من
طهران إلى جنوب لبنان
بقلم-
الروائي محمد فتحي المقداد
هل كان مُصادفةً..!! أن يأتي ضابط مخابرات إيرانيَّة
بهيئة شيخ يعتمر على رأسه عِمامةً سوداء إلى بيروت..!!؟.
في منتصف الخمسينيَّات من القرن الماضي.. بعد
فترة اكتسب الجنسيَّة اللُّبنانيَّة..، وترقَّى؛ ليكون شخصيَّة ذات فعاليات سياسيَّة
على السَّاحة اللُّبنانيَّة عُمومًا، وكانت لقاءاته المُنتظمة مع رئيس الجُمهوريَّة،
والرئاسات الأخرى للدّولة اللُّبنانيَّة ، وقيادات الأحزاب والطَّوائف.
ومن ثمَّ جاء التقاء مُخطَّطاته وأهدافه مع
نهج قيادة منظمة التحرير الفلسطينيِّة، وذلك من خلال طروحاته بمناصرة القضيَّة،
وإيمانه البادي بتحرير فلسطين، وصدِّ
اعتداءات العدوِّ الصُّهيونيِّ، ولم ينس تقديم بعض الدَّعم الماديِّ والمعنويِّ؛
لكسب ودّ وثقة أهل القضية بتأليف قلوبهم.
بعد ذلك دفع بأنصاره من (حركة المستضعفين
والمحرومين - أمل) إلى صُفوف حركة فتح؛ ليتلقُّوا تدريبات عسكريَّة، صنعت منهم
مقاتلين أشدَّاء، وأوَّل خنجر طُعِنَت به "فتح" في ظهرها وخاصرتها؛ كان
على أيديهم، ولم يكذب الشاعر بقوله: "أُعلِّمهُ الرماية كل يوم.. فلمَّا
اشتدَّ ساعده رماني".
حلّ هذا الضيف الفارسيُّ في لبنان على عائلات
في جنوب لبُنان، والبِقَاع، والهِرمل، وبنى معهم علاقات اجتماعيَّة بداية؛ مُتقرّبًا
منهم على أساس أنَّه مُنتَمٍ لهم، وأنَّه ينحدر في أصله من جبل عامل. في العام ١٩٥٥كان
مُستَكمِلًا أدواته العلميَّة من حوزة (قُم) الإيرانيَّة بجيوب ملآى بالأموال؛ ليُقيم
أُسُس مشروع الحُلُم الفارسيِّ الأوَّل: بالسَّيطرة، والهَيْمنة، والامتداد،
والتبشير المذهبيِّ، من خلال الاعتماد على الطَّائفة الشِّيعيَّة اللُّبنانيَّة
العربيَّة المُهمَّشة منذ قرون.
منذ اليوم الأوَّل لمجيئه، استقطب عددًا من الأتباع
والمُريدين، من خلال العاطفة الدِّينيَّة في المِخيال الشِّيعيِّ، وفكرة المظلوميَّة
في الخلافة، وتجديد مراسم التَجمُّعات الحُسينيَّة في
عاشوراء من كلِّ عام، وما يتبعها من طقوس اِنْمحى أكثرها في بيئة فلاحيَّة، تنتزع
لُقْمتها بكلِّ نفس ذائقة من الكدّ والتّعب من أجل البقاء. لم يكن بالنسبة له ذلك مُجرَّد
حلم، بل كان على يقينٍ من فعاليَّة الأموال التي جَلَبها معه، والدعم غير المحدود
لهذا الأمر؛ فأنعش الأوضاع الماديَّة لعموم الجُنوبيِّين "الشِّيعة"، وأهل
بعبلك والهرمل وجميع قرى البِقاع ذات الطَّيف الشِّيعيِّ. من خلال إنشاء مُؤسَّسة
أمِّ الشَّهيد، والجمعيَّات ذات العَوْن الماديِّ، والإسعافيّ الطبِّي لمساعدة المحتاجين،
برؤية طويلة الأمد، ومشاغل حرفيّة للنساء مُتخصِّصة في أعمال النَّسيج، ومشاريع
التعليم الدِّينيِّ المذهبيّة، ولم يُستثنَ
من ذلك القُروض الماديّة طويلة الأجل بلا فوائد.
هذه الأرضيَّة التي مهّدها على مدار سنوات
قليلة؛ أتاحت له اِكتساح السَّاحة الشَّعبيَّة الشِّيعيَّة اللُّبنانيَّة، وأن يُصبح
الزَّعيم الشِّيعيِّ الأوحد، منافسًا بذلك الزَّعامات الشِّيعيَّة اللُّبنانيَّة المحليَّة
والتقليدية، ويسحب البِسَاط من تحتهم لاحقًا.
وكان
بِحقٍّ هو (الإمام موسى الصدر) الزَّعيم الشِّيعيِّ الأوحد، الحائز بالدَّرجة
الأولى على النسبة الأعلى شعبيًّا وجماهيريًّا، وجاء إعلانه
عن تأسيس حركة (أمل) تتويجًا لمشروعه؛ ولتكون ذراعه العسكريَّة، والتي
أصبحت فيما بعدُ رقمًا صعبًا في المنطقة؛ لفرض شروطه في المنطقة.
***
الجزء الأول من المقال سلّط الضوء على مجيء
الإمام (موسى الصدر) إلى لبنان في العام ١٩٥٥، ومن الوهلة أن يُثير العنوان
الشّكوك والتَّساؤلات، ومن الغريب أنّ أحد الأدباء رغم صداقتي معه منذ سنوات، لم
ألحظ لو إعجابًا لمرَّة واحدة على أيٍّ من منشوراتي ذات الأبعاد الأدبيَّة، وهو ذو
باع طويل في الحقل الأدبيِّ، المُثير أنَّه يرجو بكلِّ إخلاصه: "بأن لا أُثيرَ
الطَّائفيَّة".
وبالعودة إلى المقال؛ ما هو سوى إعادة قراءة
تاريخيّة لحدث مجيء الإمام "موسى الصّدر" إلى لبنان، وتأثيراته التي امتَّدت
خارج لبنان إلى جارتها سورية، وكم سمعنا مُكبّرات الصَّوت في مدينتي "بُصرى
الشّام" أقصى جنوب سورية، تُنادي: "يا لثارات الحُسيْن"،
وانسحبت تتابعات ذلك إلى أيَّامنا هذه، ولتكون بَلَدي ميدانًا للمشروع الفارسيِّ الصفويِّ.
*الإمام
موسى الصدر، وأحداث الدستور في سورية:
مع بداية العام ١٩٧٣، وبعد اعتلاء الرَّئيس (حافظ
الأسد) سدّة الحكم في سوريّة بسنتين، كان قد طرح الدستور الجديد للاستفتاء،
وهو المعدّل عن دستور ١٩٢٥، جرى لغطٌ وجدلٌ كبيرٌ حول بعض موادِّه، وخاصَّة المُتعلِّقة
بدين الدَّولة الإسلام. قال فريق: "بأن الدولة لا دين لها"،
وآخرون: "دين رئيس الدَّولة الإسلام"، وهناك طرحٌ فريدٌ على
طريقة لبنان: "يجب أن يكون الرئيس مسلم سنّي".
*جاء
الحل بإقرار المادَّة الثالثة من الدَّستور السُّوريِّ: "الإسلام أحد
مصادر التشريع في الدولة".
*إشكالية
دين رئيس الجمهورية القادم من أقليّة طائفيّة في سورية، وقيل ما قيل عنها في
المصادر التاريخيَّة والدّينيَّة، وكانت معضلةً حقيقيَّة، وتحَدٍّ للرَّئيس الجديد؛
فجاء الحلّ من لُبنان هذه المرّة، ومن عند الإمام (موسى الصّدر) بالذّات؛
بفتواه الشّهيرة: "بأنّه يشهد بأن حافظ أسد هو مسلم يعتنق المذهب الجعفري
الإثني عشري". ولما للمشهديَّة الدِّينيَّة السُّوريَّة الشعبيَّة
والرسميَّة؛ المُمثَّلة بعلمائها من ثِقَل اجتماعيٍّ، بتأثيرهم الواسع، ورُسوخ
احترامهم جماهيريًّا.
وكان أن انبرت فئة منهم؛ لتكون عرَّابة للموقف
السِّياسيِّ في تلك الفترة، وإضفاء نوع من الشرعيَّة المطلوبة رسميًّا على كافّة
المُستويات والأصعدة في سوريا، وذلك بمُباركة العهد الجديد والتهليل له، ولتشكّل
ظاهرة زواجٍ عُرفيٍّ بين الفريقيْن، وتآخٍ عجيب بين العمامة وصولجان الرِّئاسة، من
خلال شبكة علاقاتٍ مُعقَّدة من المصالح الظَّاهرة والخفيَّة، تحت شعار مصلحة الوطن
والمواطن.
وتزعَّم هذا الاتجاه الشيخان في سوريَّا: (أحمد
كفتارو) و(عبدالستّار السيّد)، الأوَّل صار مُفتِيًا للجمهوريَّة إلى
توفَّاه الله، عِلمًا: أنّه لم يَنَل إجماع أعضاء المجلس الإسلاميِّ الأعلى في سوريَّا بانتخابه،
إلّا أنَّهم خالفوا النِّظام الداخليِّ للمجلس، باعتبار صوت رئيس المجلس مُرجّحًا؛
لإنجاح الشَّيْخ (أحمد كفتارو) لمنصب مفتي الجمهوريَّة.
والشَّيْخ
(عبدالستار السيد) جرى تعيينه وزيرًا للأوقاف لسنوات طويلة، وكان من أقوى
الوزراء على الإطلاق خلال توزيره في حُكومات تعاقبت على الحُكم، وبعد خروجه من
الوزارة، فإنَّ سيَّارته المرسيدس الوزاريَّة، والحِراسة بقيت معه إلى أن توفاه
الله؛ وفي السَّنوات الأخيرة؛ اختير ابنه الشَّيْخ (محمد عبدالستار السيد)
وزيرًا للأوقاف، وما زال إلى لحظة كتابة هذه الكلمات .
انتهت أحداث الدُّستور حينها، من خلال حملة
اعتقالات واسعة طالت العديد من الفعاليَّات النخبويّة السِّياسيَّة والثقافيَّة والدِّينيَّة
المُعارضة، وانتهت في حينها كل الاحتجاجات، وطَوَتْها صفحات النِّسيان؛ لأنه لم
يمض عليها أشهرٌ قليلة، حتَّى كانت حرب تشرين ١٩٧٣. الحدث الأكبر على الإطلاق، وهي
التي كرَّست سيْطرة الرَّئيس على مفاصل الحياة السُّوريَّة، وإحكام قبضته بحركة
إزاحة مُعارضيه الأشدَّاء، والنَّصر الإعلاميِّ؛ الذي تكلَّل باتفاقيّة فصل القُوَّات
التي تخلَّت إسرائيل بموجبه عن مساحة ستِّين كيلو متر (٦٠) كم مربَّع، وهي مدينة
القنيطرة التي أُضيفت للأراضي التي "احتَّلتها في حرب تشرين 1973 " وهي
القُرى الستُّ والثلاثون التي انسحبت منها بموجب الاتِّفافيَّة، بضغط وبرعاية وزير
الخارجيَّة الأمريكيِّ العم (هنري كيسنجر).
***
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق