الخميس، 11 مارس 2021

فصل (4) رواية خلف الباب

(4)

      في زمن الأزمات يتبدّد اليقين ضَياعًا على أعتاب تناقضات الأشكال غير المُتوافقة. ضبابيّة الرّؤية لهذه المتناقضات، خلقتْ رُؤىً جديدة بمخالفة نَمطيّةِ الواقع؛ انتقالًا لمساحات مفتوحة أتاحَت المُراقبة التأمليّة لِمَسْلكٍ يكاد أن يكون آمنًا لي.

   لكي لا تتعرّض مَحاور فكرتي إلى الشكّ والتشكيك، ولا أن تكون فيما بعد؛ مطعونة مَوْصُومَة على أنّها فكرة هُلاميَّة التعاطي مع الحدث، أخطبوطيّةٍ واهِمَةٍ بكَذِبِها، وتحريفها، أو ذات محورٍ أُحَاديٍّ؛ أرجوها مفتاحًا لأبواب ونوافذ الحوار الرّحبة، حاضرًا ومُستقبلًا بين فُرقاء القضيّة، ومُراقبيها، ومُنتقديها، ومُؤيّديها، ومُعارضيها.

  

    وإذا كان نَسْجُ هذه الرّواية قد اقتضى المُراوحة الزمنيّة بين عوالم التفكير والتأمّل، فإنّي أطمحُ لها القَبول لدى القارئ العربيّ، وإذا ما تُرجمت للقارئ الأجنبيّ؛ فسيكون الأمر مُراوحًا، وأكثر تعقيدًا، وتدويخًا تحت مِطْرَقة الدّراسات البحثيّة عندهم، التي لا تقبل الجمع بين المُتناقضات في ذات القضيّة الواحدة، منهجيَّة البحث بمقدّماتها السّليمة، من المُفترَض بالنَّتائج المُتوافقة مع المُقدِّمات، ليحصل الإقناع التّام.

    ربّما أُبرّرُ دوافعي العودة إلى كتابتي في مِحْورٍ، بعدما ظننتُ نفسي أنّي أوفيته حقّه، لكن تبيّن بُطلان ما ظننته سابقًا، لأنّ التقصير هنا هو ارتباك حقيقيّ، فيما أعتقدُ من مُعارضتي الذاتيّة غير المُنتمية حزبيًّا لأيّ اتّجاه، سوى تيّار سوريّتي، وحُبّي لها، أو بمثل تعقيداتها المُتشعبّة بكثرة توجّهاتها، التي يعجز المُراقب عن الإحاطة بها جميعًا.

 

   ولربّما من قائل يقول: إنّ هذا جنون وتخريف، ولا يُمكن أن يُسِرَّ به صاحبه أو يحكيه هَمْسًا، إلّا في أذُن طبيبٍ نَفْسَانيٍّ، وأنا مُدرِكٌ حقيقة بأنّ الكتابة الصَّريحة بواقعيّتها؛ ستعيش، وستبقى حتّى بعد مَوْتي، وإنُ كُّذِّبت حينًا، أو غَطَّتها غشاوات الكذب والتضليل الإعلاميّ.

   بل يتوجّبُ عليّ الإضافة بهذه الرّواية (خلف الباب)؛ لتُكمل سِفر ثورتنا المجيدة ذات البُعد الإنسانيّ، بعد عِقدٍ لم أُعْلن للمَلَأِ هزيمتي أو استسلامي على الأقلّ، لكنّي.. ما زلتُ أرى نافذة عالية ساميةً يأتيني منها نور، عِلمًاً أنّني لم أستطع النّصر إلى هذه اللّحظة المُكافحة بعنادها على صَوابيِّة موقفها، وما يضيرني مخالفتي للعُموم الجازع المهزوم نفسيًّا.

   مقولة الرّافعيِّ كما أحفظها من (وحي القلم): فإنّه "لا تَتِمّ فائدة الانتقال من بلدٍ إلى بلدٍ، إلّا إذا اِنْتقلتِ النَّفس من شُعورٍ إلى شُعور؛ فإذا سافرَ معكَ الهَمُّ؛ فأنتَ مقيمٌ لم تبرح”.

   وهو ما لم يتحقّق لي من استقرارٍ نفسيّ وعاطفيّ، إلّا عندما عثرتُ مُجدّدًا على صديقيَّ (محمد الفهري أبو فندي، وفاضل السّلمان)، حتّى، وإن كان اللّقاء اِفْتراضيًّا؛ نسبحُ جميعًا في لُجّةِ فضاءٍ رقَميٍّ أزرق، رغم ذلك استعدتُ شيئًا من توازني النفسيّ، وحاولتُ من جديد أمدّ الخطوط استقامة بعد انطوائها، وأيقنتُ أنْ لا أهميّة لبداية التاريخ، أو نهايته على رأي (فوكوياما)، إذا لم تكن ذات تأثير يُذكر في ظلّ وضعي الرّاهن، مع مَنْ كُنتُ أتمنّى لقاءهم، ولو عبر الأنترنت.

   باعتقادي أنّ اللّقاء سيصنع تاريخًا جديدًا رطبًا؛ يُندّي قُلوبًا طالتها يد الجفاف سنينًا تناءت بنا؛ باستعادة البدايات على وجه الدِّقَّة واليقين، طازجة كيوم حُدُوثها.

   ذات مرّة أخبرني صديقي رياض المعلوف، نقلًا عن صديقه (ليون الأفريقي) الشّهير؛ عبر رسالة على الماسنجر: (في كلّ طائفة عُصاةٌ، يُلعَنون في العَلَنِ، ويُدعَى لهُم في السِّرِّ). كنتُ أظنّ أنّني من أولئك العُصاة، إعادة ترتيب حساباتي بدقّة أفضل ممّا كان سابقًا، والأخذ بالأولويّات الرّاسخة برسوخ وطنٍ كان. ولا أرجو من لَعَنَاتٍ تُلاحقني علانيّة، ولا بدعاء الخائفين والمُنافقين سِرًّا.

   الوُضوح غايةٌ، وليس وسيلةً. وما نَفْعُ الوُقوف في النّقطة الرماديّة. هناك فرق كبير بين من هو في بؤرة الحدث، وبين مُراقبٍ يُصفِّقَ في قلبه، وأفكاره الواهِمَة مَرْتعًا فسيحًا للأقوى، الرّماديّة ضارّة في اقترانها في الجانب الآخر الأسود، وهي أقرب له في كثير من مُعطياتها؛ بل هي مَطَبٌّ تتساقط عنده أكثر الأوراق، وتتعرّى الحقائق.  

..*..

ملأأ

   بحثي الدّائم مُختلفٌ تمامًا عن الثرثرة المُتأجّجة في دَوَاخلي لا تهدأ، وأحيانًا أخرجُ للآخرين بأحاديث؛ لاستجلاء بعض ما غَمُضَ وغاب عنّي. تعدُّد الرُّؤى يُوَسِّع مجال القرار النهائيِّ لكلّ حدث.

  

   في كلّ ما كتبتُ، وما فكَّرتُ به ما زالت نهاياته مفتوحة، الحَدَث لم يتوقّف، وإنْ اِسْتطال استغراقه للزّمن، ولم تتضّح حقيقة النِّهايات بعْدُ. كثيرًا ما تموتُ البدايات قهرًا على أعتاب الانتظار المأزوم.

 

   وما هي حقيقة النهايات المفتوحة..!!؟ كأنّها بُوابّاتٌ أضاعت مفاتيحها بتقادُم الزّمان عليها، وبقيت مُستباحةً للعابرين بلا قيْد ولا شرط.  جهلُ آخر النّهايات حريٌّ به إيقاف نُبوءات، وتوقّعات بأبعاد تأويليّة تَتَجافى مع مُستجدّات واقع جديد، سيفرض نفسه تحت مُسميّات مُستحدثة، وحتّى لا تكون رواية خلف الباب رجمًا بالغيب؛ رجعتُ للرُّؤية الوثيقة الصّلة بالواضح، وما استبانَت مُخرجاته بدقّة مُتفاوتة النِّسبة من الصِّحة.

 

   في صباح يوم شتويٍّ بارد.. اِنْهالتْ الأفكار اِنْهمارًا على وقع احتمال نوافذ البيت. ارتطامُ المطر المُستمرّ طوال اللَّيل، مُنَبِّهٌ لي على مدار السّاعة يوقِظُ أحاسيسي، أرفعُ رأسي.. أُطلِقُ نظراتي عبر الزّجاج المُعتّم بالبخار  الذي يكسوه، لا بُدّ من استخدام إحدى يديّ، أبحثُ عن ورقة منديلٍ لأمسحَ بها. تعبَثُ يداي تحت المَخدَّة السّاخنة؛ لا شيء.

  

   اليُسرى تخرجُ دافئة تتلمّس طاولة صغيرةً جانب السّرير، تلتقطُ بقايا مِنديلٍ مُستعملٍ سابقًا. بعد مَسْح البلّلور؛ تتّضح حبّات المطر  متلألئة على أضواء الشّارع الجانبيّ الصّفراء؛ فتتلوّن بِلَوْنها الذّهبيِّ، الذي يتمنّاه المُغْرَم بالغِنَى والثّراء. غرامي يتجدّد أملًا جديدًا مع كُلّ قطرة مطر.

  

   (مطر.. مطر.. مطر) يتردّد ذِكْرُ السَيَّاب اِسْتحضارًا في دماغي، وعلى لساني، مُحاولًا استذكار بعضًا من أُنشودته الخالدة؛ فلم يُجد جُهدي سِوى العُنوانَ فقط، وكلمة مطر المُكرّرة. شعورٌ داهمٌ بالخيبة من ذاكرة واهنة؛ تتراخى حدّ التَّزامُن مع نومي، وخُلود كامل أعضاء الجسم للنّوم.

 

   تداعيات الأفكار سلبتني النَّوم.. كلما دوّنت فكرة؛ أحاول الخُلود للنَّوم ساعة؛ أستعيد بها قواي. لمتابعة يوم عمل طويل، أحتاجُ فيه للتركيز والثبات. بدل التَّثاؤُب المُزعج للزبائن إذا ما جاؤوني.

 

   مكاني الذي يليق بي خَلْف متاريس أفكاري، لا أستطيعُ الفكاكَ منها، ولا هي تنفكّ منّي إذا ما حاولت ذلك. التَمَتْرُسُ قُوّةٌ وضعفٌ في آنٍ واحد.

 

.. *..

 

 

 

 

   عندما يتقزّم الوطن بحجم خيمة.. تَصغُر الحياة وتَهون.. تَموتُ الأحلام الكبيرة.. تنطفئ الآمال.. بعد ذلك فلا مُستقبلَ يُرتَجى.. يُصبح رغيف الخبز أغلى الأماني. يا لخيبة الحياة في زمن للحروب، تُعْتِم جميع دروبها، والبحث عن النَّجاة بالنفس.

 

لُيون الأفريقي لم يتردّد بالإفصاح عن مكنونات دواخله المُتعبة المُرهقَة، وهو في حديث طويل مع صاحبه رياض معلوف، أثناء روايته حكايته: (عندما يلوحُ لك ضيق عُقول النّاس؛ فَقُل لنفسكَ أرضُ الله واسعة، ورحبةٌ هي يداه وقلبه. ولا تتردّد قطّ في الابتعاد إلى ما وراء جميع البحار، إلى ما وراء جميع التُّخوم، والأوطان والمُعتقدات).

 

   صباحُ الزوجةِ (زوجة فاضل) مُزدحمٌ بأفكار، لا تجد اللّحظة المُناسبة للإفصاح عمّا يدور في ذهنها، انتقالها من إلى الغرفة الأخرى بعصبيّة تَكْظُمُها في قلبها، لسانُها مُتجمِّد؛ كأنّ فمها قارّة القُطُب.

 

   عيناها زائغتان لا تتركزان على شيء مُحدّد. مُشاغبات الأولاد لا تُلقي لهم بالًا على خلاف عادتها بتهدئة الجوّ، وتبريد حرارة الاحتكاك بينهم. طلب النّجدة من أحدهم لإنقاذه من أخيه الجالس بجانبه، وفمه مليء بالطَّعام، وآخر شرب الشّاي من كأس أخيه، وما إن كفكف دموعه، حتّى وجدَ صحنَ البَيْض المقليّ فارغًا: "ماما.. يا ماما.. هذا فجعان.. أكلَ بلقمة كبيرة أنهى البيض، لم يترك لي شيئًا".

 

   تشاكيهم طالَ، وهم جلوس حول المائدة، الماما تتفّقد الخزائن والحقائب؛ لاستخراج الملابس الشتويّة المرفوعة على السّقيفة منذ انتهاء موسم الشّتاء في السَّنة الماضية. عملٌ موسميّ يستنزفُ وقتها على مدار أيّام؛ لإعادة ترتيبها في أماكنها المُخصَّصة لأفراد الأسرة كلّ في مكانه.

 

.. *..

 

ملاحظة فاضل السلمان في السّويد

الرسالة الأولى من فاضل السمان (السويد)

   بعد الرّسالة الأولى من أبي فندي، وما تلاها من تفاعلات جدّدت الجُرح في نفسي على مدار سبوع كامل، أعادتني للأيّام الأولى من عُمر الثّورة، لم أتنفّس نسائم الحياة مُجدّدًا؛ طاقة حيويّة اجتاحتني، ودقّت أوتاد النّسيان في جنبات نفسي، بثّت فرحًا عميقًا في أوصالي، على إثره شذّبتُ شعر رأسي ولحيتي عند الحلّاق، خطوط اللِّحْية رسمتْ حدودَ ملامح وسامة قديمة، انمحت كثيرًا من مُعطياتها. 

 

   ما إن ذهبت إلى البريد الإلكترونيّ في يومي الموعود من كلّ أسبوع لفتحه، حتّى توقّفتُ عند رسالة من صديقي فاضل المُقيم في ألمانيا، أمّا وقد اكتسب الجنسيّة، بعد استكمال مراحل الاندماج على مدار سنوات، من تعلّم اللّغة والتدريب، حتّى انطبقت عليه الشّروط، مع تطابق الفترة الزمنيّة المُستمرّة في إقامته. رغم أنّه كان ينوي الاستقرار في مملكة السُّويْد، يبدو أن عناد الظّروف هو ما حال بينه، وبين إكمال مشواره.

 

   غالبتني الدّموع المُتساقطة على لوحة مفاتيح جهاز الحاسوب، مع كلّ كلمة أقرأها:

 

   [انتظار مُمِلٌّ مُقرِفٌ أمام (كرفانات) مكاتب مُفوضيّة اللّاجئين في (الكامب) المُنفصل عن ساحات المخيّم بأسلاك معدنيّة متينة، الدّخول إليها مُتاح عبر بُوَّابة وحيدة؛ تُفضي إلى ممرّات تتعرّج مُلتويةً كأفعى تلتفّ على نفسها، غير آبهةٍ بما يجري حولها، تحترسُ من أيّ خطر داهم مفاجئ. 

 

   رجُلُ أمْن أسمر البشرة شارباه يتدلّيان كذَيْل غراب، تختفي تحتهما شفتان غليظتان كَمِشْفَريْ جَمَلٍ، خطوط الزّمن حفرت مساربها على جبهته، عيناه واسعتان بلونهما البُنيّ الدّاكن، صرامة ملامحه رواية بوليسيّة تبثّ الرّعب في نفس قارئها، تأخذ بتلابيبه لمتابعة الحدث المشوّق لبلوغ النِّهاية، وانتصار البطل على أعدائه.

 

   إشارة معيّنة من يده، مَتبوعة بحركة اهتزاز من رأسه، مُترافقة مع رفع حاجبه الأيمن للأعلى، مما يعمّق خطوط جبهته كخطوط ممرّات إنسانيّة آمنة صالحة لخروج الُمحاصرين باتّفاقات مُعقّدة عبارة عن خارطة طريق فقط، وبضمانة وساطات أُمَميّة، عيون من تجمّع اللّاجئين الجالسين على إسْفِلْت السّاحة الواسعة مُتعلّقة به تنغرز نظراتها في وجهه، والأسماع مرهفة للتمكّن من معرفة الاسم الذي يُنادي عليه ذلك الحارس الجامد كَصَنَم لا يبرح مكانه أبدًا.

..*..

 

   من الأن فصاعدًا صرت من رعايا دولة الـ ( (UNالأُمَميّة، وقّع هنا على استلام بطاقتك الرقميّة، حافِظ عليها.

 

-"احذر المساس بالشريط الأسود اللّاصق على خلفيّتها؛ فإنّه يحتوي على كافّة معلوماتك الشخصيّة، ومن خلاله نتعاملُ معكَ، لأنّك أصبحتَ تحت حمايتنا، ألف مبارك؛ صرت الآن لاجئًا، وستحصل على كلّ امتيازاتك المُتاحة لك، اعتبارًا من الخَيْمة والبَطّانِيّة وكوبون الخبز"

   تأمّلتُ بقايا من نضارة قديمة باهتة على وجه الموظّفة. صرامةُ ملامحها حادّة كقرارات الأمم المتّحدة القاسية، ومُقرّراتها التي لا ترحم مَنْ صَدَرت لأجلهم. مكتب الكَرَفان نظيف أنيق بطاولته الخشبيّة البيضاء، والموظّفة جالسة خلفها، وعن يمينها طابعة موصولة بجهاز (اللّابْتُوب).

  

   تمدّ يدها لسحب أوراقٍ منها، وإيداعها في مصنّف حَوَى ملفّات ممن سبقوني بالدخول. زوجتي تجلس على الكرسيِّ المقابل لي أمام الطاولة, على صدرها الطفل سامر. يلهو بمصّ الحليب من ثَدْيِها، المُغطّى بطرف منديل رأسها المُتدلّي على صدرها. الطفل لم يتجاوز عمره الأربعة أشهر، ذكرى مولده كان يوم اعتقالي.

 

   تاريخ لن يُنسى، سيبقى محفورًا في سُويداء قلبي. والطفل (مَجْد) ذو الثلاث سنوات، عيناه تدوران في رأسه كَلَوْلَبٍ دائمِ الدَّوَران. مُتّكِئٌ على رِجْل أمّه الثابتة على أرضيّة مكتب (الكَرَفان).

 

   صامتٌ درجة السُّكون على غير عادته. وجهه يحكي ألف وألف حكاية، رغم أنّه لم يفهم شيئًا مما سِمعَ ورأى، فقط اِنْتبهَ حينما أجابت أمّه على سؤال الموظّفة عن اِسْميْ وعُمْرَيْ طِفليْها].

*النص مقتبس من رواية فوق الأرض للروائي محمد فتحي المقداد)

..*..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق