لخيمتكم....
أ. محمد موسى العويسات
من هنا و هناك نحن جميع... هناك ما يستحقّ الاعتذار... هناك ما يستحقّ العفو والصّفح الجميل... من كلّ الأنحاء جاءت الأخطاء والخطايا... حتى كادت أن تغيّر وجه الشّام، بل هناك ملامح طمست، هناك معالم دفنت... هناك من حاول أن يصنع تاريخا مختلفا... هناك الكثير ليقال... هناك ذاكرة يجب أن يحطّمها النّسيان. قبل هذا وذاك لا بدّ أن نعترف أنّ هناك عويلا وبكاء ودموعا وجراحا ما زالت تسكن الأرض والإنسان... هناك خيمة أخرى هي أقسى وأمرّ... هناك حبّ يُقتل كلّما أطلّ برأسه من هذا الرّكام، لا يراد له أن يتنسّم هواء الجبل والوادي والصحراء والشّاطئ، لا يراد له أن يمدّ يده ليتناوش قبسة من الضياء من ثنايا الضّباب... من أراد هذا بالشّام؟ من جعل من الشام قبائل وشعوبا وطوائف وإثنيّات، من زرع الحقول قنابل، من مدّ الأسلاك بين الدار والدار، وبين الجار والجار، وبين الأخ والأخ، من زيّف التاريخ، وقتل الماضي المسكون بالحبّ والحياة، من حرّف لغة اللقاء ليكون عقيما، سؤال يلحّ على البوح، لا تقتلوه بحجّة أن الجواب سياسة، بل استجمعوا كلّ شجاعتكم، وقولوا نحن ضحايا، كلّنا ضحايا، القاتل والمقتول، الحالّ والرّاحل، الغنيّ والفقير... كلّ منّا يكتم شيئا من الحقيقة، كلّ منّا يتّخذ من اللّيل والغفلة والجرح ستارا ليقول: لا، نحن خلقنا هكذا ليكون البقاء للأقوى، كلّ منّا ينتظر دورة للتاريخ ليكون هو الغالب وغيره المسحوق... إذن قد أخطأنا في الحسابات، أو هناك من صنع لنا حساباتنا من أجل حساباته... لم تكن أكثر من شام... لم تكن الشام أربعا ولا ثلاثا ولا اثنتين... كنت يوما في عمّان فوصف لي دواء من العسل... قال الطبيب هو في حوران، فقلت وكيف أصل حوران وأنا لا أملك جواز سفر؟ قال لي في استغراب: وما حاجتك لجواز السفر؟ فالوصول لأربد لا يحتاج جواز سفر. أدركت أنّ حوران مقسّمة، وهي أوسع من رسم على خريطة، وكان الأعجب ألا يكون المطلوب هناك، فقال لي العطّار: ذاك في الشّام. ألسنا في الشام؟ قال، وكان قد عرف أنّي من القدس، بلى، أيّها الشّامي، الشّام عندنا هي دمشق. تذكرت أنّني وقعت في المجاز، إذ يرسل المجاز ليطلق اسم الكلّ على الجزء، كما يطلق أهل فلسطين الجزء (عمّان) على الكلّ (الأردن).... تذكرت جدّي الذي ولد في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، وتوفّي قبيل نهاية العقد التاسع من القرن العشرين، كان لا يعرف لبنان إلا ببيروت... كان يروي حكايات ومغامرات في دمشق وبيروت وعمّان وكأنّه يتحدّث عن القدس... كان يحلّق بي في بلاد واحدة بلا حدود ولا اختلاف... فهذا شركسيّ في عمّان... وذاك أرمنيّ في بيت المقدس... وهناك طبيب سريانيّ في بيروت... وهناك تاجر من السويداء... وهناك قافلة من معان تجاوزت الشريعة تقصد الترابين في بئر السّبع... ومن القدس إلى يافا طريق برّيّ... ومن الميناء تبحر لتستجمّ في حيفا... ومن حيفا إلى بيروت حيث يسكن الجمال ويستكنّ الأمن والسلم... ومنها إلى دمشق، يا ولدي... وإلى الجولان ومنها جلبنا قطيع غنم... هذا القطيع من سلالته... ومن هناك يا جدّي من حلب شيخ اسمه القسّام... شدّ الرّحال مجاهدا... ليقول: العدوّ الأول هم هؤلاء الذين رسموا الحدود وجاءوا بالرّايات، وكانوا من قبل قد أشعلوا الفتن في الوهاد والجبال في القرى والمدن والبوادي... فكان شهيدا في مدينة جنين... ومات جدّي دون أن يعترف بحدود ولا بقسمة الطّوائف... وشرقي المدينة فيما يعرف ببادية القدس حيث عاش جدّي شاميّا... يندفع منها جبل شرقيّ في خطّ مستقيم... ليكون في جنوبه الوادي الذي يمتدّ من القدس ليصبّ شتاء في البحر الميت، وفي هذا الوادي في ملتقاه بالجبل هناك هزّت مريم عليها السلام جذع النخلة وجرى من تحتها سريّ، لتأكل وتشرب وتقرّ عينا... هناك تكلّم المسيح في مهده... ومن قمّة الجبل تطلّ على ذلك المكان في منحدره... ومن القمة عينها تطلّ على البحر الميّت تتبّعه جنوبا لتبلغ الكرك دون عناء، وتضطرك الكرك لتطالع قسيمتها الغربيّة مدينة الخليل... تدور غربا لتطالعك بيت لحم والقدس... لتعانق السور والمسرى... وتتقدّم شمالا لتجد منحدرات جبال رام الله الشّرقيّة تشير إليك أن أنظر في شمالك الشرقيّ... هناك جبال تختفي وراءها عمّان... وهناك السلط وعجلون لا تخفيان على عينين مجرّدتين... وشمالا حيث تجبهك هضبة من الضّباب فتحوجك إلى منظار... إنّها هضبة الجولان ... وذاك المنخفض حيث تجثم في جنوبه الغربيّ مدينة إربد عروس حوران... غريب شأنك أيّها البدويّ القرويّ المدنيّ، المقدسيّ الشّاميّ، أكلّ هذا من جبل المنطار الذي لا يبعد عن القدس سوى عشر كيلومترات؟... إذن جبل لبنان ليس بعيدا، ودمشق أدنى من الشّفة إلى اللّسان... اعذرني، فتلك الجغرافيا تأخذني، كما يأخذني التّاريخ، إلى حقيقة واحدة أنّ كلّ الفوارق بين النّاس في هذه البلاد الواحدة مزيّفة مصطنعة كما زُيّف التاريخ وزيّفت الجغرافيا... في ثنايا التاريخ والجغرافيا وفي قلوب النّاس شيء واحد هو العيش في أمن ومحبّة، والحرب والقتل وشهوة الانتقام عابرة مُجتثّة ما لها من قرار... عفوا، ما زالت السياسة تخالط كلّ شيء... والمؤامرة تسكن العقول... وإلا لأُخذ شعار: اكشفوا عنّا الضباب الآتي من وراء البحار الذي حجب الضّياء وأمطر الشّام بالكره والدّماء... نظرت من الجولان... فرسمت بالبصر دائرة... فوقع على زرقاء اليمامة تحلّق، لتقول: هناك جيش من الأمل والمستقبل الجميل يتقدّم... من حيث لا نحتسب لترمّم بوابة الحبّ في بصرى الشام... هناك غراب واحد... وهناك أسراب من حمام... كلّ هذا لتكون الخيمة غير الخيمة...
أ. محمد موسى العويسات
من هنا و هناك نحن جميع... هناك ما يستحقّ الاعتذار... هناك ما يستحقّ العفو والصّفح الجميل... من كلّ الأنحاء جاءت الأخطاء والخطايا... حتى كادت أن تغيّر وجه الشّام، بل هناك ملامح طمست، هناك معالم دفنت... هناك من حاول أن يصنع تاريخا مختلفا... هناك الكثير ليقال... هناك ذاكرة يجب أن يحطّمها النّسيان. قبل هذا وذاك لا بدّ أن نعترف أنّ هناك عويلا وبكاء ودموعا وجراحا ما زالت تسكن الأرض والإنسان... هناك خيمة أخرى هي أقسى وأمرّ... هناك حبّ يُقتل كلّما أطلّ برأسه من هذا الرّكام، لا يراد له أن يتنسّم هواء الجبل والوادي والصحراء والشّاطئ، لا يراد له أن يمدّ يده ليتناوش قبسة من الضياء من ثنايا الضّباب... من أراد هذا بالشّام؟ من جعل من الشام قبائل وشعوبا وطوائف وإثنيّات، من زرع الحقول قنابل، من مدّ الأسلاك بين الدار والدار، وبين الجار والجار، وبين الأخ والأخ، من زيّف التاريخ، وقتل الماضي المسكون بالحبّ والحياة، من حرّف لغة اللقاء ليكون عقيما، سؤال يلحّ على البوح، لا تقتلوه بحجّة أن الجواب سياسة، بل استجمعوا كلّ شجاعتكم، وقولوا نحن ضحايا، كلّنا ضحايا، القاتل والمقتول، الحالّ والرّاحل، الغنيّ والفقير... كلّ منّا يكتم شيئا من الحقيقة، كلّ منّا يتّخذ من اللّيل والغفلة والجرح ستارا ليقول: لا، نحن خلقنا هكذا ليكون البقاء للأقوى، كلّ منّا ينتظر دورة للتاريخ ليكون هو الغالب وغيره المسحوق... إذن قد أخطأنا في الحسابات، أو هناك من صنع لنا حساباتنا من أجل حساباته... لم تكن أكثر من شام... لم تكن الشام أربعا ولا ثلاثا ولا اثنتين... كنت يوما في عمّان فوصف لي دواء من العسل... قال الطبيب هو في حوران، فقلت وكيف أصل حوران وأنا لا أملك جواز سفر؟ قال لي في استغراب: وما حاجتك لجواز السفر؟ فالوصول لأربد لا يحتاج جواز سفر. أدركت أنّ حوران مقسّمة، وهي أوسع من رسم على خريطة، وكان الأعجب ألا يكون المطلوب هناك، فقال لي العطّار: ذاك في الشّام. ألسنا في الشام؟ قال، وكان قد عرف أنّي من القدس، بلى، أيّها الشّامي، الشّام عندنا هي دمشق. تذكرت أنّني وقعت في المجاز، إذ يرسل المجاز ليطلق اسم الكلّ على الجزء، كما يطلق أهل فلسطين الجزء (عمّان) على الكلّ (الأردن).... تذكرت جدّي الذي ولد في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، وتوفّي قبيل نهاية العقد التاسع من القرن العشرين، كان لا يعرف لبنان إلا ببيروت... كان يروي حكايات ومغامرات في دمشق وبيروت وعمّان وكأنّه يتحدّث عن القدس... كان يحلّق بي في بلاد واحدة بلا حدود ولا اختلاف... فهذا شركسيّ في عمّان... وذاك أرمنيّ في بيت المقدس... وهناك طبيب سريانيّ في بيروت... وهناك تاجر من السويداء... وهناك قافلة من معان تجاوزت الشريعة تقصد الترابين في بئر السّبع... ومن القدس إلى يافا طريق برّيّ... ومن الميناء تبحر لتستجمّ في حيفا... ومن حيفا إلى بيروت حيث يسكن الجمال ويستكنّ الأمن والسلم... ومنها إلى دمشق، يا ولدي... وإلى الجولان ومنها جلبنا قطيع غنم... هذا القطيع من سلالته... ومن هناك يا جدّي من حلب شيخ اسمه القسّام... شدّ الرّحال مجاهدا... ليقول: العدوّ الأول هم هؤلاء الذين رسموا الحدود وجاءوا بالرّايات، وكانوا من قبل قد أشعلوا الفتن في الوهاد والجبال في القرى والمدن والبوادي... فكان شهيدا في مدينة جنين... ومات جدّي دون أن يعترف بحدود ولا بقسمة الطّوائف... وشرقي المدينة فيما يعرف ببادية القدس حيث عاش جدّي شاميّا... يندفع منها جبل شرقيّ في خطّ مستقيم... ليكون في جنوبه الوادي الذي يمتدّ من القدس ليصبّ شتاء في البحر الميت، وفي هذا الوادي في ملتقاه بالجبل هناك هزّت مريم عليها السلام جذع النخلة وجرى من تحتها سريّ، لتأكل وتشرب وتقرّ عينا... هناك تكلّم المسيح في مهده... ومن قمّة الجبل تطلّ على ذلك المكان في منحدره... ومن القمة عينها تطلّ على البحر الميّت تتبّعه جنوبا لتبلغ الكرك دون عناء، وتضطرك الكرك لتطالع قسيمتها الغربيّة مدينة الخليل... تدور غربا لتطالعك بيت لحم والقدس... لتعانق السور والمسرى... وتتقدّم شمالا لتجد منحدرات جبال رام الله الشّرقيّة تشير إليك أن أنظر في شمالك الشرقيّ... هناك جبال تختفي وراءها عمّان... وهناك السلط وعجلون لا تخفيان على عينين مجرّدتين... وشمالا حيث تجبهك هضبة من الضّباب فتحوجك إلى منظار... إنّها هضبة الجولان ... وذاك المنخفض حيث تجثم في جنوبه الغربيّ مدينة إربد عروس حوران... غريب شأنك أيّها البدويّ القرويّ المدنيّ، المقدسيّ الشّاميّ، أكلّ هذا من جبل المنطار الذي لا يبعد عن القدس سوى عشر كيلومترات؟... إذن جبل لبنان ليس بعيدا، ودمشق أدنى من الشّفة إلى اللّسان... اعذرني، فتلك الجغرافيا تأخذني، كما يأخذني التّاريخ، إلى حقيقة واحدة أنّ كلّ الفوارق بين النّاس في هذه البلاد الواحدة مزيّفة مصطنعة كما زُيّف التاريخ وزيّفت الجغرافيا... في ثنايا التاريخ والجغرافيا وفي قلوب النّاس شيء واحد هو العيش في أمن ومحبّة، والحرب والقتل وشهوة الانتقام عابرة مُجتثّة ما لها من قرار... عفوا، ما زالت السياسة تخالط كلّ شيء... والمؤامرة تسكن العقول... وإلا لأُخذ شعار: اكشفوا عنّا الضباب الآتي من وراء البحار الذي حجب الضّياء وأمطر الشّام بالكره والدّماء... نظرت من الجولان... فرسمت بالبصر دائرة... فوقع على زرقاء اليمامة تحلّق، لتقول: هناك جيش من الأمل والمستقبل الجميل يتقدّم... من حيث لا نحتسب لترمّم بوابة الحبّ في بصرى الشام... هناك غراب واحد... وهناك أسراب من حمام... كلّ هذا لتكون الخيمة غير الخيمة...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق