ قبل البداية أو قبل النهاية؛ فنظرتُ فيما بعد إلى وجهـي في المرآة؛ فأحسستُ أنَّ لون عيني الأخـرى، الـتي كنتُ أحملها في زمن آخر سبق لي أن وُلـدتُ فيـه، أو زمـن آخـر سأولدُ فيه. حرَّكـتُ أصـابـع يـدي؛ فقبضتُ على الرِّيـح والمطـر، وعلى حجارة القمر، التي كان رُوَّاد الفضـاء لم يحملوهـا بعـد إلى أرضنا؛ فقلتُ: مـن أيـن لي بهـذه الأحجـار؟، وظننتُ أنَّهـا أحـجـار أرضيَّة، ولكنَّني علمتُ بعد سنوات طويلة: أنَّهـا كـانـت مـن أرض القمر، أو مـن كـوكـب آخـر، وقلتُ لنفسـي: مـن أيـن لي بهـذه الحجارة؟ وحاول شِعْري أن يكتشفَ الكوكبَ الذي جاءت منه هذه الحجارة اللَّا إِلَهِيَّة، ولكنـَّني لم أستطع أن أكتشـفَ هـذا السِـرَّ حتَّى الآن، أحيانًا أحسُّ، وبـدون تَعَالٍ أو غـُرور إنَّـنـي ولـدتُ في نهاية هذا العالم، ولكنّـي أحـسُّ في الوقت نفسـه أنَّـنـي وُلـدتُ في بدايته؛ فمن جاء بي إلى هنا..!!؟".

 فالطّريد في وطنه بلا ضمانات حقوقيّة يُحاول البقاء في وجه العاصفة، ولا بدَّ للغزال أن يتعب؛ ليأتي الصيّاد فيجده في قبضته وفي مرمى نيرانه القاتلة؛ فإذا استطاع النّهوض والهروب. ونحن بين أمرين كلاهما مُرْ، ولا نعدو كَبالِعِ السِّكِّين على الحدّيْن، إمّا البقاء مصحوبًا بالخوف والقلق، أو بالقبول بشروط المنفى.

فماذا يعني الوطن.. الذي أحببناه؟، وجذور أرواحنا ما زالت هناك مغروسة في تربته؛ فهل كُنّا في أكذوبة واهمة سرقت قُلوبنا..!!؟.  

 

ــــــــــا 14\ 1\ 2022

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق