● - خاتمة البحث:
"يتناثر في الأماكن التي احتضنتنا دفق المشاعر، وأبجديّات العشق، ويشيع الهوى في طرقاتها، وتحتشد لحظات الفرح والحنين في كلّ الأركان والحنايا، وتحفظ علينا علينا نسج وإيقاع الحياة، وتؤجّج مكامن لقاءات الأحبّة وحكايات العمر على فطرتها".*(1)
من الأهميّة القصوى أن يُشكّل المكان وفضاءاته في وعينا الجانب الأعظم؛ لتأثيره البالغ في تأثيث ذكراتنا وحياتنا التي ارتبطت بكلّ جزئيّاتها به، فكان هو بحدّ ذاته ذاكرة استقّرت في ذاكرتنا. فالمكان ذاكرة، وذاكرة الفرد جزء من ذاكرة المكان.
"أوّل الصّرخات الثلاثة تكون في أوّل مكان عند فضّ الظّلمات، ولكل منّا صرخته ومكانه، وهذه الصّرخة هي التي تُشكّل علاقتنا الوثيقة بالمكان، فمهما ارتحلنا تبقى الأماكن التي ألفناها سابقَا تحتلّ زاوية من أنفسنا، نشتاق إليها، فنتخيّل صورتها التي نستحضرها من سجلّ الذّاكرة". *(2)
"فالأماكن تحرقُ أشواقنا إليها، فهي مسقط الرأس ومدارج وملاعب الصّبا، وفيها تُختَزن الذكريات بحلوها ومُرّها، وبذلك تجعلنا نحثّ رواحلنا نحوها من أقاصي الدّنيا، حتّى نُنيخها في رحابها، ونقول: سقى الله أيّام زمان". *(3)
وقد كان للمكان وفضاءاته الحيّز الأكبر في الأعمال الروائيّة، وهي تُعتَبر العمود الفقري للسّرد الروائيّ، ومن المكان تنطلق الحكاية الأولى على محمل الذّاكرة، وحول المكان تُنسج الذكريات والأساطير؛ ليصبح بالتّالي ذاكرة تحمل سمات المكان، وتحتلّ ذاكرتنا.
والحنين والشّوق للمكان يحرق القلوب للعودة إليه، وهو ما اصطلحت العرب عليه بـ (الأبابة)، ومعجميًّا فإن الأبابة: "داءٌ يُصيب الغريب، وهو شدّة حنينه إلى وطنه".*(4)، وهو المعادل الحقيقي للمصطلح الغربي (نوستالوجيا).
"المكان لا يكون منعزلًا عن باقي عناصر السّرد الروائيّ بل يدخل في علاقات متعدّدة مع الممكوّنات الحكائيّة الأخرى للسّرد، كالشخصيّات والأحداث والرّؤى السرديّة، وعبر هذه العلاقات المركبّة يلعب المكان دوره النصّي داخل السّرد".*(5)
وعلى اعتبار أنّ الدّراسة هذه كانت مُنصبّة حوال رواية(يسعون حسيسها) للروائيّ الأردنيّ (أيمن العتوم)، فقد نسجها أدبيّا بطريقة سرديّة رائقة وسهلة، على لسان صديق الطبيب السوريّ (إياد أسعد) ذو الاتّجاه الإسلامي الأيديولوجي، عندما اعتقل في سورية في العام 1980، إبّان الصّراع الدمويّ المسلّح بين النّظام والمعارضة، مما انعكس على الوضع عامّة بمزيد من إحكام القبضة الأمنيّة على جميع مفاصل الحياة، والإجراءات الخاصّة المستندة إلى قانون الطّوارئ، وقانون الأحكام العُرفيّة.
فكانت سوريّة بكامل رقعتها الجغرافيّة فضاءً أوليًّا كبير احتوى على فضاءات كثيرة، منها المدينة والقرية والمدرسة والجامعة والمستشفى والشّارع والسّجن، هذه الأجزاء هي فضاءات مُصغّرة، تعيش فيها مجتمعات مصغّرة.
"فالمجتمع نظام، يجمع الأشخاص، بعلاقات ترابطيّة، أو تشاركيّة؛ ليحتمل المجتمع التعايش للمجموعات، التي لا تنسجم في رؤيتها مع المنظور الكُلّي للمجتمع، كي نعيد النّظر بمفهوم المجتمع" *(6)
وجاءت رواية يسمعون حسيسها كأنموذج واضح في أدب السّجون، بدأ في الغرب وسار قطاره ليُشكّل ملمحًا مميّزًا للدكتاتوريات العربيّة. وهناك العديد من الروايات التي صدرت خلال الأعوام الأخيرة، وتعتبر رواية (جمهورية كأنّ) للروائيّ (يوسف زيدان) التي صدرت حديثًا، وتحكي قصّة ثورة يناير في جمهوريّة مصر، وتتقزّز النفس الإنسانيّة من الانتهاكات المهينة للكرامة والشّرف، وممارسات همجيّة للأجهزة الأمنيّة لم يفعلها العدوّ المحتلّ في أهل البلاد.
"أدب لم يزل تحت الأرض، ولم يخرج بعد إلى النور، وهـو أدب السجون. هذا الأدب لم يزل أبطاله في الغياهب المختلفة، ويتوقّع أن يكون له شأنًا، لو قيّض له من يجاهدون في سبيل جمعه وتدوينه... ولو كنتم تعلمون مقدار الخسارة، التي سيُمنى بها الأدب الإسلاميّ خاصّة، والفكر الإسلاميّ عامّة، لضياع أدب السجون، لقاتلتم بأظفاركم وأسنانكم للحصـول عليه أو على بعضه؛ فليحرص كلّ كاتب على البحث عنــــــه والوصول إلى مظانّه، والحصول عليه وتوثيقه، فهذا الأدب هو الوثيقة الحقيقيّة الوحيدة الباقية للتّاريخ، من حياة هذا التاريخ". *(7)
كما أن رواية (القوقعة) للروائي السّوريّ (مصطفى خليفة)، كانت يوميّات سجين في تدمر، وكما توضّح الرواية أن بطلها هو مسيحيّ سوريّ، اعتُقل في المطار أثناء عودته إلى الوطن، بعد بعثة دراسيّة للإخراج المسرحيّ، ومكث في السّجن ثلاثة عشر عامًا.
وتعتبر أيضّا رواية سورية (الرّحيل إلى المجهول – لآرام كرابيت)، رواية يوميّات سجين في تدمر. وهي تجربة كاتبها ويوميّاته في السّجون السّورية. نحن الآن أمام نموذجين للروايات.
أوّلًا: من سجّل تجربته في السّجون السوريّة كما في روايتيْ (القوقعة و الرّحيل إلى المجهول) وكاتباها هما من الاتّجاه العلمانيّ.
ثانيًا: من سجّل تجربة غيره ووثّقها، كما في روايتيْ (يسمعون حسيسها و مذكّرات سجينة)، وهما من وجهة نظر كتّاب من الاتّجاه الإسلامي.
اللّافت للنظر أن كلا النموذجين كانا صادقيْن متشابهين بوصف الحياة في السّجون السوريّة على وجه الخصوص، ونقل أمين، ويتشابهان حدّ التّطابق، وكما أنهما يلعبان على وتر العاطفة التي تتهيج بالدّموع، واعتصار القلوب ألمًا على حياة هؤلاء البشر خلال الفترة التي أكلتها غياهب السّجون من حياتهم.
وفي مرحلة لاحقة تزامنت مع الرّبيع العربيّ اعتبارًا من العام 2010، وما رافق هذا الحدث الكبير في حياة الشّعوب العربيّة، استتبع ذلك ظهور كتابات روائية جديدة منها على سبيل المثال والتي جاءت في فترة لاحقة من الحدث، وفي نفس سياق أدب السّجون، (جمهوريّة كأنّ- للروائي يوسف زيدان\ مصر)، (الموت عمل شاقّ- للروائيّ مصطفى خليفة\ سوريّة)، (الطّريق إلى الزعتري – للروائي محمد فتحي المقداد\ سوريّة)، (48 ساعة في خان شيخون – للشاعر محمد عبدالستّار طكو\ سوريّة).
ــــــــــــــــــــــــــ
(1)*كتاب (أدبيّات المكان وذاكرته) تأليف الدكتور سلطان المعاني. ص11
(2)* كتاب (مقالات ملفّقة) تأليف الروائيّ محمد فتحي المقداد. ص102
(3)* كتاب (مقالات ملفّقة) تأليف الروائيّ محمد فتحي المقداد. ص104
(4)* المعجم الوسيط.
(5)* من محاضرة للنّاقد أحمد علي القمّاز ألقاها في منتدى البيت العربي الثّقافي في عمّان 11\2\2019، حول فضاءات المكان عند نجيب محفوظ، نموذجًا (ثرثرة فوق النّيل).
(6)* من دراسة حول (المجتمعات المصّغرة في رواية دوّامة الأوغاد \محمد فتحي المقداد) للنّاقد والشّاعر عبدالرّحيم جداية – نقلًا عن جريدة الدستور 13\2\2017.
(7)* من تقديم الدكتور محمد الحسناوي لرواية (مذكّرات سجينة – لمحمد عادل فارس)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق