السبت، 22 أغسطس 2020

وثوقية الرؤية عند القاص محمد فالح الصمادي

 وُثُوقيّة الرؤية عند القاص

محمد فالح الصّمادي (نشرت في كتابه هو الذي يرى =صدر ٢٠٢٠) 

بقلم الروائي محمد فتحي المقداد

   ليس من السهل على أيّ شخص دخول عالم الأدب والثقافة، إذا لم يكن يتمتّع بموهبته الفطريّة التي تُحدّد مساره؛ لتثبيت قدميْه في ساحة مليئة بالمنافسين بقوّة، والموهبة تحتاج لتدريب وصقل من خلال التجريب والتمرين، بعد استكمال أدوات وتقنيّات القصّ كما عند (محمد الصمادي)، من خلال القراءات الواعية المُستمّرة، واستخلاص الأساليب لكلّ كاتب، وهذا ميدان واسع برؤًى مُتقاربةٍ مُتباعدةٍ في آن واحدٍ معًا.    

   للمُتتبّع لمسيرة الأديب والقاص (محمد الصّمادي) يلحظ بشكلٍ جَلِيٍّ موهبته الأدبيّة من خلال نصوصه القصصيّة؛ ففي مجموعته الأولى (حنين وسبعٌ أخريات)، التي يتجلّى فيها البُعد الوطنيّ والقوميّ العربيّ، إحساسًا منه بالمسؤوليّة المُلقاة على عاتقه ككاتب صاحب رسالة، بأبعادها السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة، وتبايناتها فيما بين أقطار وربوع الوطن العربيّ ما بين شرقه وغربه، ولم يخرج عن ثوابته القِيميّة، ولم يُجدّف ضدّ التيّار ساعيًا، وطالبًا لشّهرة مُزيّفة. بل لم يستطع إلّا إبراز أحزانه المُستكنّة في دواخله على حال الأمّة الممزّقة تقسيمًا، وإرثها الروحيّ وثالث الحرميْن بيد اليهود شُذّاذ الآفاق، مغتصبي الأرض والعِرْض.

   ولم تكن قصصه إلّا من الواقع الثريّ بمادّة تُمكّن الكاتب الحاذق مثل (محمد الصمادي) من اقتناص الأفكار، ومحاولة معالجتها بطريقة الأديب القاصّ الماهر المُتمكّن من أدواته؛ فمن وحي وظيفته جاء بعنوان (المدير)، وجاءت المجموعة كذلك بعنوانات لافتة للقارئ كـ(الرحلة إلى الموت) و(على سرير الشفاء) و(فرح) و(لا شيء يدوم لي) وهي مليئة بالحزن والشّجن من خلال دلالات الألفاظ على هذه الموضوعة، التي ربّما تكون متلازمة واضحة المعالم في مجموعته القصصيّة. 

   ولا بدّ للقارئ من الخوض في أعماق نصوص محمد الصّمادي التي جرّب فيها العديد من تقنيّات القصّ، وأضفى عليها تجربته الذاتيّة ليُشكّل ملمحًا أدبيًّا خاصًّا به جديرًا لتتبّعه من الدّارسين والنّقاد لتأطير رؤيته وتجربته، واستخلاص ملامح شخصيّته الهادئة والثائرة، وهذه الإشكاليّة لا تكتمل إلّا بمن اقترب منه، مُستقرئًا خلفيّته البيئيّة في قرى جبال عجلون، ليعلم مدى صلابته الداخليّة، وللجغرافيا أن تفرض دكتاتوريّتها على محيطها؛ لتخلق تاريخًا على شاكلتها من صُنع ناسها.    

 وبالانتقال  إلى الجانب الإبداعيّ الآخر عند (محمد الصّمادي)، جانب الفنّان فلا أدلّ على ذلك، إلّا كالماء المنبثق من بين صخور (عجلون) الصّمّاء؛ ليُشكلّ حالة فريدة في مجال الفنّ (الفوتوغرافي)، وهو يجوب بكاميراته كافّة الأصعدة الثقافيّة توثيقًا، ليصبح المرجع الأوّل على السّاحة؛ لمتابعته الحثيثة لكافّة النّشاطات الكثيرة في إربد وعجلون على الأخصّ، وكلّل هذا الجهد إعلاميّا من خلال موقعه الأدبيّ (مجلّة ألوان للثقافة والفنون)، لاستيعاب هذا الجوّ المليء الأفكار، ويتّخذ منه نافذة للإطلال منها على السّاحة الثقافيّة العربيّة والعالميّة، وإيصال صوت مجتمعه إلى العالم الخارجيّ. 

بالتوقّف أمام نص (ق.ق.ج) لـ(محمد الصّمادي)، لتتأكّد بجلاء موهبته الفنيّة المُنضافة للأدبيّة بتزاوجيّة فريدة: (عندما سأل المراسلُ الحربيُّ في جبهة القتال الجنديّ: كيف تُدافع عن وطنك؟ أطلق عليه الرّصاص). إشارة للمراسل الحربيّ الموصل لصوت الجنديّ إلى العالم، وهو لا يقلّ أهميّة عن الجنديّ الحامل لسلاحه ويقاتل، فالمُصوّر الحربيّ مُقاتل بعدسته، لإبراز الانتصارات، ورفع المعنويّات للمقاتل المعزول عن حياته المدنيّة دفاعًا عن وطنه وأهله. 

   وتقنين صورة المراسل الحربيّ في نص إبداعيّ، تكريس لبهاء ونقاء وأهميّة هذه الصّورة في الأدب، كما انتقال (محمد الصمادي) يصول ويجول بين السّاحات الثقافيّة العديدة، كما هذا المُحارب يخوض المعارك في توثيق الوجوه بنظرة موضوعيّة ثاقبة، تستحقّ كلّ الاحترام والانتباه لهذا البنك الضّخم المُحتوي على أرشيف ضخم امتدّ بتغطيته على مدار سنوات عديدة، استهلكت حياته ووقته وجهده بلا كلل ولا مللٍ، عن طيب نفس وخاطر ورضا داخليّ. 

   لكنّي كأديب أنتهز هذه الفُرصة؛ لأتأسّف على سرقة أديبنا محمد الصّمادي من ساحة القصّة المُقلّ أدبيًا فيها، الكاميرا أخذته بعيدًا بعيدًا، لتظهر مواهبه في احترافيّته إلى عالم التصوير الضوئيّ، كهواية بدّدت الكثير من مواهبه وأفكاره في الكتابة، وهذا مما كان لا يتمنّاه أحدٌ من الأدباء المُخلصين لأدبهم بأن ينسرق من صفوفهم. 

   لكنّ في النّهاية فإن التّشكيل البصريّ، وتجسيم الصّورة للقطة مسروقة من عالم مضى، وأصبح في دوائر النّسيان، فإنّها تُعيده من جديد طازجًا بنكهة الماضي. (إنّه هو يرى)، أردّدُ عنوان هذا الكتاب الذي احتوى على مجمل من رأوا تجربة محمد الصّمادي، وقد كافؤوه بتوثيق مسيرته، كما وثّقهم، ولم تَطْوِهم سِجّلات النّسيان بتقادم الزّمان عليها، مثلما كذلك لن يُنسى أديبنا الجميل محمد الصّمادي بما كتبوا عنه، وشاركتهم في ذلك تقدمة إكبار وإجلال لجهوده الحثيثة التي طالتني بعضًا منها فيما سبق وقبل سنوات. 

إربد – الأردنّ

ــا 24\ 7\ 2020



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق